«العبودية» في موريتانيا.. قضية فوق القانون

منظمات حقوقية دقت ناقوس الخطر ووضعت نواكشوط في المرتبة الأولى على «المؤشر العالمي للرق»

ازداد في السنوات الأخيرة الحضور السياسي للمتحدرين من شريحة العبيد السابقين حيث يرأس ثلاثة من أفرادها أحزابا سياسية تنشط جميعها في المعارضة
TT

وقف المرشح للانتخابات الرئاسية والمناضل الحقوقي الموريتاني بيرام ولد الداه ولد أعبيدي، أمام العشرات من أنصاره، وحرك عمامته السوداء، وبدأ خطابه بالحديث عن نيته تحرير جميع العبيد في موريتانيا؛ وقال: «سأحرر العبيد وأدخلهم معي إلى القصر الرئاسي». بنبرته الحادة وخطابه الراديكالي، أثار المناضل الحقوقي من جديد ملف العبودية في موريتانيا، التي تعيش على وقع حملة رئاسية يتنافس فيها خمسة مترشحين من بينهم اثنان ينحدران من شريحة الأرقاء السابقين التي تعرف محليا تحت اسم «الحراطين».

كانت تصريحات ولد أعبيدي لتمر دون تعليق لو أنها جاءت خارج سياق التنافس الانتخابي، ولكن مدير الحملة الانتخابية للرئيس المنتهية ولايته محمد ولد عبد العزيز، سيدي ولد سالم فسر تصريحات ولد أعبيدي على أنها «محاولة لاستغلال ورقة العبودية من أجل الحصول على أصوات الأرقاء السابقين، واتخاذها مطية للوصول إلى السلطة»؛ وقال ولد سالم: «أستغرب كيف يتم استغلال قضية العبودية التي لم تعد موجودة، أنا أنحدر من شريحة (الحراطين) وأؤكد أنه لا توجد حالة استرقاق في المحيط الذي أنتمي إليه».

لا تختلف حدة الخلاف بين الرجلين، عن حدة انقسام الموريتانيين بين من يؤكدون استمرار ممارسة العبودية في المجتمع، ومن ينفون وجودها ويؤكدون أن ما يوجد هو «مخلفات العبودية»، وهو الموقف الرسمي الذي تتبناه الحكومة التي أعلنت العام الماضي تأسيس «وكالة التضامن لمحاربة الفقر ومخلفات الرق»، كما سنت قوانين تجرم الرق وأسست محكمة مختصة في معالجة قضاياه.

في غضون ذلك، ظلت منظمات حقوق الإنسان الدولية تدق ناقوس الخطر بشكل دائم محذرة من انتشار العبودية في موريتانيا، ولعل أشهرها منظمة «وال فري فوندشن» الأسترالية التي أصدرت العام الماضي تقريرا وضع موريتانيا في المرتبة الأولى على «المؤشر العالمي للعبودية»، وبررت ذلك بأن أربعة في المائة من الموريتانيين تمارس عليهم العبودية، أي ما يتراوح بين 140 و160 ألف موريتاني، وهي أرقام أثارت استغراب كثير من الموريتانيين بينما عدها الحقوقيون «منطقية».

في هذا السياق يقول الناشط السياسي والحقوقي أحمد ولد صمب، لـ«الشرق الأوسط» إن «العبودية للأسف ما زالت ممارسة في المجتمع الموريتاني وذلك لظهور حالات منها بين الفينة والأخرى»، ويضيف ولد صمب أن «العقلية الاستعبادية ما زالت سائدة وتشكل مرجعية أخلاقية في المجتمع الموريتاني، وما دامت هذه العقلية موجودة وتلعب دورا في تراتبية المجتمع، فستظل العبودية موجودة، ولو أنها أصبحت تمارس في الخفاء».

من جهته، يؤكد المحامي والناشط القومي محمد ولد الشدّو أنه «لا يوجد عبيد أو عبودية في موريتانيا»، مشيرا في هذا السياق إلى أن آخر مبادرة أطلقها أطر ومناضلون من شريحة العبيد السابقين العام الماضي تحت اسم «ميثاق الحراطين» للمطالبة بالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للعبيد السابقين «قطعت الشك باليقين وعالجت التهميش والفقر والغبن بدل الحديث عن عبودية وهمية»، وفق تعبير ولد الشدّو.

