الحبيب الصيد.. سيد القصبة

خبير الاقتصاد والأمن التونسي «الشيخان» امتصا به غضب أنصارهما

TT

أحدث الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي مفاجأة جديدة بين أنصاره وخصومه عندما أسقط «في آخر لحظة» كل أسماء المرشحين لرئاسة «أول حكومة في عهد الجمهورية الثانية» وحسم الخلافات الداخلية بين مختلف «الأجنحة» داخل حزبه عبر اختيار الخبير الاقتصادي والأمني والسياسي المخضرم الحبيب الصيد لتشكيل الفريق الحكومي الجديد. فاختيار الشيخ السبسي كما يطلق عليه في تونس وجد تأييدا من الشيخ الغنوشي الذي سعى هو الآخر لامتصاص غضب أنصاره.

فمن هو الحبيب الصيد؟ ولماذا وقع الاختيار عليه؟ ولماذا الآن؟

من يتابع السيرة الذاتية للحبيب الصيد وبقية رؤساء حكومات تونس منذ استقلال تونس عن فرنسا في 1956 يكتشف أنه ثاني شخصية مستقلة عن كل الأحزاب تعين على رئاسة الوزراء بعد المهدي جمعة الذي تسلم الحكم قبل عام. لكن الحبيب الصيد يلتقي مع 11 من بين رؤساء الحكومات الـ13 في الانتماء إلى منطقة «الساحل» التي ولد فيها الرئيسان اللذان حكما تونس خلال 55 عاما الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.

خلال 5 عقود ونصف كان كل رؤساء حكومات تونس من منطقة «الساحل» ما عدا اثنين حكما أقل من عامين هما الباجي قائد السبسي من العاصمة الذي تولى رئاسة الوزراء نحو 9 أشهر في 2011 ثم علي العريض من قرية صغيرة في أقصى الجنوب التونسي وقد تسلم بدوره الحقيبة لمدة 9 أشهر فقط عام 2013. وبذلك يكون «سيد قصر الحكومة بالقصبة» الحبيب الصيد من محافظة سوسة مثل الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ورؤساء حكوماته الهادي البكوش وحامد القروي ومحمد الغنوشي.. وينتمي إلى نفس المنطقة التي ينحدر منها رئيس الحكومة الحالي المهدي جمعة، المولود بمحافظة المهدية جنوبي محافظة المنستير موطن بورقيبة وغالبية وزرائه ورؤساء حكوماته منذ الستينات: أحمد بن صالح والباهي الأدغم والهادي نويرة ومحمد مزالي. وكانت قيادة حركة النهضة اختارت رئيسا لحكومتها الأولى في 2011 مهندسا من موطن بن علي وبورقيبة أيضا هو حمادي الجبالي. وفسر المطلعون على مفاوضات الكواليس القرار وقتها بحرص زعماء حركة النهضة - وجلهم من الجنوب والجهات الغربية للبلاد - على «المصالحة مع منطقة الساحل التي ينتمي غالبية كوادر الدولة إليها منذ استقلال تونس عن فرنسا».

* خبرة طويلة

* ولا يختلف المراقبون السياسيون في تونس حول استقلالية الحبيب الصيد وخبرته الطويلة في المؤسسات الإدارية والاقتصادية والأمنية التونسية والدولية. لكن بعض الجامعيين والمراقبين - مثل عالم الاجتماع إبراهيم العمري والإعلامي محمد الحمروني والمحامي عبد الرؤوف العيادي - يتساءلون: هل سيكون الصيد فعلا رئيس حكومة مستقلا عن كل الأحزاب بما في ذلك قيادة نداء تونس التي رشحته أم سيلعب دور «الوكيل» للأحزاب الكبرى التي اختارته أو دعمته؟ وهل سيقتصر على التشاور والتعاون معها أم سيكون «مستقلا في خدمة الأحزاب»؟

التقييم السائد عن الحبيب الصيد بين المتحمسين له ومعارضيه إيجابي جدا إجمالا..

بل لن تسمع بين منتقدي تعيينه من يشكك في كفاءته ومؤهلاته ونزاهته ونظافة يديه، بما في ذلك بين بعض «زعامات اليسار» مثل حمه الهمامي زعيم «الجبهة الشعبية» ومحمد عبو زعيم حزب «التيار الديمقراطي» وعبد الرؤوف العيادي زعيم حزب «وفاء» الذين أعربوا عن «خيبة أمل» من اختيار قائد السبسي والمقربين منه لوزير داخلية سابق «تحمل مسؤوليات عليا في عهد بورقيبة وبن علي بينها مسؤوليات حكومية وأمنية» وخطة مدير ديوان وزارة الداخلية والتنمية المحلية في عهد وزيري الداخلية محمد بن رجب وعبد الله القلال بين 1979 و2001.

