«شاكا» الجبار

TT

لقد جمعتني مناسبة ثقافية مع أحد الأصدقاء الجنوب أفريقيين والذي قام بإلقاء محاضرة حول الإنجازات التي حققتها بلاده في القضاء على نظام الفصل العنصري والمشكلات السياسية التي تواجهها اليوم وكيفية السعي للتغلب عليها، والواقع أن هذا الرجل له تاريخه النضالي مقاتلا ومحاربا لنيل الحرية إلى أن أصبح فيما بعد سياسيا معروفا في بلاده، وقد تجاذبنا الحديث مدة بعد المحاضرة وفجأة وبلا سابق مقدمات جاء إلى ذهني مسلسل شاهدته وأنا في شبابي حول أحد الشخصيات التاريخية في جنوب أفريقيا والذي يجسد حياة أحد أهم القادة التاريخيين في هذه الدولة، فهو نموذج للقدرة على توحيد القبائل في منطقة «الناتال Natal» في الجنوب الشرقي لأفريقيا الجنوبية، ورمز للوحدة والتوحد، وإن كان الغرب قد سعى في كثير من المناسبات لمحاولة التشويش عليه وطمس إنجازاته من خلال التصوير الوحشي لشخصيته وسلوكياته والتي كانت بكل تأكيد تحت مستوى الإنسانية، ولكن إنجازاته كانت بكل تأكيد أيضا معجزة سياسية سمحت للقبائل الجنوب أفريقية بالتوحد فكانت اللبنة التي حاربت الاستعمار فيما بعد في حرب غير متكافئة انتهت باحتلال هذه الدولة.

تشير المصادر التاريخية إلى أن القبائل الأفريقية كانت متفرقة في نهاية القرن الثامن عشر في هذه المنطقة، ولم يكن هناك نظام موحد يجمعهم حتى ولو كانت هناك كثير من القواسم المشتركة على المستوى القومي أو الثقافي أو القيمي، كما أن هذه الكيانات المنفصلة تعودت على هذا النمط من الحياة غير المتجانسة سياسيا، ولكن هذا ما كان له أن يستمر طويلا، فلقد وُلد القائد الذي كتب له أن يوحد قدرا لا بأس به من قبائل وعشائر «الزولو» المتناثرة، وكان اسمه «شاكا» أو «شاجا» كما يحلو للبعض نطقه، والثابت تاريخيا هو أن هذا الرجل عاش طفولة بائسة بسبب رفض والده له، مما اضطره للنزوح بعيدا، لينشأ في عزلة من أسرته في منطقة «الناتال»، وفيها دخل الشاب «شاكا» في خدمة «مثوثوا» أحد القادة الأقوياء في المنطقة، وسمحت له الظروف بالانضمام لجيشه الصغير، حيث بدأ يتعلم فنون القتال وقيادة الرجال إلى أن أصبح فيما بعد رجل حرب من الطراز الأول، مما جعله يحظى بإعجاب وولاء كل من تعاملوا معه، خصوصا مع بزوغ قدراته على القيادة والتفاعل مع الجنود، وبمساعدة هذا الرجل استطاع «شاكا» أن يستولي على ملك أبيه بعد مماته، وهي العوامل التي ساهمت في تأهيله ليتولى قيادة قوات «الزولو» أو «السماء».

لقد تمتع «شاكا» بشخصية خشنة وعنيفة لازمته طوال حياته، أغلب الظن بسبب طفولته البائسة، ولكن بمجرد أن استولى على السلطة السياسية في عام 1816 بدأ ينظم الدولة الجديدة التي أراد أن يبنيها على أساس ثقافة وتقاليد الزولو، فكان أول شيء سعى إليه هو بناء جيش منظم على أعلى مستوى من التدريب والمعدات في ذلك الوقت، فلقد عمد الرجل إلى خلق جيش وطني من القبائل المختلفة، وقام بإبعاد الشباب عن ذويهم من خلال عملية تجنيد إجباري بحيث لا يسمح لهم بالانشغال بأية أنشطة اجتماعية، حتى أنه رفع سن الزواج للجيش إلى 35 سنة بعدما يكون قد أعطى الجندي في الميدان ما يمكن أن يُكافأ عليه، وقد أدخل نظام «الفوج Regiment» من أجل خلق الولاءات الداخلية في الجيش وزيادة المنافسة، كذلك قام بإدخال الحربة القصيرة سلاحا أساسيا للجيش، وهي التي يمكن استخدامها إما سلاحا يدويا بدلاً من السيف أو قذفها مثل الحربة، وهو ما أعطى جيشه ميزة نسبية على الجيوش الأخرى.

