من التاريخ

لينين الثوري

TT

رأيت في رحلتي لموسكو الكثير من عبق التاريخ، لكن التجربة الفريدة في حياتي والتي شعرت برغبة في نقلها للقارئ العزيز هي وأنا أمام جثمان الزعيم الروسي الثوري «فلاديمير إيليتش أوليانوف»، الشهير في العالم كله باسم «لينين»، هذا الرجل الذي ارتبطت به الموجة الثانية من الثورة الروسية في عام 1917، والتي أرست مبادئ الدولة الاشتراكية في روسيا، فقد كنت أمام جثمان تم تحنيطه، لكنه يكاد يكون حيا، فعندما تنظر له ستجد وجه الزعيم بعد تسعين عاما من مماته في حالة من التفكير وليس الثبات والراحة التي قد أتطلع إليها وأنا ميت، فنحن أمام حضرة الموت، فحواجبه تشعرك بأن العقل لا يزال يفكر، وعيناه تنفذ إلى وجدانك السياسي وتشعرك بأن الرجل سيخرج من مماته ليعطيك الأوامر السياسية لإنجاح الثورة، أما وجهه فيعكس قوة وبأسا شديدين تتناسبان وحياته التي أقل ما كانت توصف به أنها كانت عنيفة، فحتى وأنا أمام عظة الموت فإنني لا أجد إلا الشعور بأن ذكاء هذا الرجل يخترقني، وأن الإنسان أمامه الكثير ليتعلمه في عالم السياسة والثورات من هذا الرجل، وهو ما يجعل القلم يشعر بأنه أمام لحظة تُصَعِّبُ من مهمته المجردة لسرد التاريخ.

قد يصعب على الإنسان وهو ينظر لجثمان لينين أن يتخيله طفلا صغيرا وسط إخوته الأربعة، وأنه كان ينظر لأخيه الأكبر «ألكسندر» على أنه رمز الفكر والثقافة بعد أبيه، لكن الطفل «فالوديا» كما يحلو للروس كُنية كل من يسمى باسم «فلاديمير» واجه الصدمة الكبرى في حياته بعدما اتُهم أخوه على أيدي رجال الخدمة السرية للقيصر بانتمائه لتنظيم سياسي، ودفع الشاب حياته ثمنا لفكره، وهنا اندلعت الشرارة الثورية لدى لينين، وبدأ يرتبط اسمه بعد ذلك بالتيار الاشتراكي أو اليساري في مرحلة لاحقة، وهو ما جعله طريدا من بلاده خاصة بعدما اتبع توجها راديكاليا لتغيير النظام السياسي الروسي، وهو ما جعله في صدام مباشر مع أغلبية من القوى السياسية في بلاده أدت إلى نفيه داخل وخارج البلاد، لكنها الراديكالية الممزوجة بالعنف التي لازمته طوال حياته.

لقد كانت الظروف في روسيا وهي تحتضن القرن العشرين صعبة للغاية، فالدولة لم تكن لها قاعدة صناعية، والمزارعون لم يذوقوا التحرر والحرية إلا من عقود بسيطة للغاية، والفقر كان السمة الأساسية لهذه الدولة الكبيرة التي لم تكن الطبيعة كريمة معها من حيث المناخ على الرغم من هبة المولى لها بمواد أولية ومعادن وخيرات مختلفة، لكن الإدارة السياسية والاقتصادية للبلاد كانت في حالة يرثى لها، فآخر القياصرة «نيكولاس الثاني» لم يكن على قدر مسؤولية التطور والأحداث، فلم يسع خلال فترة حكمه لمحاولة رأب الصدع الاجتماعي في البلاد والذي تعرضنا له في مقالات الأسابيع الماضية، فبات يهدد الكيان السياسي للدولة، لكن مع ذلك ظل هناك عاملان يلعبان لصالح قيادته، الأول هو الشعور المحافظ الذي كان يسيطر على الروس بصفة عامة سواء دينيا أو سياسيا بفضل الكنيسة، والابتعاد الفكري النسبي لروسيا عن الأحداث الفكرية والسياسية في الدول الأوروبية، ومع ذلك فلم يستطع القيصر بضيق أفقه السياسي، وزوجته التي رفضت الاندماج في الثقافة الروسية وظلت قابضة على هويتها الألمانية من دون تزحزح، معالجة الجانب الاجتماعي.

