من التاريخ: المعركتان الفاصلتان في الحرب الأهلية الأميركية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لقد كان المشهد العسكري دمويا في الحرب الأهلية الأميركية بحلول عام 1863، حيث ظلت الجيوش الاتحادية تحت قيادة الرئيس لنكون على قوتها المترامية من خلال رصيد لا ينتهي من العدة والعتاد والجنود، بينما ظلت جيوش الكونفدرالية تحت القيادة العسكرية للجنرال ليي تعاني من مشكلات جمة على رأسها الندرة النسبية للجنود بسبب النقص العددي لهذه الولايات الجنوبية، وعدم وجود قاعدة صناعية بهذه الولايات مقارنة بالشمال، فضلا عن الحصار البحري المفروض علي موانئها من قبل البحرية الاتحادية، وهو ما أثر على تجارتها بما فيها وارداتها من السلاح، وظلت كل مساعي الكونفدرالية لإيجاد حلفاء في فرنسا وبريطانيا تذهب أدراج الريح، وقد انعكست كل هذه الحقائق على المسرح العسكري والذي ظل بدرجة أو بأخرى متكافئا بشكل نسبي من خلال معارك متفرقة في الشرق والغرب لم تحسم لصالح أي من الطرفين، ولكن الملاحظ خلال هذه الفترة أن جيوش الاتحاد كانت لها سيطرة ملحوظة بسبب الميزة النسبية لها رغم أنها مُنيت في الكثير من الأحيان بانتكاسات عسكرية، وهو ما دفعها إلى محاولة التركيز على الاستيلاء على النقاط الاستراتيجية لدى الكونفدرالية والدخول في معارك استنزاف واسعة النطاق، التي لم تحقق مكاسب عسكرية كبرى ولكنها كانت تستهلك قوة الجيوش الكونفدرالية، والتي كانت قيادتها العسكرية أفضل نسبيا من قيادة جيوش الاتحاد.

لقد ظل هذا الوضع حتى يوليو (تموز) 1863، وهو الشهر الذي يمكن القول إن جيوش الاتحاد حسمت فيه الحرب الأهلية لصالحها من خلال معركتين شهيرتين، الأولى في الأول من يوليو والمعروفة باسم فيكسبورغ (Vicksburg) والثانية معروفة باسم جيتيسبورج (Gettysburg)، فلقد أدرك الاتحاديون أن الحرب لن تحسم إلا من خلال الاستيلاء على مدينة فيكسبورغ الواقعة على نهر الميسيسيبي التي كانت مركزا للتجمع العسكري والتجارة وملتقى استراتيجي هام يكاد يكون أهم مركز للجنوب، ولو استولى عليه الاتحاديون لشطروا الكونفدرالية إلى نصفين، وقد سعت جيوش الاتحاد للسيطرة على هذه المدينة بأي ثمن بلا جدوى، فلقد استمرت المحاولات للاستيلاء على هذه المدينة لمدة أشهر، خصوصا من خلال البحرية الاتحادية، ولكن المدينة لم تستسلم بسبب موقعها الحصين المرتفع عن النهر، ولكن سقوط ولاية لويزيانا ساهم بشكل كبير في نقل مشاة الجيوش الاتحادية إلى هذه المنطقة، وقد كانت قيادة الجنرال يوليسيس غرانت والجنرال شيرمان حاسمة في هذا الأمر، فبعد محاولات كثيرة فاشلة للهجوم المباشر بثمن عالٍ للغاية، قرر غرانت أن يفرض الحصار على المدينة من كل الاتجاهات تاركا عاملَي الجوع ونفاد الذخيرة ليحسما الأمر، وبالفعل بعد 46 يوما من الحصار استسلمت المدينة في عيد الاستقلال (4 يوليو) وأصبحت الكونفدرالية منقسمة إلى شطرين وجيوش الاتحاد تستعد للتحرك غربا للقضاء على جيوش الكونفدرالية بعد أن حرمتها من أحد مراكزها الأساسية.

أما على المسرح الغربي فإن جيوش الاتحاد لم تكن في أحسن أحوالها، فلقد قرر الجنرال ليي أن يغامر بكل ما لديه من أجل الاستيلاء على العاصمة واشنطن ونقل الحرب إلى عقر دار الشمال، ولو نجحت جيوش الكونفدرالية في ذلك لأصبح وضع الاتحاد سيئا للغاية ولامتدت الحرب الأهلية لسنوات إضافية بالاستيلاء على عاصمتها وشرخ كيانها السياسي، وقد تحرك هذا الجيش الذي كان أكبر الجيوش الكونفدرالية نحو الشمال في مدينة جيتيزبورغ في ولاية بنسلفانيا، ودارت معركة قوية في المدينة فلم يستطع جيش الاتحاد الصمود طويلا أمام جحافل الخصم، وبدأ يتراجع صوب المرتفعات القريبة من المدينة، وهنا برزت عبقرية مييد (Meade) قائد الجيش الاتحادي، حيث جمع قواته في المرتفعات الجنوبية للمدينة ووضعها صفا مستقيما لمسافة 3 أميال ينزوي هذا الصف شمالا نحو اليمين في زاوية شبه مستقيمة لحماية ميمنة الجيش من أية التفافات للعدو، وقد كان مييد قائدا بارعا ذا خلفية هندسية وأدرك أن المرتفعات تمثل له وسيلة دفاعية جيدة أمام القوة الغالية للكونفدرالية، وكانت تعليماته واضحة، وهي أن المعركة ستكون دفاعية بالنسبة إلى جيشه، ولن يخطو نحو الهجوم إلا بعد كسر موجات هجومه واستنزافه، وكان المبدأ الأساسي الذي ذرعه لقادته هو عدم التنازل تحت أي ظرف عن المواقع المرتفعة والتحصينات.

