من التاريخ: غراميات إمبراطور

TT

بعيداً عن غمار الحروب الصليبية والرؤى الفلسفية للتاريخ، فلقد وجدت نفسي منذ أيام قليلة أجلس في حفل عشاء وعلى يميني سياسية بولندية وأمامي صديق فرنسي، فلم أستطع السيطرة على لساني الذي انطلق لسؤالهما عن أهم ما يجمع بينهما تاريخياً، فكان الرد التلقائي هو «الاتحاد الأوروبي»، ثم بادر الفرنسي ليقول لي: «إن المنافسة على عمودية باريس كانت لامرأة من أصل بولندي»، فأوضحت لهما حقيقة هامة للغاية وهي أن الذرية الوحيدة لنابليون بونابرت جاءت من خلال علاقة ممتدة مع إحدى الشخصيات بولندية الجنسية، وأنه إذا ما أرادت فرنسا أن تشم رائحة إمبراطورها العظيم نابليون بونابرت فعليها أن تفتش في السلالات البولندية، فوجدتهما يبتسمان ابتسامة تخفي خلفها بعض الفضول مع بعض الخجل لأن مصرياً مثلي يحدثهما في مثل هذه الأمور الهامة في تاريخ بلديهما.

إن ما حدث مرتبط بشكل كبير بالطريقة التي لا يزال نابليون بونابرت يمر بها إلى ذاكرتنا البشرية والتي تهتم بعبقريته العسكرية والتاريخية والسياسية، فضلاً عن كونه يمثل للبعض الشخصية الرومانسية والتي يتم ربطها مباشرة بثوريته أو بعلاقته بزوجته الأولى جوزيفين، ولكن حقيقة الأمر أن قصة الحب الأساسية التي سيطرت عليه بعد نضوجه النسبي كانت مع شابة بولندية، فلقد كانت علاقته بزوجته جوزيفين التي كانت تكبره سناً على المحك بسبب عدم قدرتها على الإنجاب ولأسباب تتعلق بعلاقاتها ونزواتها مع رجال مختلفين على رأسهم هيبوليتي شارلز، الذي رافقها خلال فترة وجود نابليون في الحملة على مصر والشام، وقد بدأ الجميع يستشعر المسافة التي صارت تكبر يوماً بعد يوم بين نابليون وزوجته، إلى أن جاء انتصار الرجل الساحق في معركتي «أوسترلتز» ضد النمسا في 1805 ثم في «يينا» ضد بروسيا، وهو ما فتح له الطريق إلى وسط أوروبا، خصوصا بولندا التي كانت تعاني بشدة من سيطرة روسيا وبروسيا والنمسا على مقدرات الأمور بها وتقسيمها تباعاً، وبالتالي عندما دخل نابليون بولندا استقبله الشعب البولندي بالورد والقبلات والسعادة الغامرة على اعتباره المخلص الذي من المتوقع أن يُعيد لبولندا استقلالها وحريتها، ولكن القدر كان له رأي آخر، فخلال هذه الاستقبالات لم يفُت نابليون أن يركز على جمال امرأة بولندية شابة زرقاء العينين، شقراء الشعر، بيضاء البشرة، متوسطة الطول، ويبدو على وجهها براءة الأنوثة والشباب، فلقد كانت بكل المقاييس آية في الجمال كما وصفها كل من رآها أو تعامل معها.

لقد كانت هذه الشابة هي ماريا واليوسكا، إحدى فتيات الطبقة الأرستقراطية البولندية والتي كانت أسرتها تعاني من ضائقة مادية، فتم تزويجها لأحد أبناء الطبقة ذاتها من ميسوري الحال، وهو الكونت أثناثيوس واليوسكي والذي نسبت إليه، وكان يكبرها بقرابة سبعة عقود، ومع ذلك فقد أنجبت له طفلاً، ولكن علاقتها به كانت فاترة للغاية، وعلى الرغم من أنها لم تكن لديها النية أو حتى الرغبة في الدخول في علاقات مع رجال آخرين، وهو ما لم يكن مستغرباً على هذه الطبقة الاجتماعية، إلا أنها وجدت نفسها بجوار أحد أقربائها يستقبلون نابليون بونابرت في مدينة بلوني، فاستطاعت الشابة أن تخرق الصفوف لتصل إلى عربته وتلقي عليه السلام، شأنها في ذلك شأن كل شباب بولندا الحالم بالاستقلال في لقائهم بالمُخلّص السياسي المُنتظر، وقد لفت جمالها انتباه نابليون على الفور، فما كان منه إلا أن أعطاها باقة ورد كانت معه وقال لها بكل وضوح وهو يرمقها بنظرة متعمقة: «سوف نلتقي في وارسو وسوف تشكرينني كثيراً».