إن الحرب الطبقية لم تكن قادرة وحدها حتى مع انتشار الفقر على دفع الملكية إلى حافة الهاوية في روسيا، ولكن هذا الخط في تقدير كثير من المؤرخين تم تخطيه بعد يوم «الأحد الدامي»، عندما تجمع آلاف الروس أمام القصر الملكي ينشدون ويغنون للقيصر ويرجون مساعدتهم في الإصلاح، وكان يقود المسيرة الأب «غابون»، ولا أحد يعرف بالضبط ماذا حدث، فقبل نهاية اليوم فتح الحرس الملكي النار على المتظاهرين ليخلفوا مئات القتلى وآلاف الجرحى، وهو ما ترك ندبة كبيرة في النفسية السياسية الروسية، سواء بين الثوريين أو بين الطبقات الوسطى والعمال والمزارعين على حد سواء.

ومنذ ذلك التاريخ بدأت التيارات الخفية تزرع بذور الثورة، التي زادت بسبب سوء الأحوال الاقتصادية والمعيشية للشعب، فضلا عن الإدارة السيئة للبلاد، والتي ازدادت سوءا بانضمام روسيا إلى الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا، فترك القيصر إدارة البلاد لزوجته الألمانية وتوجه لقيادة الجيش في مواجهة الألمان، وهو ما فجر حالة من التشكك والغضب نحو المؤسسة الملكية ككل. يضاف إلى ذلك أن الأداء الروسي في الحرب العالمية كان مشينا، فالجيش الروسي هُزم في كل معاركه تقريبا، خاصة معركة «تاننبرغ» التي شهدت إبادة شبه كاملة للجيش الروسي أمام عبقرية الآلة العسكرية الألمانية، وقد تجمعت كل هذه الظروف في فبراير (شباط) 1917، وهو ما دفع القوى المختلفة للانفجار من خلال اندلاع المظاهرات في «سان بطرسبورغ» لأسباب مختلفة، وقد انضم الحرس الإمبراطوري هذه المرة إلى الشعب، وهو ما دفع القيصر الروسي إلى التنازل عن العرش، فأعلن «الدوما» أو البرلمان وقوفه إلى جانب الشعب من خلال تعيين حكومة انتقالية قادها رجل محنك يتمتع بكاريزما ملحوظة اسمه «ألكسندر كارينسكي»، والذي أعلن مباشرة موعدا لانتخاب جمعية وطنية أو برلمان يتولى مقاليد البلاد على غرار الدول البرلمانية الملكية، كما أنه بدأ يعمل على جمع القوى الثورية لصالح حكومته استعدادا للاستحقاق المتوقع في المرحلة التالية.

المستغرب له خلال هذه الفترة أن التيار الاشتراكي كان غائبا بشكل كبير عن الساحة السياسية الروسية، كما أنه انقسم على نفسه لأسباب آيديولوجية وتطبيقية مرتبطة بمدى القدرة على المناورة والتساهل في المبادئ الاشتراكية التي وضعها المفكر الشيوعي كارل ماركس، وهو ما أثر على وجودها المباشر، بل إن لينين ورجاله الراديكاليين كانوا خارج البلاد عندما اندلعت الثورة فيها، فهو كان في المنفى مع زوجته في سويسرا، وقد آثر الألمان إعادته مباشرة إلى روسيا حتى يكون شوكة في خصر أي حكومة ويخرج بلاده من الحرب العالمية ويساعدهم على تأمين الجبهة الشرقية لألمانيا حتى تتفرغ للحرب مع فرنسا في الغرب، وهو ما فعله الرجل بعد توليه مقاليد البلاد وفق اتفاقية برست ليتوفسك المشينة التي سمحت لألمانيا بالاستيلاء على ممتلكاتها في شرق أوروبا، لكن هذه الاتفاقية كانت بالنسبة للينين تحركا تكتيكيا لحين بسط سيطرته على الدولة ثم استعادتها في إطار مبدأ تصدير الثورة لديه.

وقد وصل «لينين» بعد أسابيع من اندلاع ثورة فبراير، وبدأ يضع خطته للاستيلاء على الحكم في البلاد ومواجهة كارينسكي ورجاله في مغامرة سياسية وتاريخية لعبت فيها الحنكة السياسية والأقدار والتخطيط متناهي الدقة الدور المهم بشكل لا أعتقد أن التاريخ شاهد مثله أو سيشهد مثله، فثورة الشعب الروسي تم اختطافها من قبل أضعف الفئات المشاركة فيها لصالح عقيدة يسارية غير ذات جذور على الخريطة الآيديولوجية الروسية، وذلك بفضل عبقرية السياسي «لينين»، فالثورات لا تنجح بقوة الدفع الشعبي، فهذا فقط لإسقاط النظم التي تقوم عليها، لكنها تنجح بفضل عبقرية وحنكة من يستطيع قيادة مرحلة ما بعد الثورة وليس من خلال مجموعة من المتسلقين والأقزام السياسيين الباحثين عن أدوار كما سنرى.