الأنبار.. «المواجهة الحتمية»

ترقد على فوهة بركان وسط انقسام العشائر.. وأحلام «القاعدة»

TT

الحرب التي تدور رحاها في محافظة الأنبار (كبرى محافظات العراق مساحة والمحاددة لثلاث دول هي سوريا والأردن والسعودية) تبدو خليطا غير متجانس من مجموعة تناقضات ترتبط بعضها مع بعض بخيط رفيع، لكنه وثيق الصلة بكل ما في العراق اليوم من تناقضات سياسية واجتماعية وعشائرية.

ففي العراق، كل شيء مختلف عليه اليوم، بما في ذلك الحرب على الإرهاب، التي تتلخص الآن في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).

لكن، سرعان ما انفجر برميل البارود الذي بقي مؤجلا لفترة من الوقت، في منطقة كانت – ولا تزال - ملتهبة بسبب تداخل الخنادق فيها وتصارع الجبهات حتى بدا أن المواجهة لا بد أن تكون حتمية.

الحرب التي كانت مؤجلة ضد من يوصفون بالمتطرفين ممن ترى الحكومة العراقية أنهم اختطفوا ساحات الاعتصام بعد فترة وجيزة من انطلاق المظاهرات - بدا توقيتها الآن غير مناسب للجميع؛ لا الحكومة تبدو مهيأة لخوض حرب، لم يعد أمام رئيس الوزراء نوري المالكي سوى المضي فيها إلى نهايتها، طبقا لما قاله هو بعد كشفه أن المتطرفين من تنظيمات «داعش» و«القاعدة» كانوا ينوون إقامة ولاية إسلامية في الأنبار، ولا المتطرفون مهيأون لها بالطريقة التي تجري بها حاليا، ولا حتى القوى والكتل السياسية لا سيما تلك التي تستعد لخوض الانتخابات البرلمانية في شهر أبريل (نيسان) المقبل، في محاولة منها لتغيير الخارطة السياسية بالبلاد. والمعنى الرمزي لتغيير الخارطة السياسية في العراق يتمثل في محاولة حصد أكبر كمية من الأصوات ومن ثم المقاعد في البرلمان القادم، ليس فقط للقوى التي تراهن على أبناء تلك المنطقة (المقصود هنا ليس الأنبار فقط، وإنما المحافظات الأربع السنية؛ وهي صلاد الدين وديالى وكركوك ونينوى)، بل حتى بالنسبة لبعض القوى والكتل الأخرى من خارج المنطقة التي تتمنى تشكيل أغلبية سياسية قادرة على تغيير التركيبة الحالية للحكومة، القائمة على أساس المحاصصة العرقية والطائفية. وتبدو الولاية الثالثة للمالكي هي القاسم المشترك الأعظم لجميع اهتمامات هذه القوى. ومن هنا، بدأ الخيط الذي حاول المالكي إمساكه، بعمليات «وادي حوران» في صحراء الأنبار، يفلت من يديه بعد أن نقل المعركة في وقت بدا غير مناسب، ليس له هذه المرة، بل للجميع، إلى داخل مدينة الرمادي حينما فض خيم الاعتصام بعد مرور سنة من قيامها واعتقال النائب السني البارز وأحد قادة الحراك الشعبي أحمد العلواني.

ومع أن الحرب المؤجلة سبق للنائب المنسحب من «دولة القانون» عزة الشابندر وأحد أبرز مفاوضي المالكي مع العرب السنة وقادة الحراك الشعبي أن أخبر «الشرق الأوسط» بأنها «باتت حتمية مع متطرفي ساحة الأنبار، لا سيما بعد أن بدا أن هناك خطوطا عريضة من التفاهم بدأت تنسج بين المالكي والمعتدلين من قادة الساحة من أصحاب المطالب». الشابندر يشير بذلك إلى «سلسلة الاتصالات التي كانت قد أجريت مع وفود من محافظة الأنبار بقيادة محافظها أحمد الذيابي ومجلس المحافظة، ولقاءاتهم مع المالكي، وقسم منها جرى بحضوري، بالإضافة إلى أكثر من لقاء مع الشيخ أحمد أبو ريشة».

وأبو ريشة قصة بحد ذاته في هذه الحرب والمواجهات. فالرجل كان أحد قادة الحراك في ساحة الرمادي، حاله في ذلك حال وزير المالية المستقيل رافع العيساوي، الذي فشلت مفاوضات الشابندر معه نيابة عن المالكي. وهذه قصة سبق أن رواها لـ«الشرق الأوسط» عزة الشابندر نفسه عندما نفى المالكي في بيانين له أن يكون قد أرسل الشابندر مفاوضا مع العيساوي، باعتبار أن الأخير مطلوب للنزاهة والقضاء. ترتب على ذلك بقاء الأوضاع على ما هي عليه هناك مؤقتا، بينما أعلن الشابندر انسحابه من ائتلاف المالكي ليشكل كتلة مستقلة يخوض من خلالها الانتخابات المقبلة.

