من التاريخ: المسيحية وأوروبا.. عصر الانتشار

كاتدرائية نوتردام في باريس
TT

لقد كنت أنوى أن أبدأ العام بسلسلة من المقالات حول الحروب الصليبية التي تعرضت لها مصر والشام بدءا من القرن الحادي عشر، وهي الحروب التي نراها اليوم على أنها «حروب حضارية» أو «ملاحم دينية» بين الإسلام والمسيحية، وهو التوصيف الذي قد أتحفظ عليه لعدم دقته أو لأنه فاقد الشمولية لأسباب تتعلق أساسا بالدور الذي لعبته المسيحية في القارة الأوروبية روحيا وسياسيا على حد سواء.. بالتالي وجدتني غير قادر على الخوض في غمار الحروب الصليبية إلا بعد الخوض في المسيحية ودورها السياسي والثقافي في القارة الأوروبية الذي أدي إلى تشكيلها لب الهوية الأساسية للغرب الحضاري، وذلك حتى يمكن إدراك ليس فقط ماضي الحروب الصليبية، ولكن واقع أوروبا اليوم، وبما يساعدنا أيضا على ربط بوصلة التاريخ بالحاضر.

حقيقة الأمر أنني استمعت لإحدى خطب البابا يوحنا بولس الثاني في منتصف التسعينات التي تناول فيها مفهوم الثقافة الأوروبية، وأذكر كلماته التي ترن في أذني إلى يومنا هذا عندما قال إن أوروبا بنيت على النسيج الثقافي للمسيحية. وقد ظللت مدة طويلة أتأمل هذه المقولة الشاملة كلما جاءت لي الفرصة لأتجول في أروقة التاريخ أو الحاضر الأوروبي، فهذه المقولة تحتضن كثيرا من جذور الحقيقة، فالناظر إلى أوروبا، لن يخفى عليه وجوده أمام معضلة فكرية/ سياسية بين نسيج ثقافي مسيحي تسنده حقيقة أساسية وهي أن المسيحية كانت ركن القاعدة الثقافية الأوروبية وفى مناسبات محددة الركن الوحيد للهوية الأوروبية، خاصة عندما سعت الكنيسة الكاثوليكية لبسط نفوذها الثقافي ومن ثم السياسي على الغرب الأوروبي، فالأممية المسيحية أو مفهوم «Christendom» هو الذي لعب الدور الأساسي في أوروبا في إرث الدولة الرومانية بعد سقوطها بثلاثة قرون ونصف القرن، وهو الحلم الذي استمر يداعب الكنيسة الكاثوليكية بمؤسساتها ورعاياها والقوى السياسية التي كانت موجودة على الساحة، ومن هنا تأتي أهمية المسيحية لفهم الدور السياسي للتاريخ الأوروبي على مدار قرون ممتدة.

لقد كانت المسيحية ظاهرة شرقية في الأساس، فالسيد المسيح وفقا لكل المعايير شرقي اللغة والمولد والهوية والثقافة، فلقد ولد عليه السلام في فلسطين وتحدث باللغة الآرامية وليس اللاتينية أو اليونانية اللتين مثلتا لغة السياسة والعلم في الدولة الرومانية، ولعل هذا ما يبرر ظواهر غريبة وهي اختفاء سيرته عليه السلام من كتب التاريخ، فالسيد المسيح ومولد المسيحية لم يُذكر في أي كتاب تاريخي أو مرجع روماني أو غير روماني معاصر أو بعد ذلك بقرون قليلة، وقد يفسر ذلك بأنه كان يُنظر للمسيحية على أنها ظاهرة محلية للغاية لا تخلو من ظواهر دينية متكررة في كثير من ولايات الدولة الرومانية، التي لم تكن روما تأبه لها ما دامت لم تعكر صفو الحياة، ومع ذلك استطاعت هذه الظاهرة المحلية بتعاليمها أن تسيطر في مرحلة محددة على مجريات الأمور في القارة الأوروبية وتتبوأ مكانتها في السياسة الدولية على حد سواء وفي أقل من أربعة قرون.

إن رحلة المسيحية من الخوف والفردية إلى التسيد العقائدي والهيمنة السياسية في أوروبا تكاد تقرب المعجزة السياسية بكل المقاييس، فلقد انتشرت المسيحية من خلال الحواريين والرسل الذين كانوا حول السيد المسيح، ومن هؤلاء الحواريين القديس مرقس الرسول الذي أدخل الديانة المسيحية إلى مصر وبنى أول كنيسة لها أساسها العقائدي وأدواتها في حدود عام 44 ميلادية، وهي كنيسة الإسكندرية، وبالطريقة نفسها سافر بطرس الرسول حول شرق المتوسط إلى أن استقر في روما وأنشأ هناك كنيسته الشهيرة التي تعد مركزا للبابوية، ولكن الفضل الكبير في نشر المسيحية جاء على أيدي «بولس» الرسول الذي لم يكن من حواريي السيد المسيح عليه السلام، حيث اعتنق المسيحية عندما كان ينكَّل بأتباعها بعدما جاء له وحي من السيد المسيح، وفقا لروايته، وتمثل كتاباته ركنا مهمّا من أركان العهد الجديد.

