سامبا ـ بانزا.. أمل «أفريقيا الوسطى»

الرئيسة المؤقتة وعمدة بانغي السابقة تواجه معضلة تحقيق الأمن وتنظيم انتخابات رئاسية خلال أقل من سنة

TT

كلمات مختصرة.. تلك التي اختارتها كاثرين سامبا - بانزا، بعيد انتخابها من طرف المجلس الوطني الانتقالي (البرلمان المؤقت) في أفريقيا الوسطى لتكون رئيسة للجمهورية بالوكالة.. «اتركوا السلاح جانبا، وغلّبوا لغة الحوار». هكذا وضعت تلك السيدة المتخصصة في قوانين التأمين، أصابعها على موضع الداء. وتدرك من خلال تجربتها حجم المخاطر المحدقة ببلادها، ومدى جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقها لتحقيق الأمن والاستقرار، وتنظيم انتخابات رئاسية في أقل من عام، في بلد يشهد نزوح قرابة مليون شخص ويحتاج نصف سكانه لمساعدات إنسانية عاجلة؛ كما يواجه حربا بدأت تأخذ الطابع الديني بين أغلبية مسيحية وأقلية مسلمة.

أفريقيا الوسطى تلك الجمهورية الصغيرة التي تنام في حضن القارة السمراء، وتعد من بين أفقر عشرة بلدان أفريقية، ويمتلئ تاريخها السياسي بالانقلابات العسكرية والصراعات الدموية منذ عهد الاستعمار الفرنسي، مرورا بعصر الإمبراطور فيدل بوكاسا، وحتى الإطاحة بحكم الرئيس فرنسوا بوزيزي في مارس (آذار) 2013 على يد متمردي «سيليكا» القادمين من الشمال.

أمام هذه اللوحة القاتمة لم يجد البرلمان في أفريقيا الوسطى أفضل من كاثرين سامبا - بانزا ليمنحها الثقة من أجل قيادة البلاد إلى بر الأمان. بانزا البالغة من العمر 59 عاما والمولودة في العاصمة التشادية أنجمينا، لأب كاميروني وأم من أفريقيا الوسطى؛ عاشت طفولتها بهوية تجمع فيها الانتماء لثلاثة بلدان أفريقية، ولكن مع بلوغها الـ18 استقرت في بانغي عاصمة أفريقيا الوسطى، التي اختارتها فيما بعد وطنا وحملت جواز سفرها، دون أن تعلم ما تخبئه لها الأقدار.

في السنوات الأولى من حياتها ارتبطت كثيرا بأحد أخوالها يعمل في السلك الدبلوماسي وصاحب سمعة طيبة في أفريقيا الوسطى، كان «الوصي عليها منذ الطفولة»، كما قالت في إحدى المقابلات، قبل أن تضيف: «هو من غرس فيّ صفاءه وحبه للنباتات والطبيعة، والديكور والانسجام، ثقافته الواسعة كانت مصدرا دائما للإلهام، كما غرست فيّ زوجته الإسرائيلية تذوق الجمال».

على غرار أغلب شباب القارة السمراء إبان العقود التي تلت استقلال المستعمرات الفرنسية، غادرت بانزا أفريقيا الوسطى متوجهة إلى باريس لإكمال دراستها الجامعية، فحصلت على عدة شهادات جامعية، من أبرزها البكالوريوس في الإعلام والاتصال، وشهادة الدراسات العليا المتخصصة في قانون التأمين، قبل أن تعود في تسعينات القرن الماضي إلى بلادها، لتلتحق هنالك بفرع الشركة الفرنسية «آليانز»، الثانية على مستوى العالم في خدمات التأمين، وبعد سنوات من العمل أسست «بانزا» شركة تأمين خاصة بها أصبحت ذات شهرة واسعة في أفريقيا الوسطى.

تتحدث «بانزا» اللغة العربية بالإضافة إلى اللغة الفرنسية، وتوصف بأنها سيدة أعمال ناجحة، ويرى من عملوا معها في مجال الأعمال الخاصة أنها تمتلك «كفاءة عالية»، وتنأى بنفسها عن «ممارسة الفساد».