* قوانين معطلة

* السنوات الأخيرة شهدت تطورا كبيرا في الترسانة القانونية التي تحرم ممارسة الرق وتعده جريمة يعاقب عليها القانون، حيث بدأت سنة 2007 بسن قانون تجريم الرق وتحديد عقوبات في حق من يدانون بممارسته، وتطور الأمر سنة 2011 عندما أدرج تجريم العبودية في الدستور؛ لتبدأ بعد ذلك السلطات في محاربة ما سمته «مخلفات الرق» من خلال «وكالة التضامن لمكافحة آثار الاسترقاق وللدمج ولمحاربة الفقر»، و«خريطة الطريق الوطنية لمكافحة مخلفات الرق»، وهي خطة وضعتها الحكومة بالتعاون مع هيئات من المجتمع المدني ومناضلين حقوقيين، وبدعم من طرف هيئات دولية.

في المقابل، تواجه السلطات الموريتانية انتقادات واسعة بالتهاون في تطبيق القوانين المجرمة للعبودية، حيث يقول أحمد ولد صمب الذي شارك منذ أكثر من عقد من الزمن في تأسيس حركة «نجدة العبيد» الحقوقية، إن «السبب الأبرز لاستمرار ممارسة العبودية هو عدم جدية الحكومات المتتالية في تطبيق القوانين، وكأنها سنت تلك القوانين على مضض وعن غير قناعة، وبالتالي أصبحت تتحايل على تطبيقها، فالقوانين كفيلة بالقضاء على العبودية، لو أنها طبقت»، ويضيف: «الدولة في بعض الأحيان عندما تواجه قضية استعباد تقف إلى جانب الجاني بدل أن تقف مع القانون. نحن لا نريدها أن تقف إلى جانب الضحية لأن القانون يحمل الضحية المسؤولية نفسها التي يحملها للجاني، ولكننا نريد من الدولة أن تقف مع القانون».

وفي سياق حديثه عن الوضع الحالي، قال ولد صمب إن «القوانين والإجراءات التي اتخذتها السلطات قوضت ممارسة العبودية إلى حد كبير، حيث لم يعد أحد يتباهى بأنه استعبادي، وأصبحت تمارس سرا كأي جريمة أخرى، ولكنها لم تقض عليها بشكل نهائي، حيث لم تعد تمارس إلا على من هو صغير جدا، أي القاصرين، أو من يعانون الأمية ومن هم مغيبون عن الواقع في المناطق البعيدة والريف، وبالتالي يمكننا القول إنه من حيث الكم شهدت العبودية تراجعا كبيرا نتيجة لنضالات أفراد من شريحة العبيد السابقين».

من جهة أخرى، يرى الصحافي الموريتاني أحمد ولد محمد المصطفى في حديث مع «الشرق الأوسط» أن «التعامل الرسمي مع ملف الاسترقاق مر بعدة مراحل طبعها في الغالب التعامل بمنطق الالتفاف على الضغوط الدولية والسعي لسحب البساط من تحت بعض الحقوقيين في الداخل، وللأسف الدولة الموريتانية لم تنظر للملف الشائك نظرة تضعه في إطاره الحقيقي بصفته عقبة في وجه قيام دولة مواطنة حقيقية»؛ وخلص ولد محمد المصطفى إلى أن «الإشكال في عمقه إشكال اجتماعي ولا يمكن أن يحل بالقوانين».

فيما أكد المحلل السياسي المختار السالم ولد أحمد سالم في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «القوانين التي سنتها السلطات الموريتانية لا تعدو كونها كلمة حق أريد بها باطل، فنظام ولد عبد العزيز يريد أن يقول لشريحة العرب السمر، وبالأخص الشريحة التي عانت من الاسترقاق في العقود الماضية: أنا حررتكم وأنا من وضع القوانين التي تجرم الاسترقاق».

وهنا يعود الناشط السياسي والحقوقي أحمد ولد صمب ليؤكد أن «الدولة كمؤسسة رسمية تسعى للحفاظ على البنية التقليدية والمرجعية الاستعبادية التي تؤسس عليها سياساتها، وتتخذها وسيلة للبقاء في السلطة».

* لا وجود للعبودية

* في المقابل، يصر بعض المثقفين الموريتانيين من القوميين العرب على أن العبودية لم تعد موجودة في موريتانيا، ويقول الكاتب الصحافي المختار السالم ولد أحمد سالم إن «هنالك شريحة من العرب السمر، بعضها فقط عانى من الرق عبر التاريخ، وبعضها لم يسبق أن تعرض للاسترقاق، وأول دستور في موريتانيا نص على تساوي جميع المواطنين وجرم العبودية، وجاء بعد ذلك أكبر محرر للعبيد في موريتانيا وهو الجفاف، الذي أرغم الأسياد على التخلي عن عبيدهم والنزوح باتجاه المدن».

