من التاريخ.. طاجيكستان: من أحضان الجغرافيا إلى عمق التاريخ

TT

المنظر خلاب، سلاسل جبال شاهقة ممتدة على مرمى البصر ليس بينها الوديان أو المسارات، كلها بيضاء كما لو أن اللبن يكسوها، والشمس تستعد للغروب فتمنحها خيوطًا ذهبيةً طفيفةً تغازل من خلالها اللون الأبيض، والسحب تداعب هذه القمم، والتي قد تعلو عليها في مناسبات عديدة كما لو أن هناك تنافسًا بينهما من أجل الترقي والعلو. وهذه اللوحة الجميلة ليست صورة خيالية، ولكنها واقع دولة طاجيكستان من ارتفاع عشرة كيلومترات في الجو، فهذه الدولة تكاد تكون لها شخصية مختلفة تستمدها بشكل كبير من جغرافيتها ومن تاريخها بشكل أكبر، فطاجيكستان دولة تحتل فيها سلاسل الجبال قرابة 93 في المائة من إجمالي مساحة الأراضي، وهو ما يعني أن الوديان ظاهرة نادرة بعض الشيء، كما أن الجغرافيا لم تكن كريمة معها أيضا لأسباب أخرى، وهي أنها دولة بغير ذي منفذ على البحر (Land Locked)، وهو ما يحد بشكل ملحوظ من قدراتها على التفاعل مع العالم الخارجي، ولكنها تتغلب على ذلك بالمثابرة والروح العظيمة لشعبها والتوسع في شبكة الطرق الأرضية.

إن الحقيقة الأساسية التي لا بد أن نعترف بها هي عدم وجود تطابق بين عناصر الجغرافيا وتاريخ الشعوب الطاجيكية في أذهاننا على الأقل، فهناك انفصال نظري بين رؤيتنا للشعب الطاجيكي والسلطة السياسية التي حكمته، وارتباط هذين العاملين بالمكان الذي عاش فيه هذا الشعب، أي الجغرافيا، فانتشار الشعب الطاجيكي جغرافيًا كان سببًا في غيابه عن بوصلة الجغرافيا/ التاريخية على الرغم من دوره المهم تاريخيًا وفكريًا للإسلام والمسلمين، أي أننا قد نجد مشكلة أساسية في تثبيت العلاقة بين العوامل الثلاثة، ويزداد الأمر صعوبة عندما نضيف إلى ذلك حقيقة لا مناص منها، وهي انكبابنا على التركيز على الدول الإسلامية المتعاقبة في الشام والعراق ومصر، وهو أمر يحتاج منا لإعادة نظر.

وتشير أغلبية المصادر التاريخية إلى أن أصول الشعب الطاجيكي ترجع إلى الفارسية، فهو من أصول إيرانية هاجرت إلى بلاد مجاورة، وعلى رأسها أفغانستان ومناطق كبيرة من آسيا الوسطى، قبيل ظهور الإسلام، وقد احتفظت هذه القبائل باللغة الفارسية، والتي لا تزال تلازمها حتى اليوم، خاصة في دولة طاجيكستان التي تتحدث الفارسية، ولكن بلكنة مختلفة بعض الشيء، ومع مرور القرون فإن توطين هذه القبائل جاء في العديد من الدول المجاورة، ولكن تمركزهم الأساسي كان في دولة طاجيكستان التي تحتضن قرابة ثمانين في المائة من الشعب الطاجيكي، بينما يُكون الطاجيك قرابة ربع سكان أفغانستان الحالية، ولكنهم أقلية في دولة أوزباكستان على الرغم من القيمة التاريخية العظيمة لهم هناك، والتي يعكسها تمركزهم في مدن جنوبية مثل بخارى وسمرقند اللتين لهما مذاق خاص في التاريخ الإسلامي ووضعية مميزة في الشرق.