وعلى الرغم من نجاحها في مجال الأعمال والخدمات، فإنها اشتهرت أيضا كمناضلة حقوقية تنشط في صفوف «جمعية المحاميات في أفريقيا الوسطى»، وهي جمعية مختصة في مكافحة الختان وجميع أعمال العنف التي تتعرض لها المرأة، كما عملت أيضا مدربة في مجال حقوق الإنسان في إطار البرنامج الأفريقي لمنظمة العفو الدولية، مما منحها فرصة نسج علاقات قوية مع الكثير من المنظمات غير الحكومية التي تعمل في أفريقيا عموما، ومنطقة البحيرات الكبرى على وجه الخصوص.

بدأت «بانزا» الاقتراب من الحياة السياسية عام 2003، مباشرة بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الرئيس الأسبق فرنسوا بوزيزي، وهو الانقلاب الذي أدخل البلاد في أتون حرب أهلية وأزمة سياسية خانقة، حينها كانت «بانزا» من بين لجنة الحكماء ونائب رئيس جلسات الحوار الوطني التي أخرجت البلاد من أزمتها. جلسات يرى مراقبون أن «بانزا» لعبت دورا محوريا في إنجاحها، لتنتخب بعد ذلك رئيسة للجنة المكلفة بالمتابعة والتقييم المستمر للنتائج التي أسفر عنها الحوار.

آلين امباغبا يامارا رئيس تحرير صحيفة «أفريقيا الوسطى الجديدة»، قال في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» من العاصمة بانغي، إن السيدة كاثرين سامبا - بانزا «عرفت كيف تشق طريقها في الحياة السياسية منذ عام 2003، فقد لفتت آنذاك انتباه الجميع بقدراتها على التفاوض خلال الأزمة التي وقعت بين الزعيمين دافيد داكو وآبيل غومبا؛ فصورتها وهي تمسك بالرجلين لتجمعهما حول طاولة الحوار، لا تزال عالقة بأذهان الجميع في أفريقيا الوسطى»، قبل أن يعود يامارا ليؤكد أن «مصدر قوة بانزا هو أنها غير محسوبة على أي حزب أو تيار سياسي في البلاد، وهذه وحدها نقطة تحسب لها»، فنجاح «بانزا» في إدارة جلسات الحوار الوطني سنة 2003، لم يجعلها ترتبط بأي من التشكيلات السياسية في أفريقيا الوسطى، حيث ظلت تدير أعمالها بالتوازي مع أنشطتها الحقوقية، على الرغم من أن زوجها كان ينشط في العمل السياسي، مما مكّنه من حمل عدة حقائب وزارية. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2012، عادت أفريقيا الوسطى من جديد إلى العنف، وذلك بعد توحد عدة حركات مسلحة متمردة في الشمال، تحت اسم «سيليكا»، التي ينتمي أغلب أفرادها إلى الطائفة المسلمة، حيث يشكل المسلمون أقل من 20 في المائة من تعداد السكان، ويملكون أكثر من 70 في المائة من اقتصاد البلاد.

متمردو «سيليكا» كانوا يتهمون الرئيس الأسبق فرنسوا بوزيزي بالتنكر لاتفاقيات وقعها مع المعارضة، فقرروا الشروع في عملية عسكرية تمكنوا خلالها من السيطرة على أغلب المدن، على الرغم من استنجاد الرئيس فرنسوا بوزيزي بتشاد التي أرسلت وحدات عسكرية لصد المتمردين، ولكن بعد قرابة أربعة أشهر من العمل المسلح سيطر المتمردون على القصر الرئاسي في العاصمة بانغي، وفر بوزيزي إلى الكونغو المجاورة، لينصب قائد «سيليكا»، ميشال دجوتوديا نفسه رئيسا للبلاد.

كان اليوم الذي دخل فيه المتمردون إلى بانغي محفورا في ذاكرة «بانزا» التي تقول في تصريحات سابقة: «مباشرة بعد دخول ميليشيات (سيليكا) إلى العاصمة بانغي، زارني في بيتي عشرات المسلحين وأخذوا أموالا وبعض السيارات»، قبل أن تقول: «لقد عشت جميع الصراعات العسكرية التي مرت بأفريقيا الوسطى منذ 1996 وحتى اليوم، وتعرضت حياتي للخطر في أكثر من مرة».

وتحمل «بانزا» مسؤولية ما تمر به أفريقيا الوسطى لرجال السياسة، الذين تتهمهم باستغلال الديانات لإحداث شرخ بين السكان، قبل أن تؤكد أن «جمهورية أفريقيا الوسطى طالما شكلت مثالا لانسجام مختلف الديانات»، ولكنها تعود في الوقت نفسه لتقول إن «الفرصة سانحة لعلاج هذا الشرخ».