* شاكر وهيب أم واثق البطاط؟

* لكن، سرعان ما انفجر برميل البارود الذي بقي مؤجلا لفترة من الوقت، في منطقة كانت – ولا تزال - ملتهبة بسبب تداخل الخنادق فيها وتصارع الجبهات حتى بدا أن المواجهة لا بد أن تكون حتمية. في صحراء الأنبار، بدأت القوات العراقية حملة لمطاردة «داعش» هناك على خلفية تداعيات الأحداث في سوريا. غير أن عملية «الوكر المفخخ» التي أودت بحياة قائد الفرقة السابعة في الجيش العراقي، اللواء الركن محمد الكروي، قلبت الموازين تماما. فالمالكي أطلق على أثر ذلك عملية عسكرية سماها «عمليات ثأر القائد محمد» وزج فيها بقوات كبيرة بهدف مقاتلة «داعش» وتنظيم القاعدة ثأرا لهذا القائد. ولأن كل شيء قابل للاستثمار سياسيا في العراق، فإن القوى والكتل السياسية العراقية المختلفة، سواء في الوسط الشيعي أو السني، بدا لها أن ما سوف يحققه المالكي من انتصارات في حربه على الإرهاب يمكن أن يوظفه لصالحه انتخابيا. وبدت هذه المخاوف مبررة للوهلة الأولى، رغم أن الجميع أيدوا هذه العمليات، خصوصا أن بعضها ارتبط بحدثين ذوي دلالة، وهما: الإعلان عن مقتل القيادي البارز في تنظيم القاعدة شاكر وهيب في عملية بالأنبار، واعتقال قائد ميليشيا «جيش المختار» واثق البطاط في بغداد. كتلة «متحدون» التي يتزعمها رئيس البرلمان أسامة النجيفي، وهي كبرى الكتل السنية التي تبدو في حالة خصومة دائمة مع المالكي، أعلنت وعلى لسان القيادي فيها وعضو لجنة الأمن والدفاع البرلمانية، مظهر الجنابي، تأييدها خطوات المالكي هذه. ففي حديث له لـ«الشرق الأوسط»، قال الجنابي إن «المادة التاسعة من الدستور العراقي واضحة في هذا المجال، حيث إنها تدعو إلى ملاحقة الميليشيات وتصفيتها، ومن ثمب فإن اعتقال البطاط خطوة جيدة وفي الطريق الصحيح باتجاه أن يكون السلاح كله بيد الدولة». وعد الجنابي «تطبيق القانون يجب أن يشمل الجميع، وأن رئيس الوزراء يحمل أمانة سياسية وشرعية حين يتصرف بعدالة». والقصة بين شاكر وهيب وواثق البطاط فيها الكثير من الالتباس. وهيب كان ظهر في منصة اعتصام الرمادي ذات مرة بتسجيل فيديوي وهو يقول: «احنه تنظيم أسمنه القاعدة.. نقطع الراس ونقيم الحدود» وقد مثل ذلك استفزازا للشيعة، حتى إن الكثير من القنوات الفضائية الشيعية كانت تبرز بين فترة وأخرى ذلك المقطع بوصفه التعبير الرمزي لما تعبر عنه ساحات الاعتصام. أما البطاط، فإنه مثل في الكثير من تصريحاته استفزازا للسنة، رغم أن وزارة الداخلية وعلى لسان الناطق الرسمي باسمها العميد سعد معن وفي تصريح لـ«الشرق الأوسط» يصفه بأنه «ظاهرة صوتية ولا وزن له على الإطلاق». معن يضيف أن «الحكومة ماضية في تطبيق القانون ومحاربة الميليشيات وحصر السلاح في يد الدولة».

* فرق عشائريا.. تسد

* عندما اندلعت المظاهرات في مدينة الرمادي أواخر عام 2012 على خلفية اعتقال عدد من أفراد حماية وزير المالية المستقيل والقيادي البارز في «القائمة العراقية» رافع العيساوي، بدا كأنها القشة التي قصمت ظهر العلاقة بين الحكومة وقطاع واسع من أهالي المحافظات الغربية الخمس (الأنبار، صلاح الدين، ديالى، كركوك، نينوى)، بالإضافة إلى الأحياء ذات الغالبية السنية من العاصمة بغداد. فالمظاهرات سرعان ما امتدت إلى كل هذه المحافظات، رفع خلالها المتظاهرون مطالب تتكون من 14 مطلبا، اعترفت الحكومة بقسم منها، بينما بدا القسم الآخر من اختصاص البرلمان، في حين بدا قسم آخر منها غير مشروع من وجهة نظر الحكومة.