في السياق التاريخي، يشير ولد أحمد سالم إلى أن موريتانيا محكومة منذ عدة قرون من طرف نخبة ناتجة عن تحالف بين قبائل الزوايا التي تحمل راية العلم والدين والقبائل التي تحمل السلاح، وتعيش هذه النخبة منذ عقود صراعا داخليا على النفوذ والسلطة، بين العسكريين والمدنيين، وأشار ولد أحمد سالم إلى أن «ملف العبودية استغل أيما استغلال في هذا الصراع، ولكن عند النزول إلى أرض الواقع والبحث في العاصمة نواكشوط التي يقطنها ثلث سكان موريتانيا، فلا يمكننا أن نعثر على حالة استرقاق واحدة، وبالتالي، فإن ملف العبودية يستغل لأغراض سياسية، وفي النهاية يكون العبيد السابقون (الحراطون) هم الضحية لأنهم يعانون الفقر والأمية والمرض، وفي الوقت نفسه هم مجرد وقود لمعركة سياسية لا غير».

وفي سياق متصل، دافع المحامي الموريتاني محمد ولد الشدّو عن الأنظمة السياسية التي حكمت موريتانيا، وقال إن كلا من المختار ولد داداه أول رئيس للبلاد بعد الاستقلال ومحمد ولد عبد العزيز الرئيس الحالي، قاما بأدوار مهمة في مكافحة الرق والقضاء عليه، وأضاف: «كما أبلى مثقفو وكتاب وشعراء وفقهاء (البيظان) بلاء حسنا في محاربة الرق والتهميش والغبن؛ بدءا من ناصر الدين وأحمد بابا التينبكتي، ومرورا بالشاعر والزعيم محمد الحنشي ولد محمد صالح والشيخين محمد سالم ولد عدود ومحمد ولد سيدي يحي. ولكن المتطرفين حاربوهم واتخذوهم أعداء بدلا من أن يرفعوهم ويشكروا سعيهم، إلا أن قضية (الحراطين) بالنسبة لبعضهم مطية للصعود إلى رأس الهرم والحصول على نصيب لا يستحقه من الكسرة».

* الحجم السياسي

* على الرغم من أن شريحة العبيد السابقين تعد من أفقر شرائح المجتمع الموريتاني، وأكثرها جهلا حيث تعيش في مناطق نائية ومهمشة، فإن بعض الشخصيات المنحدرة من هذه الشريحة تقلدوا مناصب وزارية رفيعة، حيث سبق أن شغل أحد أفرادها منصب رئيس الوزراء في عهد الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطائع، وينتمي رئيس البرلمان الحالي لهذه الشريحة، وكان رئيس حزب التحالف الشعبي التقدمي مسعود ولد بلخير، أول عبد سابق يترشح للانتخابات الرئاسية سنة 2003، وتولى سنة 2007 رئاسة البرلمان، ويرأس حاليا المجلس الاقتصادي والاجتماعي.

وقد ازداد في السنوات الأخيرة الحضور السياسي للمنحدرين من شريحة العبيد السابقين، حيث يرأس ثلاثة من أفرادها أحزابا سياسية تنشط جميعها في المعارضة بشقيها الراديكالي والمعتدل، ويتنافس في الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في 21 يونيو (حزيران) 2014، خمسة مترشحين من ضمنهم مترشحان ينتميان لشريحة العبيد السابقين، هما رئيس حزب الوئام الديمقراطي الاجتماعي بيجل ولد هميد، والمناضل الحقوقي بيرام ولد أعبيدي رئيس حركة مناهضة للعبودية تعمل من دون ترخيص.

وينظر مراقبون إلى الحملة الدعائية التي تسبق هذه الانتخابات، على أنها كرست الخطاب الفئوي والعرقي بشكل كبير، حيث إن المترشحين خصصوا حيزا من خطاباتهم للحديث عن العبودية وحقوق العبيد السابقين، كما أن الرئيس المنتهية ولايته محمد ولد عبد العزيز، شكل طاقما خاصا لتنظيم حملة دعائية موازية لحملة الأحزاب السياسية الداعمة له، وسلم قيادة هذا الطاقم لشخصية تنحدر من شريحة العبيد السابقين، وهو ما قرأه مراقبو الشأن السياسي على أنه محاولة لسحب البساط من تحت من يحملون خطابا عرقيا قويا.

