من التاريخ: ماكيافيلي والدولة والأخلاق

TT

تناولنا في الأسبوع الماضي الخلفية المرتبطة بظهور كتاب «الأمير» للكاتب والمفكر الإيطالي نيوكولو ماكيافيلي عام 1513م، فهذا الاسم الذي أصبح سبة لأي شخص يُنعت به، كان همه الأساسي هو وطنه إيطاليا التي صارت مفككة ومحطمة سياسيا تتلاعب بها القوى المختلفة والمطامع الخارجية والفساد الداخلي للشعب، وقد دفعت كل هذه العوامل الرجل للسعي لإيجاد حل لحالة التفسخ والانحدار الأخلاقي الذي أصاب بلاده، والحل بالنسبة له لم يكن فقط في النصائح التي قدمها للأمير لورنزو دي ميديتشي في كتاب «الأمير» فحسب، بل إنه وضع فكره السياسي بشكل أدق وأعمق في كتابه المنسي «مناقشات حول أول حقبة لتيتوس ليفي Discourses on the first decade of Titus Levi»، ففيه قدم الرجل شرحا للأسباب التي دعته لاعتناق هذا المذهب العملي أو غير الأخلاقي للبعض، لصالح الهدف الأسمى والأنبل وهو الدولة ووحدتها.

إن محاولة فهم فكر ماكيافيلي تبدأ بحقيقة أساسية اعتنقها مذهب الواقعية في علم السياسة والعلاقات الدولية، وهي أنه لا يمكن الاعتماد على الإنسان وأخلاقه وحدهما لتطوير المجتمع أو الإبقاء عليه، فلقد كانت رؤية ماكيافيلي للإنسان منحطة للغاية، فهو لم ير فيه إلا شخصا أنانيا لا يتورع عن فعل أي شيء لمصلحته الشخصية على حساب الوطن والمجتمع، ولكنه أكد على أن أهم أمرين بالنسبة للمواطن هما الملكية الخاصة والحياة، فالإنسان على استعداد لأن ينسى قتل أقربائه، ولكنه لن ينسى الشخص الذي يؤمم أملاكه، ومن ثم، فإنه لا يمكن الوثوق في الفرد وحده للوصول للمصلحة المجتمعة، بالتالي أصبح هناك دور محوري للدولة ومؤسساتها، التي يجب عليها التنسيق بين المواطنين لتصبح الأداة الجمعية للرقي بهم.

لقد كان موقف ماكيافيلي واضحا في كتابه، حيث رأى أن غياب الدولة الموحدة في إيطاليا واضمحلال جمهورية فلورنسا أدى إلى حالة من الانهيار الأخلاقي، ومن ثم جاءت قناعته واضحة بأنه عندما تنعدم أو تضعف الفضيلة والأخلاقيات العامة، فإن ظهور النظم الجمهورية وما يتأتي معها من حريات يصبح أمرا مستحيلا، وهو ما ينطبق على بلاده في ذلك الوقت، التي أصبحت بحاجة إلى سلطة مطلقة تستطيع أن تعيد لها الأخلاقيات المفقودة من خلال الوحدة والقدرة على إصدار القوانين العادلة بعيدا عن أهواء البرلمانات أو الجمعيات التي تمثل المصالح السياسية والاقتصادية للطبقات المختلفة، فالرجل يرى أن عودة الدساتير والقوانين إنما هو أمر مشروط بشكل واضح بالسلطة المطلقة وفي هذه الحالة لشخص واحد فقط وليس لمجموعة أو جماعة.

ومن هذا المنطلق برر ماكيافيلي السلطة المطلقة للحاكم، فلقد كانت قياساته الأساسية التي بنى عليها فكره مرتبطة بشكل مباشر بالعصر الجمهوري الروماني الذي رأى فيه أداة مهمة استطاعت أن تدفع بقوة نحو إعادة المجد الروماني المفقود، ولعل هذا كان سببا أساسيا في ضعف مصادر الإلهام بالنسبة له، حيث ركز على المجد الروماني، واتصالا بذلك، فإنه على عكس ما قد يعتقده كثيرون، فإن ماكيافيلي لم يكن في أي وقت من الأوقات رافضا لفكرة الحريات العامة أو حتى النظم الجمهورية المستنيرة التي رأى فيها الغاية النهائية للدول وأنظمة الحكم، ولكن هذه مرحلة تأتي بعدما يستطيع الحاكم القوى السيطرة على الدولة وتوحيدها وتقويتها بما يسمح لها بأن تكون قادرة على الإدارة من خلال مؤسسات ثابتة وقانونية، فلقد كان الرجل على قناعة كاملة بأن الانتخاب، على غرار دولة روما، أفضل بكل تأكيد من فكرة التوريث السياسي، كما أنه كان على قناعة كاملة بأن الحاكم الذكي هو الذي يستطيع أن يدمج القوى السياسية المختلفة في شؤون الحكم حتى قبل بلوغ الجمهورية، ولكن إلى أن يصل المجتمع لهذه المرحلة، وحتى يستطيع الحاكم أن يضع هذه اللمسات المهمة، فإنه يجب عليه أن يتحلى بكل الصفات الواردة في كتاب «الأمير». وقد نتج عن ذلك وجود ازدواجية في الأخلاقيات، فهناك أخلاقيات يجب أن تتحلى بها الرعية، بينما تقل أهمية التزام الحاكم بالأخلاقيات العامة نفسها في سبيل الدولة، وقد برر ذلك بوجود نوعين من الالتزام الأخلاقي، أحدهما للعامة، بينما يعفي من ذلك الحاكم، وتقديره كان واضحا وهو أن الحاكم ليس فقط خارج نطاق القوانين الوضعية حتى التي يقوم هو بصياغتها، ولكنه أيضا خارج نطاق الأخلاقيات، وبالتالي يكون معيار الحكم على الحاكم هو مدى نجاح الدولة في تحقيق أهدافها ومدى نجاحه هو في السيطرة على الدولة، فالدولة هي الغاية التي تُبرر لها الوسائل.