والثابت أن الإسلام دخل هذه القبائل مع الفتوحات الكبيرة التي قام بها المسلمون في المنطقة التي تُعرف في التاريخ بما وراء النهرين، خاصة فتوحات قادة عسكريين من أمثال زياد بن أبيه، والمهلب بن أبي صفرة، وغيرهما، وقد كان لهذه القبائل دورها المهم في تقوية شوكة الإسلام بعدما اعتنقوه تاركين ديانات سابقة مثل الزرادشتية وغيرها، ولكن القوة السياسية للشعب الطاجيكي في التاريخ تجسدت بشكل أساسي من خلال «الدولة السامانية» التي لا تزال مرجعيتها الثقافية والتاريخية قوية لدى الشعب الطاجيكي ويلحظها كل من يزور «دوشانبيه» العاصمة ممثلة في العملة المحلية «السوموني» المشتقة من اسم هذه الدولة، فضلًا عن بعض المشروعات التجارية الأساسية التي تعكس تمسك الطاجيك بماضيهم، وقد أسس هذه الدولة «سامان خدا» في عام 819 ميلاديًا خلال حكم الدولة العباسية، وقد استطاعت هذه الدولة أن تلم شمل كل القبائل الطاجيكية عبر التاريخ، وقد اعتنق مؤسس هذه الدولة الإسلام وبدأ يتوسع تدريجيًا إلى أن أصبح يملك شرق فارس وحتى المحيط الهندي جنوبًا وامتدت دولته من أفغانستان وبحر قزوين شمالًا لقرب حدود الصين شرقًا بما يشمل اليوم العديد من الدول مثل أوزباكستان وطاجيكستان وغيرهما. وقد استمرت هذه الدولة حتى عام 999 ميلاديًا عندما سقط آخر أمرائها عبد الملك الثاني لصالح القبائل التركية، وبسقوط هذه الدولة انتهى الدور الجماعي للقبائل «الطاجيكية» في التاريخ الإسلامي، ولكنها ظلت منطقة مهمة بالنسبة للإسلام ومطمعًا للصراع الاستعماري بين روسيا القيصرية وبريطانيا الإمبريالية إلى أن انتهى الأمر لأن تصبح طاجيكستان ومعها جمهوريات آسيا الوسطى جزءًا من الاتحاد السوفياتي.

حقيقة الأمر أننا يجب أن نعترف أننا نجهل الكثير عن دور الشعب الطاجيكي في التاريخ الإسلامي، بل إننا قد نقترف الخطيئة التاريخية التي تربط بين هذا الشعب ودولة طاجيكستان وحدها، ولعل هذا مرتبط بتقصير شديد نلتمسه بعدم الربط بين الجغرافيا والتاريخ في عقلنا الإسلامي الجمعي، وخاصة أن بعضنا توقفت معلوماته عند ولاية «خراسان» أو منطقة ما «وراء النهرين» في التكوين السياسي لرؤيتنا للتاريخ، فاكتفينا بالمدن مثل بخارى وسمرقند وغيرهما، ولكن الحقيقة أننا مدينون للشعب الطاجيكي ببعض العظماء في العلوم الإسلامية، وعلى رأسهم الإمام البخاري، والإمام مسلم والترمذي وأبو حنيفة وابن سينا والفردوسي، وغيرهم ممن كان لهم أثر كبير في التاريخ الإسلامي، فهم جميعًا من أصول طاجيكية ولهم باع طويل في تطوير الفكر الإسلامي، خاصة الفكر السني، والذي لا يزال قرابة 93 في المائة من الشعب الطاجيكي يعتنقونه على مذهب أبي حنيفة، وهو ما يمثل لهم اعتزازًا خاصًا، والملاحظة الأساسية التي يمكن للمرء أن يراها هي الارتباط القوى والشديد بين هذا الشعب وتاريخه، واعتزازه القوى بهويته الثقافية والدينية المستقلة.

والحق فإن شريط فكري هذا الممتد بدأ ينقشع تدريجيًا وأنا في الطائرة لأبدأ الاستفاقة من حلم التاريخ وتزاوجه بالجغرافيا في إطار عرس الثقافة على ذوبان المنظر الخلاب الذي رسمته لي الطبيعة بعدما طل علينا الغروب ليأذن لليل ليلقي بظلامه وقسوته عليّ، فيخرجني من متعة منظر اللوحة التاريخية والثقافية الجميلة لطاجيكستان فيدخلني في كآبته، فيأسرني السواد بظلماته بعدما كنت ظافرًا بحرية التعانق مع التاريخ على الخلفية الجغرافية الجميلة، فيتحول الرسم الإلهي الممتع إلى لوحة موحشة ممزوجة بمحنةٍ عاطفيةٍ تعيسة من الظلام وظلاله، ليزداد بها ألمي بتذكر أبيات شعر تقول حول الغروب:

يا للغروب وما به من عبرة للمستهام وعبرة للرائي أوليس نزعًا للنهار وصرعةً للشمس بين مآتم الأضواءِ أَوَلَيْسَ طَمْسَاً لِلْيَقِينِ، وَمَبْعَثًا لِلشَّكِّ بَيْنَ غَلائلِ الظّلْماءِ أَوَلَيْسَ مَحْوَاً لِلوُجُودِ إلى مدَى وَإبادةً لِمَعَالِمِ الأشْياءِ رحم الله شاعر القطرين خليل مطران.