بعد مرور شهرين من سيطرة المتمردين على مقاليد الحكم في أفريقيا الوسطى، اختار الحاكم الجديد للبلاد «بانزا» لشغل منصب عمدة العاصمة بانغي، فكان عليها أن تواجه وضعا إنسانيا كارثيا في مدينة أرهقها العنف ونهبت إداراتها وتعيش حالة من الفوضى العارمة والكراهية التي أدت إلى عنف ديني بين المسيحيين والمسلمين.

لاقى تولي «بانزا» لمنصب عمدة العاصمة ترحيبا واسعا في أوساط سكان المدينة، غير أن أبناءها الثلاثة (من بينهم اثنان يعيشان في فرنسا) عارضوا قبولها تولي مهمة يرونها مستحيلة، ولكن «بانزا» قالت: «لقد كنت دائما أناضل من أجل وصول المرأة إلى مناصب مهمة في الدولة، ورفضي لهذا المنصب سيكون مناقضا لما كنت أناضل من أجله». بينما يرى إيمانويل كريبي، صحافي ومحلل سياسي من دولة بنين، أن «قبول بانزا لمنصب عمدة بانغي كان قرارا صعبا، ولكن مسيرتها العملية والنضالية تؤكد أنها ليست ممن يتجنبون مواجهة المصاعب».

خلال توليها لمنصب عمدة العاصمة قامت «بانزا» بجولات في بعض الدول الأوروبية، خاصة فرنسا، للبحث عن دعم دولي لعاصمة منهكة، وللالتقاء بالجالية وحثها على المشاركة في إعادة إعمار البلاد، غير أن بعض الأوساط انتقدت على «بانزا» رحلاتها الخارجية في الوقت الذي تعاني العاصمة من ارتفاع مستوى الكراهية بين السكان، واندلاع حرب دينية بعد تشكل ميليشيات «آنتي بالاكا» الموالية للرئيس الأسبق فرنسوا بوزيزي والمحسوبة على المسيحيين، وشروعها في استهداف المسلمين الذين تتهمهم بموالاة ميليشيات «سيليكا»، التي يعتنق أغلب عناصرها الدين الإسلامي، وتوالي الرئيس ميشال دجوتوديا.

أسفر الوضع الجديد عن انفلات أمني خطير أجبر فرنسا على إرسال 1600 جندي، في إطار ما أصبح يُعرف بعملية «سانغاري»، مهمة هذه القوات هي حفظ الأمن ونزع سلاح الميليشيات، وذلك بالتنسيق مع القوات الأفريقية الموحدة «ميسكا» البالغ تعدادها أربعة آلاف جندي أغلبهم من تشاد. وعلى الرغم من الهدوء النسبي الذي شهدته البلاد، فإن الوضع ظل مضطربا، مما أجبر قائد «سيليكا» على الاستقالة من إدارة شؤون البلاد، ليفتح المجلس الانتقالي (البرلمان المؤقت) الباب أمام الترشيحات، ليختار من بينها رئيسا انتقاليا يقود البلاد قبل أن تنظم انتخابات رئاسية من المنتظر أن تجري العام المقبل.

في هذه الأثناء وجدت كاثرين سامبا - بانزا، وهي التي واجهت مشكلات كبيرة في إدارة بلدية العاصمة، نفسها مرشحة لإدارة البلاد، وذلك بعد أن دفعتها منظمات نسائية وتيارات شبابية إلى الترشح دن أن تكون محسوبة على أي من الأحزاب السياسية الناشطة في البلاد. وتحدثت بعض الصحف في بانغي عن دعم فرنسي حصلت عليه «بانزا» لتحقق الفوز في الشوط الثاني من اقتراع سري شارك فيه نواب البرلمان، وبحضور المجموعة الدولية، وذلك بعد أن حصلت على 75 صوتا مقابل 53 لصالح ديزيري كولينغبا، ابن الرئيس الأسبق أندريه كولينغبا، الذي شغل الرئاسة في الفترة من 1981 إلى 1993.

وبخصوص الجدل الذي دار حول دعم ترشحها، يرى آلين امباغبا يامارا، رئيس تحرير صحيفة «أفريقيا الوسطى الجديدة»، أن تلك التهم لا تستند لأدلة منطقية، مشيرا إلى أن «بانزا» نفسها قالت إنها كانت مدعومة من طرف تيارات شبابية ونسائية ووطنية، ولكن بطبيعة الحال فرنسا ودول شبه المنطقة درسوا مسيرتها وقرروا دعم ترشحها، قبل أن تؤكد رغبتها الجامحة في أن تكون «محل إجماع لدى جميع الأطراف، وذلك ما جعلها تبتعد عن ممارسة السياسة عن طريق تيار سياسي معين».