* مقرب من قائد السبسي والإسلاميين

* لكن نسبة المرحبين بالحبيب الصيد تفوق بكثير نسبة معارضيه بصرف النظر عن استقلاليته وعلاقاته بالأحزاب الكبرى المؤثرة في اللعبة السياسية في البلاد مثل النداء والنهضة والجبهة والحزب الوطني الحر. ولئن أسندت مسؤولية اختيار الصيد إلى رئاسة حزب نداء تونس - الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية في 26 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي - فإن جل الأحزاب والنقابات والمنظمات الحقوقية رحبت باختياره ونوهت بخصاله الإنسانية والعلمية وبخبرته الطويلة في قطاعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والأمن.. مثلما جاء على لسان محسن حسن القيادي في الحزب الوطني الحر وزياد العذاري الناطق الرسمي باسم حزب حركة النهضة.

بل لقد بادر الأمين العام لحركة النهضة ورئيس الحكومة الأسبق علي العريض بتهنئة الحبيب الصيد. وكان العريض والصيد أشرفا معا على قطاع الأمن في عهد أول حكومة تشكلت بعد انتخابات أكتوبر 2011: العريض وزيرا للداخلية والصيد وزيرا مستشارا للأمن وعضوا في مجلس الوزراء في مكتب رئيس الحكومة آنذاك حمادي الجبالي.

هذا «التجاوب» بين الصيد وزعامات سياسية مختلفة - بينها قيادات حركتي نداء تونس والنهضة - جعل بعض المراقبين يصفون رئيس الحكومة الجديد بكونه «شخصية مقربة في نفس الوقت من قائد السبسي ومعارضيه الإسلاميين والقوميين والإسلاميين، مثلما ورد على لسان النقابي والحقوقي عبد الحميد الفهري.

* أولويتا الاقتصاد والأمن

* وإذا كان من بين نقاط القوة عند الحبيب الصيد أنه استلم حقيبة الداخلية برتبة وزير لأول مرة في عهد حكومة الباجي قائد السبسي عام 2011 فإن من يعرفون الرجلين يؤكدون أن «الرئيس الجديد لتونس أخذ بعين الاعتبار عند حسم اسم رئيس الحكومة القادمة عامل الثقة المتبادلة بينهما عندما عملا مع مباشرة بعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 التي أفرزت فلتانا أمنيا غير مسبوق»، كما ورد على لسان الإعلامي والكاتب صلاح الدين الجورشي.

وحسب مصادر مسؤولة في حزب نداء تونس والأطراف السياسية القريبة من قيادته المركزية - بزعامة رئيسه الجديد محمد الناصر ونائبه حافظ قائد السبسي مسؤول الهياكل في الحزب ونجل رئيس الجمهورية - فإن الانحياز في آخر لحظة للحبيب الصيد أخذ بعين الاعتبار مسائل كثيرة من بينها احترام تعهد سابق قدمه الزعيم المؤسس الباجي قائد السبسي بأن لا تسند رئاسة الحكومة لشخصية من حزب «النداء» حتى لا يخسر حلفاءه ومنافسيه في البرلمان الذي أعطاه دستور تونس أكبر الصلاحيات.»..

* كفاءة علمية

* ويعتقد الخبير الاقتصادي والسياسي محمود جاء بالله أن قائد السبسي رجح اسم الحبيب الصيد إيمانا منه بكونه «كفاءة علمية واقتصادية وأمنية مشهود بها في تونس والمؤسسات الأوروبية والدولية التي عمل بها مطولا ما بين 1975 إلى موفى العقد الماضي».

وكانت تلك الخبرة الطويلة وراء تسمية الحبيب الصيد عندما كان وزيرا في حكومتي 2011 و2012 بـ«الوزير المخضرم».

لكن يسجل لقائد السبسي أنه رغم انتقادات «الثوريين» في المعارضة التونسية عام 2011 له بسبب اعتماده على أحد «رموز دولة الاستبداد في عهد بن علي» فقد تمسك به وسار في نفس المنحى حكومة «الترويكا» بزعامة الأمين العام السابق لحركة النهضة حمادي الجبالي.

ودافع قائد السبسي ثم زعامات النهضة وحلفائهم في «الترويكا» عن الصيد ونوهوا بكون «المسؤوليات التي تحملها في وزارة الداخلية في عهد بورقيبة وبن علي كانت أساسا تنموية اقتصادية وليست أمنية فضلا عن نجاحاته في مؤسسات دولية عمل بها من بينها «مؤسسة دولية للزراعة والزيوت «في إسبانيا خلال العقد الأخير من حكم بن علي.