ولم يخفِ نابليون إعجابه الشديد بماريا والويسكا وبدأ يضع خطته للانقضاض على الفتاة، فوجه جنراله القدير دوروك ليبحث عنها بشغف، ومن خلال علاقاته مع الطبقة الأرستقراطية تم توجيه الدعوة إليها للمشاركة في أحد الاحتفالات المسائية، ولكنها اعتذرت، وهو ما استفز نابليون كثيراً، فتم توجيه أحد الأرستقراطيين للذهاب إليها ليقول لها إنها تمثل أمل بولندا لأن الإمبراطور مولع بها وإنها يمكن أن تقوم بعمل قومي لبلادها بأن تصبح عشيقته. والمستغرب له أن هذا الأمر لم يزعج زوجها كثيراً، حيث كان يرى أن بولندا أهم من زوجته، فلقد ضغط المقربون عليها لقبول هذه العلاقة، وفي إحدى المناسبات التقي بها نابليون مرة أخرى فلم يتأخر كثيراً وبدأ يتقرب إليها بشغف وبأدب تارة وبعنف وصلف تارة أخرى، مُرغباً من خلال التأكيد على أنه سيقوم بإعادة دولة بولندا للخريطة، ومهدداً بأنه سيسحق دولتها تارة أخرى. والملاحظ أن هذا الرجل القوى كان يعرف طريقه لقلب النساء بصفة عامة، فلقد كتب لها بطاقات ممتدة يعرض عليها حبه، ومن ذلك قوله في إحداها: «يا حمامتي الجميلة... مع مرور الوقت سوف تحبين النسر العظيم (أي نابليون)، وفي زمن قليل ستفرضين سيطرتك عليه..».، وتورد ماريا في مذكراتها أنه وقف أمامها في إحدى المرات وقال لها: «أريدك أن تعرفي أنني سأغزوك... دعيني أكرر لك... سوف تحبينني..».، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت الشابة مفتونة بشخصه وحبه الشديد ودفء شخصيته، وسرعان ما دانت الشابة الجميلة واستسلمت للإمبراطور نابليون في علاقة بدأت سرية ولكنها أصبحت حديث كل العواصم الأوروبية بعد وقت قريب، وقد تحولت العلاقة بينهما من علاقة اضطرارية إلى علاقة حب عميق أسفر عن الذرية الوحيدة لنابليون ممثلة في ابنه ألكسندر واليوسكي، الذي نسب إلى زوج أمه وليس عشيقها الإمبراطور، ولكن كل فرنسا كانت تعرف أنه ابن نابليون بونابرت، فكانت تعامله على هذا الأساس لأنها غادرت بولندا وأصبحت تعيش معه في باريس بشكل علني، وذلك على الرغم من زواج نابليون بماريا لويز ابنة الإمبراطور النمساوي، ولكن حقيقة الأمر أنها كانت زيجة مُدبرة هدفها سياسي ونهايتها تعيسة، وإحقاقاً للحق فإن أسرة الهابسبورغ التي تنتمي إليها زوجة نابليون كانت معروفة بقبحها ومحدودية جمال بناتها، فلم تكن زوجة نابليون لتقارن بماريا واليوسكا التي كانت حديث كل المجتمعات لجمالها ورقتها وبراءتها، ولكن كونها متزوجة كان أيضا يثير الكثير من الثرثرة في المجتمعات الأوروبية.

رغم كل هذه الظروف المحيطة بهذه العلاقة العميقة لنابليون بونابرت مع محبوبته ماريا، فإنها كانت أكثر النساء ولاءً للرجل، فقد استمرت العلاقة بينهما حتى إنه يقال إنها زارته في منفاه الأول في جزيرة إلبا، وظلت حافظة العهد معه حتى تم نفيه نهائياً لجزيرة سانت هيلينا في المحيط الأطلنطي، وهنا فقدت الأمل في العودة إليه، وقد تزوجت بعد ذلك من أحد جنرالاته وهو فيليب دارنانو وأنجبت منه طفلاً آخر، ولكنها لم تغفل التأكيد في مذكراتها على أن نابليون كان الرجل الحقيقي في حياتها.

أما ابنها ألكسندر من نابليون فقد دخل اللعبة السياسية في فرنسا بعدما منح الجنسية، وكان الجميع يدركون تماماً أنه ابن قائدهم العظيم نابليون، ويبدو أن هذا الشاب كان يملك من مقومات عظمة أبيه الكثير، حيث أبلى بلاءً حسناً كضابط ثم كسياسي، ومثل والده فإن زواجه لم يكن مستقراً، وسلالته من زواجه لم يكتب لها الاستمرارية، ولكن العكس كان صحيحاً من خلال علاقته مع إحدى الممثلات التي أنجبت له ابناً كُتب من خلاله لسلالة نابليون البقاء.

وهكذا انتهت قصة من أعمق قصص الحب في تاريخ السلطة السياسية، خصوصا لأن شخصية نابليون تظل محيرة إلى حد كبير، فيبدو أن الرجل كانت له موهبة خاصة في المعارك سواء العسكرية أو النسائية على حد سواء، وإذا ما كانت الأولى من نتاج عبقريته الخالصة، فإن الثانية بلا شك استفادت من الهالة السياسية التي نتجت عن انتصاراته العسكرية، فلقد كانت الكثير من النساء يرتمين تحت أقدام هذا الرجل الذي دانت له أوروبا، فلم يكن من المستغرب أن ترفع النساء رايات الحب والاستسلام بهذه السرعة، ولكن يبدو أن نابليون قد فتح قلبه وروحه لماريا أكثر من أية امرأة أخرى، ويبدو أن العلاقة انتهت بحب متعمق مع هذه المرأة التي تحملت كل علاقاته الجانبية أو زواجه وتقلبات مزاجه وظروفه السياسية، ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن نابليون استسلم عاطفياً لماريا قبل أن يستسلم عسكرياً في معركة واترلو؟... فكثيراً ما يُقهر العظماء من القلب وليس في ساحات المعارك!