ويشير يامارا إلى أنه «على الرغم من كونها سيدة مسيحية، فإنها حظيت بدعم قادة متمردي (سيليكا) المنحدرين في أغلبهم من الطائفة المسلمة»، وكان بعض هؤلاء القادة يلقبونها بـ«الوالدة»، ورحبوا بانتخابها.

وفي الوقت نفسه، كانت تحظى بدعم ميليشيات «آنتي بالاكا» المنحدرة من الطائفة المسيحية، وبالتالي فإنه من بين جميع المرشحين للرئاسة كانت بانزا وحدها التي تحظى بدعم المجموعتين المسلحتين المتناحرتين، كما حظيت أيضا بدعم المجموعة الدولية المكلفة الوساطة في أفريقيا الوسطى، فقبل ساعات من انتخابها عدّ دبلوماسي أوروبي أنها المرشحة الأكثر قبولا لدى جميع الأطراف.

مباشرة بعد انتخابها وجهت «بانزا» نداء إلى ميليشيات متمردي «سيليكا» وميليشيات «آنتي بالاكا»، تدعوهم إلى التخلي عن السلاح والعودة للحوار، قبل أن تؤدي اليمين الدستورية يوم الخميس 23 يناير (كانون الثاني) 2014، لتصبح بذلك أول سيدة تشغل منصب رئيس الجمهورية في أفريقيا الوسطى، وثالث سيدة تتولى الرئاسة في القارة الأفريقية، بعد إلين جونسون في ليبيريا وجويس باندا في مالاوي.

تيري فيركولون الباحث ومدير برنامج أفريقيا الوسطى في «كرايزس غروب»، عد انتخاب بانزا «دليلا على التجديد، فبعد انتخابها وجهت كلمتها الأولى إلى الطائفتين (المسيحية والمسلمة)، ولكنها أيضا خاطبت من يشككون في قدرتها على إدارة البلاد، وهذا ما تبحث عنه المجموعة الدولية، وما يريده سكان بانغي».

وخلف احتفاء الجميع بانتخاب «بانزا»، تختفي تحديات كبيرة على الرئيسة الجديدة مواجهتها في حيز زمني ضيق، حيث يرى كريستوف باربيير المدير الناشر لصحيفة «ليكسبريس» الفرنسية، أن «على بانزا في البداية أن تحقق السلام في البلاد؛ والسلام الديني أكثر صعوبة من السلام السياسي.. مما يعني أن عليها أن تنجح في تحقيق العملية الديمقراطية، وكل هذا مرتبط بمدى قدرتها على المحافظة على العلاقات مع فرنسا؛ مع الجيش الفرنسي أولا، ومع فرنسا كبلد أرغم على التدخل في القارة الأفريقية وهو لا يريد أن يعود إلى دائرة التهم الاستعمارية».

أما تيري فيركولون الباحث ومدير برنامج أفريقيا الوسطى في «كرايزس غروب»، فيرى أن «على بانزا أن تعتمد كثيرا على القوات الدولية، ولكنها يجب أيضا أن تشرك قادة ميليشيات «آنتي بالاكا» و«سيليكا» السابقين، في عملية حفظ الأمن». ويضيف الباحث الفرنسي المختص في شؤون إفريقيا الوسطى أن على الرئيسة الجديدة أن تبادر إلى فتح حوار ديني بين الطائفتين؛ المسيحية والمسلمة.

وفي هذه الأثناء، يطرح الملف الإنساني نفسه بقوة على مكتب الرئيسة الجديدة، حيث ترتفع الأصوات المحذرة من وقوع مجاعة في البلاد، كان آخرها سفير أفريقيا الوسطى لدى الأمم المتحدة، الذي قال إن «هناك خطر حدوث مجاعة، وهذا الخطر سيزداد إذا لم يجرِ التدخل من أجل إعادة سمات الدولة ومساعدة السكان على الحصول على الحد الأدنى للعيش». قبل أن يضيف: «لا بد من نهج شمولي، بل بالأحرى (خطة مارشال) إذا كنا نريد انتشال البلد والحيلولة دون انتشار ما يجري فيه ليصيب دولا في شبه المنطقة».