الحبيب الصيد تولى خلال العشرين عاما الماضية مسؤوليات كبيرة في الإدارة وخصوصا في المؤسسات الاقتصادية والتنموية والأمنية جهويا ووطنيا ودوليا.. فضلا عن كونه جمع في تكوينه بين الدراسات الاقتصادية في تونس ثم الهندسية الزراعية الاقتصادية في أميركا.. الأمر الذي أهله للعمل مع وزراء بارزين للأمن والاقتصاد والزراعة في العقدين الماضيين بينهم محمد بالرجب وعبد الله القلال ومحمد الحبيب حداد. ويعتبر عالم الاجتماع السياسي التونسي إبراهيم العمري أن التسليم بضغط أولوية التحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجه تونس اليوم «كان وراء اختيار شخصية مثل الحبيب الصيد لرئاسة الحكومة». ويعتقد الإعلامي محمد الحمروني أن «وراء اختيار رئيس حكومة تخرجه في كلية الاقتصاد والحقوق بتونس ثم جامعة هندسة اقتصادية وزراعية أميركية في كاليفورنيا إرادة سياسية من قائد السبسي ورغبة في توجيه رسائل واضحة للرأي العام والسياسيين وصناع القرار حول «الصبغة الاستعجالية» للملفات الاقتصادية والتنموية والأمنية المطروحة على سيد قصر القصبة الجديد.

* السياسة في قرطاج والاقتصاد والأمن في القصبة

* لكن بعض الخبراء والمحللين السياسيين مثل صلاح الدين الجورشي وإبراهيم العمري ومحمود جاء بالله يخشون من أن تطغى «الصبغة التقنية الاقتصادية والأمنية للصيد على صبغته السياسية بما ينذر بأن تجد تونس نفسها مجددا في مرحلة تحتكر فيها السياسة من قبل ساكن قصر قرطاج فيما تختزل صلاحيات رئيس الحكومة ووزرائه في القصبة في «متابعة» الملفات الاقتصادية والتنموية والأمنية.

وفي هذا السياق حذر الجامعي إبراهيم العمري من أن يكون «الحبيب الصيد» مجرد «موظف كبير» يتولى خطة «رئيس حكومة بالوكالة» بينما تبقى كل الصلاحيات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية المهمة في قصر قرطاج.

وجاءت مثل هذه التحذيرات في وقت أكد فيه قياديون في حزب قائد السبسي من احتمال توظيف التحديات الأمنية والعسكرية الداخلية والإقليمية التي تواجه تونس لإضعاف دور رئيس الحكومة الجديد وتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية ولن يختزلها في الإشراف على المؤسستين العسكرية والدبلوماسية على حد القيادي في حزب نداء تونس بوجمعة الرميلي المدير التنفيذي الجديد للحزب.

كما أوضحت تصريحات محسن مرزوق - المستشار السياسي الجديد في قصر قرطاج - أن «الرئيس التزم بأن يكون رئيسا لكل التونسيين والتونسيات بما في ذلك الذين لم ينتخبوه وهو ما يعني اضطلاعه بدور سياسي أكبر ومسؤول عن تكريس الوحدة الوطنية».

ويعتبر تعيين خبير في التنمية الاقتصادية والجهوية والشؤون الزراعية والأمنية على رأس الحكومة الجديدة مؤشرا إضافيا على أن الملفات السياسية والدبلوماسية والعسكرية ستكون أساسا من أنظار الديوان الرئاسي بينما «ستكون أولوية الحكومة محاولة رفع التحديات الاقتصادية الاجتماعية والأمنية».

* غاضبون..ومتفائلون

* هذا التعيين لقي ترحيبا في أوساط كثيرة من ناخبي قائد السبسي وحزبه في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الماضية بما في ذلك بين ممثلي الإدارة ومؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية. ويتطلع آخرون لمعرفة تشكيلة الحكومة وإن كانت ستضم شخصيات من الأحزاب البرلمانية وغير البرلمانية أم لا.. في وقت تردد فيه أن الحزب الوطني الحر بزعامة رجل الأعمال سليم الرياحي قد يفوز بـ3 حقائب اقتصادية وتنموية - بينها البيئة والتجارة - فيما قد تسند حقيبتان لكل من حركتي آفاق الليبيرالية و«المسار» الاشتراكية.. وأوردت مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط» أن فيما خلافات كبيرة تشق حركة النهضة الإسلامية بعد ما تردد عن تلقيها لعرض حول احتمال إسناد 5 حقائب وزارية لشخصيات محسوبة عليها.

لكن يبدو أن عدد الغاضبين بعد تعيين الصيد كبير بين اليساريين داخل حزب نداء تونس وخارجه..لا سيما في «الجبهة الشعبية» بزعامة حمه الهمامي.. هذه التناقضات داخل الطبقة السياسية وغيرها ستكون الامتحان الأول للحبيب الصيد الذي بدأ ماراثون مشاوراته مع الفاعلين السياسيين والاقتصاديين في البلاد استعدادا لتشكيل فريقه الحكومي الذي يؤمّل مقربون من قائد السبسي أن يكون جاهزا قبل الموكب الدولي الذي سيقام لتنصيب رئيس الجمهورية الجديد على هامش الاحتفالات بـ«الذكرى الرابعة لثورة 14 يناير2011».. أمل هل يتحقق؟