وبينما لم تحصل مفاوضات مباشرة بين الحكومة والمتظاهرين، فقد تحولت المظاهرات إلى اعتصامات مفتوحة. وبعد شهور من استمرارها، أعلنت الحكومة، وعلى لسان الكثير من كبار المسؤولين فيها وفي مقدمتهم رئيس الوزراء نوري المالكي، أن ساحات الاعتصام قد جرى اختطافها من قبل المتطرفين. والمقصود بالمتطرفين تنظيم القاعدة حصرا. في هذه الأثناء، حصل انقسام سياسي ومجتمعي وحتى عشائري إلى حد كبير. فالحكومة بدأت تعمل على فرز من يقف إلى جانبها وعزل من يقف ضدها. وبينما أعلن القيادي بـ«القائمة العراقية» ووزير المالية رافع العيساوي استقالته من منصبه، فإن نوابا آخرين من «القائمة العراقية»، وفي مقدمتهم النائب أحمد العلواني، انضموا إلى الحراك الشعبي. كما انضم إلى الحراك الشعبي قائد صحوة الأنبار السابق أحمد أبو ريشة، الأمر الذي أدى بالمالكي إلى الاستعانة بقادة عشائريين آخرين في الأنبار والفلوجة لإنشاء صحوات جديدة بقيادة وسام الحردان الذي كان حليفا لأبو ريشة. كما جرت الاستعانة برئيس مجلس إنقاذ الأنبار حميد الهايس وشقيقه محمد الهايس لتأسيس ما سمي «أبناء العراق»، وكلا الفصيلين بدا كأنهما بديلان لصحوات أبو ريشة. بدت العملية كأنها نوع من سياسة «فرق تسد»، لكن على نطاق عشائري هذه المرة. الحكومة، وفي إطار موقفها من ساحة الاعتصام، بدأت تعتمد على المعلومات التي تصل إليها من جماعة «أبناء العراق» بقيادة آل الهايس. حميد الهايس، وفي حديثه لـ«الشرق الأوسط»، يقول إن «ساحة الاعتصام التي يحاول بعض السياسيين، لا سيما من كتلة (متحدون)، رفع أسهمهم من خلالها، هم متواطئون مع من في الساحة، التي هي أصلا تدار من قبل تنظيمي (القاعدة) و(داعش)». ويضيف الهايس أن «قيادات (القاعدة) تخطط من داخل الساحة، وأن الناس الحقيقيين أصحاب المطالب خرجوا منها بعد أن لبت الحكومة مطالبهم»، مؤكدا أن «(أبناء العراق) ينسقون مع القوات الأمنية في مطاردة عناصر تنظيم القاعدة في المعركة الحالية التي سوف تحسم لصالح العراق بطرد (داعش) والمتعاونين معها». مع ذلك، فإن الحكومة ورغم اعتمادها على الصحوات الجديدة، فإنها عادت للتحالف من جديد مع زعيم الصحوات القديم أحمد أبو ريشة الذي ينتمي، مع محافظ الأنبار أحمد الذيابي، إلى كتلة «متحدون» التي يتزعمها أسامة النجيفي. غير أن الخلافات تبدو واسعة بين الطرفين حتى لو بدت غير منظورة. فما يفعله المحافظ بالتنسيق مع الحكومة كما أن لقاءات أبو ريشة مع المالكي هي الأخرى تثير شكوك جماعته حتى في الحراك الشعبي. الناطق الرسمي باسم كتلة «متحدون» ظافر العاني، أبلغ «الشرق الأوسط» أن «الأنبار عاشت محنة كبيرة بعد الاعتداء غير القانوني الذي قامت به قوات المالكي على منزل النائب أحمد العلواني في الرمادي واعتقاله، ودخول قوات عسكرية كبيرة إلى المدن»، مشيرا إلى أن ذلك أحدث «اضطرابا أمنيا كبيرا إثر الاستفزازات التي قامت بها ضد الأهالي، مما أفسح المجال لمجاميع (داعش) الإرهابية أن تنتعش وتسيطر على عدد من مراكز الشرطة والمؤسسات الحكومية بعد انسحاب الجيش الذي دخل وخرج من المدن».

