من التاريخ: التاريخ بين النصب السياسي والأزياء

د. محمد عبد الستار البدري

TT

أُدرك اليوم ونحن نقترب من نهاية عام ميلادي ومولد عام جديد أننا تناولنا التاريخ على مدار السنوات الماضية بوصفه مصدرا للإلهام أو العظة أو التجربة، وقليلا ما سعينا للنظر لهذا التاريخ الإنساني على أنه قد يكون مصدرا للترفيه الإنساني؛ أَوَليس التاريخ انعكاسا لتجارب البشر، التي منها الطريف والترفيهي أيضا؟ فالإنسان هو الإنسان بكل ما له وما عليه، ولا يتغير عبر الزمن، وقد رأيت أن أخصص اليوم مقالا مختلفا بعض الشيء، فنغوص في بعض الحقائق الخفيفة على القلب لتعيد إلينا ابتسامة ولو خافتة ونحن على أعتاب العام الجديد، خاصة أن المواطن العربي من المحيط للخليج يحتاج لهذه الاستراحة الفكرية بعد إصابة وجدانه السياسي ببعض القرح.. ومن هنا نبرز هذه الحقائق الثلاث:

أولا: إن قاعدة النصب والاحتيال ليست مقصورة على طبقة بعينها، فالنصب صنعة قد يقوم بها الشخص حتى مع الملوك والرؤساء والذين يقعون ضحية لها حتى من أقرب الناس إليهم، ولكنني أعتقد أن أعظم عمليات الاحتيال السياسي على القيادة هي المحفورة باسم «غريغوري بوتيمكين Potemkin رئيس وزراء «كاترينا الكبرى» إمبراطورة روسيا، فبعدما استولت روسيا على ممتلكات واسعة من الدولة العثمانية، سعى الرجل لإقناع الإمبراطورة بنجاح سياسته الاستعمارية والهادفة لاستعمار هذه الأراضي، فما كان منه إلا أن دعا الإمبراطورة لرحلة نهرية لتشاهد بنفسها من المركب عملية الاستيطان، وكانت حيلته مكونة من مجموعة من القرى المتحركة التي كانت تحتل المناطق التي تمر من أمامها سفينة الإمبراطورة، حيث يقوم المواطنون الروس بالتلويح للإمبراطورة وإطلاق صيحات السعادة والحب والترحيب لها، وفي المساء يجري فك القرى سريعا ونقلها إلى المناطق التي من المقرر أن تمر أمامها السفينة في اليوم التالي، وهكذا تقتنع الإمبراطورة بأن الأرض قد عُمرت، وأن الناس يدعون لها ويهللون لها بالرخاء والسعادة، وهم في حقيقة الأمر ليسوا إلا مأجورين من قبل رئيس الوزراء. وقد كان السفراء الأجانب يبدون إعجابهم الشديد بعظمة بوتيمكين الذي استطاع أن يضع سياسة استعمارية واستيطانية ناجحة كل هذا النجاح، مما جعل الناس تطلق على من يسعون لخديعة القيادة السياسة، مصطلح «مدن بوتيمكين» أو «سرابات بوتيمكين». وعلى ما يبدو، فإن «كاترينا الكبرى» كانت تتشكك في أكاذيب رئيس وزرائها في الصباح، ولكنها تنساها وهي في أحضانه في المساء، فلقد كان الرجل عشيقها، وهو ما سمح له بأن يمر بهذه الخديعة بلا مساءلة.

ثانيا: وبعيدا عن السياسة، فإنه ما من شك في أن الفرنسيين كانوا مصدرا للإلهام الثقافي، ولو سألت عن مصدر هذا الثراء لأرجعه كثير من الفرنسيين إلى أن لديهم مجموعة من الفلاسفة والمفكرين والأدباء أكثر من أي دولة أخرى، ولكن كثيرين منا ينسون أن فرنسا تقود العالم في صناعة الأزياء، وهذا ليس بجديد، بل يمكن إرجاع ذلك إلى عهد الملك لويس الرابع عشر أعظم ملوك فرنسا وأكثرهم هيلمانا، مما جعل فرنسا منارة الأزياء، ولكن هذا ليس بالضرورة صحيحا في كل المناسبات، فنحن جميعا نلبس رابطة العنق والاسم الدارج لها هو «كرافتة»، ويعتقد أغلبنا أنها بدعة فرنسية، ولكن بعض المصادر التاريخية تشير إلى غير ذلك، فهي بدعة كرواتية الأصل دخلت البلاط الملكي في عهد لويس الرابع عشر من خلال أحد التجار الكروات المتعاملين مع القصر، ويقال إن الملك عندما رأي الرابطة أعجبته فاستفسر عنها وبدأ يرتديها، فتبعته في ذلك كل الحاشية والأرستقراطيين، فأصبحت بعد ذلك جزءا من اللبس المتحضر، وحقيقة الأمر أنها لم تكن على شكلها الحالي، بل كانت تغطي أغلبية القفص الصدري من خلال كرانيش مختلفة، لأن الجاكيت كان مفتوحا وليس مغلقا مثل اليوم.

