الانتخابات الرئاسية اللبنانية: لاعبون دوليون.. و«كومبارس» محلي

فرنسا احتلت لبنان وانتدبت عليه لكنها كانت الأقل تأثيرا في اختيار رؤساء عهد الاستقلال

TT

يرسم التحرك الفرنسي الأخير، الذي قاده مبعوث باريس بين عواصم المنطقة لتحريك ملف انتخابات الرئاسة اللبنانية، الخطوط المبدئية لأزمة الرئاسة اللبنانية الشاغرة منذ 25 مايو (أيار) الماضي، حيث يلعب العامل الخارجي فيها الدور الأساس، فيما يبقى للبنانيين دور «الكومبارس» لتنفيذ التوافقات الإقليمية والدولية الكبرى.

وينص الدستور اللبناني على ولاية من 6 سنوات لرئيس الجمهورية، غير قابلة للتجديد أو التمديد. ويتم انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري من قبل النواب، لا من الشعب مباشرة. وتأتي هذه العملية تتويجا لـ«الضوابط» السياسية والطائفية لعملية الانتخاب. فالانتخاب من قبل النواب يجعل المفاجآت شبه معدومة، خصوصا وسط وضوح بالغ في مواقف الكتل السياسية وانقسامها الحاد بين فريقين أساسيين هما قوى «8» التي يقودها «حزب الله»، فيما يمتلك الفريق الثاني، المتمثل بقوى 14 التي يقودها تيار «المستقبل» (صاحب أكبر كتلة برلمانية في لبنان) وتمتلك 54 صوتا، فيما تتوزع الأصوات القليلة الباقية على فريق الوسطيين.

ويقول مرجع لبناني: إن «العامل اللبناني في الانتخابات الرئاسية أصبح أقل تأثيرا بعد حصول الفراغ الرئاسي»، مستبعدا التمكن من انتخاب رئيس للجمهورية من دون توافق دولي - إقليمي على اسم الرئيس، خصوصا أن المحور المدعوم إيرانيا أصبح أكثر تشددا في موضوع الرئيس بعد التجربة الفاشلة مع الرئيس ميشال سليمان من وجهة نظر هذا الفريق، فالرئيس «الوسطي» تحول، في نهاية عهده، إلى معارض شرس لسياسات الحزب، خصوصا في جانب السلاح، وحصلت أكثر من مواجهة بين الطرفين في نهاية العهد.

ويعتقد على نطاق واسع، أن العامل الإيراني في هذه الانتخابات أساسي، وبالتالي ينتظر الجميع معرفة الثمن الذي سوف تقبل طهران من خلاله بتسهيل انتخاب رئيس للجمهورية، سواء من خلال المفاوضات الأميركية - الإيرانية، أو من خلال العلاقات الإيرانية - السعودية المعقدة أساسا.

ولا تعتبر هذه الانتخابات، حالة استثنائية. فقد كانت انتخابات الرئاسة اللبنانية دائما موضع تجاذب دولي، وكان الدور اللبناني فيها يصغر مع الأزمات، ويتسع مع الاسترخاء، لكنه لم يكن في يوم من الأيام قرارا لبنانيا صرفا، بقدر ما كان اسم الرئيس اللبناني يعكس توازنات المنطقة.

بدأت التدخلات الأجنبية في لبنان، منذ ما قبل تأسيس دولته بحدودها الحالية. فجبل لبنان كان تحت الإدارة العثمانية المباشرة، وكان «الباب العالي» يحدد أسماء الأمراء الذين يتولون هذه المقاطعة ذات الوضع الخاص، فكان من يحمل الذهب والهدايا إلى أصحاب المقامات في «الدولة العلية».

ومع اشتعال الفتنة الطائفية الأولى عام 1860، والمذابح بين الدروز والموارنة تغيرت المعايير، بدخول الدول الأوروبية على خط «حماية الطوائف»، وصولا إلى تغيير النظام السياسي الذي كان يحكم جبل لبنان، إلى شبه استقلال تضمنه أوروبا تحت المظلة العثمانية التي سقطت مع انهيار الإمبراطورية وهزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى مع دول المحور.