* تصفير الحلول

* ما الحل؟ هل هو عسكري أم سياسي أم مجتمعي؟ المعلومات الأمنية تقول إن الجيش يستعد لمعركة فاصلة مع الإرهابيين في الأنبار. في غضون ذلك وطبقا لمعلومات أخرى، فإن بعض الأحياء السكنية في مدينة الفلوجة تتعرض لقصف من قبل الجيش. يضاف إلى ذلك حركة نزوح سكاني، فضلا عن وجود مخاوف من إمكانية حصول كارثة إنسانية. المحصلة، إن القادة السياسيين العراقيين، وبدلا من أن يلجأوا إلى سياسة تصفير المشاكل، فإنهم وصلوا إلى مرحلة «تصفير الحلول»، حيث لا تبدو ثمة حلول حقيقية في الأفق، لأن الأزمة متداخلة سياسيا ومجتمعيا. وفي هذا السياق، يرى عضو البرلمان العراقي عن كتلة «التحالف الكردستاني» وعضو لجنة الأمن والدفاع البرلمانية شوان محمد طه، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن «المشهد السياسي بلغ مرحلة حرجة من الإرباك والارتباك، حتى ليبدو الوضع السياسي يسير باتجاه غير صحيح لا رجعة فيه، كأن هناك تخطيطا مسبقا لذلك، حيث لا يوجد للأسف اتفاق على أي شيء». وعبر طه عن أسفه قائلا: «إننا وصلنا إلى هذه النتيجة التي تبدو مأساوية، بل وحتى مخجلة». وأضاف طه أن «المشكلة التي نعانيها، أن السياسيين من كل الأطراف يعملون للحفاظ على مستقبلهم وليس مستقبل الشعب العراقي، حيث إنهم لم يعودوا قادرين على فعل أي شيء». ودعا طه إلى أن «الحل يكمن الآن في مساعدة (القائمة العراقية)، وبالذات كتلة (متحدون) التي لها حضور في المناطق الغربية من البلاد، وذلك لجهة أن انفلات الأمور هناك يأتي بالمتطرفين إلى البرلمان وإلى الحياة السياسية، بينما المفروض أن تعمل كل الكتل السياسية على إتاحة الفرصة لـ(العراقية) لأن تأخذ دورها هناك لكي لا تنجرف الأمور إلى ما لا تحمد عقباه». ودعا طه كلا من «التحالف الوطني» وكتلة «التحالف الكردستاني» إلى «مساعدة (متحدون) و(العراقية) في المناطق الغربية لمعالجة الأمر بالاتفاق معها لأن انفلات الأمور يعني أن البديل الذي سيأتي هو اليمين المتطرف، ومن هنا تضيع العملية السياسية برمتها، ولذا فإنه أصبح لزاما على الجميع الآن إنقاذ المشروع السياسي العراقي الذي يسعى المتطرفون إلى اختطافه مستفيدين مما نعانيه من أزمات ومشاكل بين الفرقاء السياسيين».

* تسلسل أحداث

* في الوقت الذي كان فيه معتصمو الأنبار يحتفلون بمرور الذكرى الأولى لبدء اعتصامهم المفتوح، أعلن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن ساحات الاعتصام أصبحت «ساحة للفتنة».

* منح المالكي المعتصمين أسبوعا لرفع الخيم من الساحة، التي أطلق عليها قادة الحراك الشعبي تسمية ساحة «العزة والكرامة» والتي تؤدى فيها صلاة الجمعة حيث يحضرها مئات الآلاف.

* لم يكد ينتهي الأسبوع حتى قامت قوات عراقية باعتقال أحد أبرز قادة الحراك الشعبي النائب أحمد العلواني.

* قامت قوات من الشرطة العراقية بالتزامن باقتحام الساحة وبدأت برفع الخيم والبحث عن 36 من أبرز قادة تنظيم القاعدة الذين قيل إنهم كانوا يعتصمون بالساحة، حيث يقومون بتفخيخ السيارات وإرسالها إلى مختلف المدن والمحافظات، وفي المقدمة منها بغداد للتفجر في الأسواق والدوائر والشوارع.

* لم تنته عملية رفع الخيم بسلام، بل كانت بمثابة فتح برميل بارود، حيث عمت الفوضى في أهم مدينتين من مدن الأنبار، وهما الرمادي والفلوجة.

* الأخيرة سيطر عليها مسلحو «داعش» بعد أن أعلنت القوات العسكرية العراقية أنها بدأت عملية مطاردتهم في صحراء الأنبار في إطار عملية «ثأر القائد محمد».

* اختلطت الأوضاع العسكرية والعشائرية والأمنية بشكل لافت. وبتاريخ التاسع والعشرين من ديسمبر (كانون الأول)، قدم نحو 44 نائبا عن كتلة «متحدون» التي يتزعمها أسامة النجيفي استقالاتهم من مجلس النواب ووضعوها بيد رئيس المجلس، بينما أعلن النجيفي انسحابه من وثيقة الشرف التي جرى إقرارها قبل أشهر، متهما المالكي بـ«عدم احترامها»، وأنه سيعمل مع الجهات المحلية والدولية لسحب الجيش العراقي من المدن.