بدأت المعركة بمناوشات على خطوط الجيش الاتحادي، وفي يوم 2 يوليو أمر ليي بهجوم على ميسرة الجيش الاتحادي في محاولة للالتفاف حوله، وقد كادت المحاولة تنجح لولا أن سلاح الفرسان فقد بوصلته العسكرية بسبب كثافة الأشجار، ولكن المعركة استمرت بشكل قوي للغاية خلال الساعات التالية على الجبهة كلها، ومع ذلك فقد كانت دفاعات جيش الاتحاد حصينة، إلى أن حدث بها شرخ قوي بسبب خروج أحد قواده ويدعى سيكلز (Sickles) عن تعليمات القيادة في محاولة عنترية حمقاء لنيل الشرف، فتقدم بلوائه من قلب الجيش ونزل عن المرتفعات العالية لمواجهة العدو تاركا هوة واسعة بينه وبين باقي الجيش، وهو ما دفع الجيش الكونفدرالي للهجوم عليه والسعي لحصاره بمعزل عن باقي الجيش. لو نجحت هذه العملية لأصبح الجيش الاتحادي منقسما إلى ميمنة وميسرة وبلا قوة تذكر في القلب، ولكن سرعان ما تدارك القائد مييد الموقف على الفور حيث ركز مدفعيته لضرب الجيش الكونفدرالي والدفع بالاحتياطي لتغطية الفجوة الناجمة عن هذا التحرك الأحمق لسيكلز فأرسل له المدد من الجيش، وجمع ما تيسر له من المدفعية نحو القلب لتوفير الحماية اللازمة لهذا اللواء المنشق، وعلى الرغم من سحق الهجوم الكونفدرالي المضاد، إلا أن هذا الخطأ التكتيكي أدى إلى استغلال القائد ليي للتحركات المختلفة للخصم لسد الفجوة في الوسط على حساب الميسرة التي بدأت تضعف، وهو ما دفعه إلى تجهيز هجوم خاطف على ميسرة جيش الاتحاد في جنح الليل، الذي كانت تحرسه قوات من 1400 جندي مقابل 4500 جندي كونفدرالي، ولكن استبسال المدافعين والظلام الدامس منع نجاح هذه المحاولة التي لو نجحت لأصبح وضع جيش الاتحاد شبه ميؤوس منه، حيث كان سيتم تطويقه على الفور، وهنا أدرك مييد انكشاف الميسرة فأرسل التعزيزات على الفور لردع أي هجوم جديد بحلول الصباح.

وعندما فشلت كل المناورات أمام جيش الكونفدرالية، فكر ليي في أن يدفع جنوده بهجوم مباشر على طول الجبهة مركزا على القلب مرة أخرى، لا سيما أن فرص التطويق باتت مستبعدة، وهنا يمكن القول إن ليي «اقترف» خطأ استراتيجيا بشنه هجوما مباشرا في الوقت الذي كان من المفترض ضرورة الانتظار لفتح ثغرة أخرى في دفاعات الاتحاديين، كذلك فقد كان يجب عليه أن يدرك أن جيشه كان مطالبا بتخطي ما يقرب من كيلومترين من المسافة قبل الوصول إلى الخصم، وهي مسافة كبيرة للغاية، خصوصا أن الخصم كان على تبة عالية، ومن ثم استحالة نجاح هذه المحاولة اليائسة، وقد دفع ليي ثمنا باهظا لهذا الخطأ التكتيكي، فقبل إدراك قواته لدفاعات الخصم للاشتباك معه كانت مدفعية الاتحاد من أعلى التبة قد أحاطت بقوات ليي المهاجمة، وهذه كانت العملية الفاصلة التي حسمت المعركة لصالح الاتحاديين وأدت إلى انسحاب فلول الكونفدرالية بعدما فقدوا القدرة على التجمع والسيطرة الميدانية، وتبع ذلك هجوم الجيش الاتحادي بكل قوته ودحر قوات الخصم، الذي فر تاركا مدينة جيتيزبورغ تحت رحمة الاتحاديين والذين استولوا عليها.

لقد أدت معركة جيتيزبورغ إلى هزيمة الجنرال ليي فكان لها أكبر الأثر في رفع الروح المعنوية لجيوش الاتحاديين في كل مسرح العمليات، كما أنها قوضت أية فرصة للكونفدرالية لنقل القتال إلى الشمال، وباتت هزيمة الكونفدرالية في شهر يوليو 1863 مسألة وقت لا غير، رغم استمرار جيوشها شرقا وغربا، ومن هذه الخطوة بدأت قواتها تتراجع أمام جيوش الاتحاد بشكل غير منظم، وأصبح الأمل في انتصار الكونفدرالية أمرا ميؤوسا منه مع مرور الوقت، خصوصا عندما أعلن الاتحاد إلغاء الرق وفتح المجال أمام انضمام الرقيق إلى الجيش الأميركي، وهي الخطوة التي ساهمت في تدمير القدرة الكونفدرالية على الصمود طويلا كما سنرى.