ولم تكن هذه نهاية المبادئ التي نادى بها ماكيافيلي لإدارة الدولة، فلقد دعا الحاكم الإيطالي إلى تقوية الدولة من خلال وضع نظام عسكري مبني على مفهوم «المواطن الجندي»، أي إنه يرى ضرورة قيام الأمير الذي سيوحد إيطاليا بتكوين جيش من بني وطنه يكون ولاؤهم له وللدولة، فلقد كان الرجل يمقت طبقة المرتزقة التي كانت تحارب من أجل المال والتي أضحت بعد مرحلة معينة لا تأبه إلا بجمعه بعدما استقروا فيما بينهم على عدم الاقتتال وإزهاق الأرواح وآثروا الدخول في حروب مراسمية تُحلل لهم الأموال التي يتقاضونها من الأمراء، خاصة طبقة «الكوندوتيري Condottieri»، التي يقال إن إحدى المعارك التي خاضها فريقان من هؤلاء المرتزقة لصالح أميران لمدة ساعات مطولة انتهت بعدم خروج منتصر وإصابة جنديين فقط، وقد حذر ماكيافيلي الحاكم من هؤلاء لانعدام الولاء ولأنهم على استعداد للإفساد في الدولة.

لم يكن هذا وحده محل سخط ماكيافيلي لتنافيه مع الفكر الوطني والقومي، فلقد صب الرجل غضبه الشديد على الكنيسة وطبقة الأرستقراطية، فالثانية لا تهدف إلا للإبقاء على ملكيتها التي هي محل تساؤل من الأساس، بينما هاجم البابا وطالب بجعل إيطاليا الموحدة دولة تبعد عن شبح التدخل البابوي الذي رأى أنه سبب في تفكك بلاده بسبب ممارسة البابا للسياسة وعلاقاته الدولية التي استخدمتها الدول المختلفة ذريعة للتدخل في الشأن الإيطالي، فضلا عن قيام الدولة البابوية بلعب دور محوري ولكن سلبي في التوازن الداخلي للقوى في شبه الجزيرة الإيطالية، من ثم هجومه الشرس على الكنيسة وقوله الشهير: «نحن الإيطاليون مدينون لكنيسة روما ولكهنوتها بأننا أصبحنا غير متدينين وسيئين، ولكننا مدينون لها أيضا بشيء أكبر.. وهو أن هذه الكنيسة عكفت وتظل تعكف على إبقاء دولتنا مُقسمة». ومن هذا المنطلق جاء سخط ماكيافيلي على الكنيسة ورجالها، ورأى أنها العائق الأكبر أمام قدرة أي أمير على توحيد إيطاليا، ذلك الهدف المنشود الذي بنى الرجل كل نظريته السياسية عليه.

خلاصة القول، فإن ماكيافيلي لا يمكن اعتباره رمزا للأخلاق ولو من خلال تمديد خيالنا السياسي، ولكن الرجل كان بكل تأكيد رمزا للوطنية، فلقد صاغ مبادئه السياسية على أسس تقوية الدولة والمفاهيم الوطنية، وهي الأسس التي يرفضها كثيرون اليوم لاعتقادهم بأنها تتنافى والأخلاقيات والحريات العامة ومفهوم الفردية، ولو عاش ماكيافيلي اليوم ووجه له أحد سؤالا عن دعوته لفكرة الديكتاتورية وانعدام الأخلاقيات في مفاهيمه، فأعتقد أن رده سيكون ضرورة أن يُحكم على آرائه من خلال زمنه وظروف بلاده، وأن فكرة المصلحة الجمعية تعلوا على المصلحة الفردية، كما أن فكرة تفتيت الدولة أو مؤسسات منها لصالح حريات فردية ضيقة إنما تمثل الإفساد الحقيقي للمجتمع، خاصة عندما يصبح الإنسان رمزا لفرديته دون إدراك لوعيه الجمعي.. ومع ذلك، يظل الجدل قائما بعد 501 عام في غير صالح ماكيافيلي.