ولعل أبرز ابتكاراته على الإطلاق كان التشكيل التكتيكي الذي كان يدخل به هذا الرجل في معاركه المختلفة، فهو لم يضع تشكيلات قواته على خط واحد مستقيم كما كان الحال، ولكنه ابتكر نظاما مختلفا، بحيث يكون الجيش على شكل يقارب نصف الدائرة، فيكون القلب في مستوى أكثر انخفاضا من الجناحين، وهو ما كان يمثل مطمعا لخصومه، وبمجرد أن يبدأ الهجوم، يتقهقر القلب بعض الشيء فينقض الجناحان على العدو ليطوقانه من كل اتجاه في حركة التفاف مزدوج فيكون النصر الكامل حليفه، وبهذا الجيش والتكتيك استطاع «شاكا» أن يهزم كل القبائل التي واجهته والانتصار عليها وفرض الوحدة على هذه القبائل ليقيم أول دولة مترابطة في هذه المنطقة، أو كما يوصفها البعض بأنها كانت إمبراطورية حقيقية لشعب السماء أو الزولو. وواقع الأمر أن «شاكا» لم يستخدم فقط وسيلة القهر العسكري ضد أعدائه من أجل توحيدهم، ولكنه استخدم الوسائل السياسية أيضا من خلال عقد كثير من التحالفات مع القبائل المختلفة، والتي ضمنت له قدرا كبيرا من الولاء، كذلك فقد وضع «شاكا» نظاما اجتماعيا واقتصاديا قويا استطاع من خلاله ربط الأطراف والقبائل البعيدة بالمركز الجديد للدولة بشكل مركزي وقوى.

ولكن مثل هذه الدول كثيرا ما تصاب بداء عظيم يصيبها كما يصيب غيرها من أعتى الإمبراطوريات، وهو مفهوم الانتقال السلمي للسلطة، فلقد كان «شاكا» شخصية قوية وجبارة وعتيدة وعنيفة، وهو ما خلق له الكثير من الأعداء والذين خافوا بطشه وغطرسته، فكانت نهايته مأساوية، حيث تآمر عليه إخوته الثلاثة بعدما فقد الرجل صوابه بعد وفاة والدته والتي كانت أقرب الناس إليه ففرض سلسلة من السلوكيات الشاذة على شعبه لتخليد ذكرى والدته، وقد نجح أخوته الثلاثة في مهمتهم فتم قتل الملك «شاكا» وأعقب ذلك استيلاء أخيه «دنجاني» على الحكم، ولكن الرجل لم يكن يملك مواهب أخيه ولا عنفه، وفي سبيله من أجل إحكام السيطرة على مملكته قام بمطاردة كل رجال أخيه واستبدالهم بأهل الثقة من جانبه، وهو ما أفرغ الدولة من كثير من رجال الدولة الأشداء الذين استطاعوا أن يوحدوا الدولة ويرفعوا من شأنها.

وهكذا أخذت ذكريات «شاكا زولو» تمر في مخيلتي وأنا أنظر لصديقي السياسي الجنوب أفريقي لأتذكر الإرث التاريخي لأجداده، وأدركت أن هذا المحارب شبيه «بشاكا» مع اختلاف الوسائل والقيم والأخلاق بين الرجلين، فالأخير حارب لتوحيد القبائل، بينما حارب صديقي، ويظل يحارب إلى اليوم، للتغلب على الآفات الاجتماعية والسياسية والتي خلفها نظام الفصل العنصري في بلاده حتى بعد أكثر من 20 عاما من زواله، ولا أعتقد أن الحرب التي خاضها «شاكا» كانت أصعب من الحرب التي خاضها وسيظل يخوضها صديقي المناضل، فتوحيد الدولة بالسلاح أهون من خلق وصيانة بناء الدولة في ظل معطيات الفرقة والاختلافات والآفات العنصرية التي ولدها الاستعمار، فتوحيد الدولة سياسيا قد يأخذ من الزمن بعض الوقت، ولكن تثبيتها غالبا ما يأخذ من الجهد والرؤية والحكمة ما قد يفوق ذلك، ومع مشاهدتي لصديقي هذا يتحدث ازدادت قناعتي بأن تاريخ الأمم والشعوب إنما هي حلقات مترابطة مثل أدوار العمارة الواحدة.