واقع الأمر أن المسيحية كانت تواجه بمنافسة شديدة للغاية، فالديانات التي كانت منتشرة في الدولة الرومانية كانت عديدة وقوية مثلت منافسة حقيقية للمسيحية وانتشارها في هذه الدولة، ولولا قوة العقيدة المسيحية، ما كانت لتستطيع منافسة بعض الديانات القوية التي يرجع أساسها إلى الديانات الفرعونية وبعض التيارات الدينية الفارسية.

لقد أثمرت جهود الرسل ورجال الدين المسيحي نشر الديانة بشكل كبير خلال القرن الثاني الميلادي. وقد تعرض انتشار الديانة المسيحية إلى عراقيل كثيرة في أوقات متفرقة. وعلى عكس ما قد يشاع بأن القرنين الأولين لنشر الديانة المسيحية كانا في مجملهما حقب قتل وتعذيب المسيحيين، فإن بعض المعاصرين يرفضون هذه النظرية ويرون أن التعذيب لم يكن بشكل منتظم ومنظم من قبل السلطات الرومانية، ولكنه أخذ أشكالا وأنماطا غير محددة، فكان المسيحيون يتعرضون للأذية عندما يسعى القياصرة أو الحكام لإيجاد مبرر لفشل سياساتهم أو لكوارث مثل حريق روما. وحقيقة الأمر أن المسيحية لم تمثل تهديدا سياسيا لروما، فكان الخلاف الأساسي هو رفض هذه الطائفة الاعتراف بألوهية القيصر أو الإمبراطور، وإن كان هناك استثناء لهذه القاعدة مثلما كانت الحال مع الإمبراطور الفيلسوف ماركوس أورليوس الذي رفض المسيحية لأسباب تتعلق بخوف الرعية من إله غيبي غير معروفة أبعاده بما قد يسبب إضعافا لسلطة الدولة.

والملاحظ أنه بعد منتصف القرن الثالث الميلادي، بدأت المسيحية تثبت أقدامها في مناطق عديدة بالإمبراطورية، وأصبحت روما نفسها تحتوى على كثير من معتنقي هذه الديانة، وكانت آخر موجة مقاومة رسمية هي التي عُرفت بـ«قرار ديوكليتين» نسبة للإمبراطور في ذلك الوقت الذي سعى لتطهير دولته من كل الديانات المختلفة ومنها المسيحية، وقد أذاق هذا الرجل المسيحيين ألوانا من العذاب، ولم تهدأ هذه الموجة إلا بعد أن تولى الإمبراطور قسطنطين حكم الإمبراطورية الرومانية، والرواية الدارجة هي أن هذا الرجل بدأ يميل للمسيحيين قبيل معركة مهمة رأى فيها رؤية تتضمن الصليب وارتباطه بالنصر، وعقب انتصاره بدأ يميل للمسيحية وذلك على الرغم من أنه لم يعتنقها إلا على فراش الموت كما تشير بعض المصادر التاريخية، حيث جرى تعميده قبيل وفاته مباشرة، وإليه يرجع الفضل فيما هو معروف بـ«قرار ميلان» Edict of Milan» عام 313 الذي فسره البعض على أنه اعتماد المسيحية دينا رسميا للدولة الرومانية، ولكن هذا لم يكن حقيقيا، فلقد اكتفى هذا القرار بالعفو العام على كل المسيحيين، وهو ما يعني إعادة ممتلكاتهم، إضافة إلى السماح لهم بحرية العقيدة وممارستها، أما قرار جعل المسيحية الدين الرسمي للدولة الرومانية، فإنه جاء على يد الإمبراطور ثيودوسيوس عام 381، وأيا كانت أهداف قسطنطين من هذه الخطوة، فإنها بكل تأكيد فتحت المجال أمام تعضيد قوة الكنيسة.

كيف سيطرت المسيحية على الدولة الرومانية؟ وهذا السؤال يرن في آذان المؤرخين إلى يومنا هذا، فيظل مجالا واسعا للتأويل والاختلاف الفكري، فيرى البعض أن انتشار المسيحية حدث لأنها وفرت للطبقات الدنيا مخرجا آمنا من الفقر النسبي وخيبة الرجاء في الدنيا من خلال حياة أبدية أخرى مرتبطة بمملكة السيد المسيح عليه السلام في السماء أو مفهوم الجنة، بينما يرى آخرون أن أركان الديانة المسيحية لم تكن بعيدة عن معتقدات سارية في هذه المجتمعات، ويرى آخرون أن المسيحية منحت معتنقيها قوة وسموا لم يستطع أي دين آخر أن يوفرهما، بينما يُجمع المؤرخون على أن تعرض المسيحيين لحملات اضطهاد متباينة خلق نوعا من التماسك الداخلي بين أبناء هذا الدين السماوي بما سمح لهم بالصمود ومواجهة الخطر المشترك.

لعل من اللافت أن يكون استقرار المسيحية بصفتها ديانة للدولة الرومانية وبداية ازدهارها على الساحة الأوروبية بلا منافسة، قد تزامن مع بداية مرحلة الانشقاقات العقائدية المسيحية على الساحة الكنسية، وكذلك فإن الخلافات العقائدية والفلسفية طفت على السطح، فلم يعد العدو الأساسي للمسيحية هو العدو الخارجي، بل صار هو العدو الداخلي، المتمثل في اتساع الهوة العقائدية إلى الحد الذي أصبحت معه المسيحية فرقا، فتحول بعض أتباع هذه الديانة السماوية من الضحايا إلى الجلادين.

* كاتب مصري