وعلى أي حال، فإن هذه البدعة سرعان ما بدأت تتطور تحت اسم «الكرافاتة» اشتقاقا من كلمة «كرواتيا»، مما جعل أحد المؤرخين يداعبنا فيؤكد أنها «الوسيلة التي من خلالها تقوم دولة صغيرة مثل كرواتيا بوضعنا جميعا في أغلال الأعناق»، ولكننا يجب أن نشكر الإخوة الفرنسيين لتطويرها من شكلها البدائي، وإلا صرنا اليوم مرتدين ما يشبه مفارش السفرة المصغرة ذات الكرانيش.

ثالثا: كثيرا ما يعاني شخص من اسمه، فالاسم ليس خيارا لنا، وتسمية الذرية كانت ضمن أمور كثيرة شغلت المجتمعات المختلفة، ولكن الرأي استقر اليوم على أن ينسب الإنسان لأبيه ومن بعده لجده أو للقب الأسرة الذي إما يأتي كناية عن مدينة أو وظيفة.. إلخ، ولكن بعض الدول تضع اسما إضافيا تعطفه على اللقب أو الجد، وهو أمر شائع تاريخيا في إسبانيا، وجرى نقله من خلال الاحتلال إلى كثير من الدول اللاتينية، وهو لقب الأم ليكتمل النسب عندهم.

وأيا كانت الرؤيا، فإن أغرب أنظمة التسمية على الإطلاق كانت في تقديري للنظام الروماني، فهناك 12 اسما يجري الاختيار منها مثل «جايوس» أو «تايتوس» أو «ماركوس».. إلخ، ونظرا لأنها 12 اسما فقط، فإنه يجري اختصار كل واحد فيها بالحرف الأول ليوضع قبل الكلمة فيعرف الجميع الاسم المقصود، أما الاسم الثاني فكان نسبة إلى العشيرة التي ينتمي إليها، والاسم الأخير كان اسم الأسرة ذاتها، فمثلا «يوليوس قيصر» كان اسمه «جايوس» من عشيرة «يوليي» والاسم الأخير لأسرة قيصر، وفي حالة تشابه الأسماء مثلا، يجري وضع تعريف في نهاية كل اسم يميز صاحبه، مثل «الكبير» أو «الصغير» أو «الأفريقي». أما النساء الرومانيات، فنظرا لوضعيتهن الاجتماعية المتدنية نسبيا عند الرومان، فإنهن كنّ يُنسبن لآبائهن من خلال تأنيث لقبها، فيصبح اسم ابنة ماركوس أنطونيوس على سبيل المثال «أنطونيا»، وفي حالته خصيصا، فإن ابنتيه سميتا بالاسم نفسه أيضا دون تمييز بين الكبرى أو الصغرى.

والاختلاف الاسمي جاء أيضا في دول الشرق الأوروبي حيث كانت عملية النسب للأب أو الزوج توضع من خلال تأنيث نهاية اللقب فيعود على المرأة أو الزوجة.

واستنادا إلى الحقائق الثلاث الماضية، يبدو أن الحكم الأساسية التي يجب أن نأخذها منها هي:

الخدعة السياسية يجب ألا تكون مبنية على أكذوبة كبيرة مثل نقل قرى بأكملها كالتي ابتدعها بوتيمكين. كما أننا يجب أن نحمد المولى لمفهوم ارتقاء الأذواق، وإلا كنا جميعا مضطرين للبس ما يشبه المفرش الصغير بدلا من رابطة عنق صغيرة. وأخيرا نحمد الله أن الجيوش العربية قهرت الدولة الرومانية وإلا كانت أسماؤنا اليوم أقل ما توصف به أنها سريالية.. وعام سعيد عليكم جميعا.