وقد أثار الحضور القوي للعبودية في خطابات المتنافسين في الانتخابات استغراب المراقبين، فقال الكاتب الصحافي المختار السالم ولد أحمد سالم إن «من يستمع لخطابات المترشحين يظن أن في موريتانيا أسواق نخاسة، في الوقت الذي أتحدى فيه أي إنسان أن يعثر على عبد واحد في موريتانيا، اللهم إلا إن كانت حالة استرقاق معزولة ومخفية كما يحدث وأن نعثر على بائع مخدرات، وبالتالي، فإن العبودية أصبحت خفية ومجرمة والمجتمع يرفضها».

أما الناشط السياسي والحقوقي أحمد ولد صمب، فأكد أنه «من الطبيعي أن يكون الخطاب السياسي فئويا على هذا النحو، في ظل غياب الخطاب المتزن الذي عهدناه عند بعض قادة النضال ضد العبودية»، وأشار إلى أن خطابات المترشحين تتوزع بين «خطاب بيرام ولد الداه ولد أعبيدي الذي يوصف بالراديكالي، وخطاب بيجل ولد هميد الذي لا يعد نفسه من أبناء شريحة العبيد السابقين لأنه لا يعترف بوجود هذه الشريحة أصلا، وخطابه ذو طابع يميني شبه متطرف، أما ولد عبد العزيز فحديثه عن العبودية متناقض، وكأنه يتكلم من دون قناعة وإنما تماشيا مع ضرورة التنافس الانتخابي».

ويشير ولد صمب إلى أن المترشحين يتنافسون للحصول على أصوات شريحة العبيد السابقين، بحكم أنها تمثل أغلبية وتعاني الجهل والفقر، وبالتالي ليست عصية على غرار شريحة (البيضان) العرب فاتحي البشرة، التي يرتفع فيها مستوى التعليم وربما تكون أكثر استجابة لدعوات المعارضة الداعية إلى مقاطعة الانتخابات؛ ولكن ولد صمب في حديثه مع «الشرق الأوسط» عاد ليؤكد أن «هذه الانتخابات تعكس تطلع (الحراطين) لاحتلال موقعهم الطبيعي، فترشح مسعود ولد بلخير لرئاسيات 2003 كان رسالة لتأكيد أن (الحراطين) بشر عاديون يحق لهم ما يحق للآخرين ويجب عليهم ما يجب على الآخرين، وبالتالي فيحق لهم التطلع لحكم البلد».

وبين تطلعات العبيد السابقين للوصول إلى رئاسة الجمهورية، ونظرة المجتمع لهم على أنهم عبيد سابقون، يجمع المراقبون على أن معركة القضاء على العبودية في موريتانيا هي في النهاية «معركة عقليات» لتغيير نظرة المجتمع الموريتاني للمنحدرين من شريحة العبيد السابقين.

وفي هذا السياق، حذر الناشط السياسي أحمد ولد صمب من «دعاية صامتة تقوم بها التلفزة الرسمية عندما تعرض برنامجا أدبيا يشارك فيه رجال ينحدرون من شريحة (البيضان) وهم يتبادلون القصص ويحكون الشعر على وقع كؤوس شاي يعده شاب ينحدر من شريحة العبيد السابقين يجلس على الهامش وكأنه غير معني بالموضوع كقطعة من الديكور.. مثل هذه المشاهد تزرع في عقل المتلقي نزعة استعبادية واستعلائية».

وخلص ولد صمب إلى أن «نضال العبيد السابقين في موريتانيا كان نضالا نموذجيا وسلميا، فلم يكن في يوم من الأيام يدعو إلى الانفصال أو حمل السلاح، بل كان سلميا وأخويا، ومبنيا على الإقناع بدل فرض الرأي، وأظنه قد بلغ المرحلة النهائية منه».

ومع دخول نضال العبيد السابقين في موريتانيا مرحلة جديدة بإعلان «ميثاق الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحراطين»، وتنظيم مسيرة بنواكشوط للعبيد السابقين، ازدادت أعداد من يدعون إلى وضع سياسة «تمييز إيجابي» لصالح المنحدرين من شريحة العبيد السابقين لانتشالهم من أوضاعهم المعيشية الصعبة؛ بينما هنالك أصوات أخرى تدعو إلى حزم السلطات في تطبيق القانون المجرم للعبودية خاصة في المناطق النائية حيث تمارس العبودية بعيدا عن أعين الرقيب، مما جعل بعض المنظمات الحقوقية تزيد من نشاطها في الأرياف للتنقيب عن حالات استعباد جديدة.