دخلت فرنسا، الدولة المحتلة، على الخط، فأصبحت الراعي الأساسي للوضع اللبناني. ومنذ تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920، كانت الكلمة الفصل في انتخاب رئيس الجمهورية اللبناني من نصيب الخارج، وتحديدا دولة فرنسا التي كانت وصية على لبنان بقرار من عصبة الأمم.

تولى الرئاسة في البداية حكام فرنسيون، كان آخرهم شارل دباس الذي تحول عام 1926 من حاكم فرنسي للبلاد، إلى رئيس منتخب من أصل 10 رؤساء تولوا المنصب في لبنان خلال عهد الانتداب الفرنسي منهم كانوا معينين مباشرة، فيما لم يخرج الـ5 الآخرون عن الرضا الفرنسي الذي سمح بانتخابهم.

وحدث الصراع الأول حول الرئاسة مع استقلال لبنان، حيث وقعت المواجهة بين مرشحين (بريطاني) هو بشارة الخوري و(فرنسي) هو إميل إده، ففاز الأول على الرغم من الدعم الفرنسي لإدة، مما أثار الفرنسيين الذين انتهوا لاحقا إلى وضع الرئيس المنتخب في السجن، ولم يخرجوه إلا بعد أن انتفض اللبنانيون ضدهم بدعم من دول أخرى، فانسحبت فرنسا وبدأ لبنان حياته الاستقلالية برعاية دولية لافتة.

كان الفشل الفرنسي في فرض رئيس للبنان، عنوان الانتخابات الثانية التي تلت الاستقلال اللبناني. فقد جدد الرئيس بشارة الخوري ولايته، بعدما عدل الدستور الذي يمنع التجديد أو التمديد، مما أثار حفيظة المعارضة التي ثارت ضده وانتهى الأمر باستقالته بعد 3 سنوات من الولاية الثانية، محدثا الفراغ الرئاسي الأول في تاريخ لبنان – الدولة. تسلم قائد الجيش بشارة الخوري المنصب لمدة 3 أيام على رأس حكومة انتقالية، لتأمين انتخاب رئيس جديد.

ومرة جديدة دخل العامل الخارجي في الانتخابات، فقد فاز الرئيس كميل شيمعون على منافسه في الانتخابات بدعم بريطاني – عربي مشترك عام 1952. وكان عراب وصوله إلى الرئاسة الزعيم السوري أديب الشيشكلي والسفير البريطاني في بيروت أدوين شابمان أندروز.

ومع نهاية ولاية شيمعون، كادت البلاد تقع ضحية الحرب الأهلية، فقد حدثت ثورة 1958 ضد شيمعون بدعم من الرئيس المصري جمال عبد الناصر القادم إلى المنطقة كزعيم يتخطى حدود بلاده، فيما كان الجيش الأميركي قد نزل على الشواطئ اللبنانية لدعم شيمعون. وانتهت الأزمة بتفاهم أميركي – مصري على انتخاب قائد الجيش العماد فؤاد شهاب رئيسا للبلاد. واستمر التفاهم المصري – الأميركي – السوري في نهاية عهد شهاب مفسحا المجال أمام انتخاب الرئيس شارل حلو عام 1964، الذي كان يشكل امتدادا للرئيس شهاب بسياسته.

بعد الرئيس شارل حلو، وقعت الانتخابات الرئاسية الوحيدة في لبنان تقريبا. ورغم أن البعض يرى أن التأثير الخارجي فيها كان قليلا، إلا أنه كان حاضرا بقوة، حتى إن الروس تدخلوا فيها لقطع الطريق على وصول الرئيس إلياس سركيس انتقاما من العهد الشهابي (نسبة للرئيس شهاب) لدوره في فضح العملية الروسية للتجسس على طائرة الميراج الفرنسية. ويقال إن السفير الروسي طلب من النائب كمال جنبلاط آنذاك عدم التصويت لسركيس، فقسم الأخير أصوات كتلته بين المرشحين، مما جعل الرئيس سليمان فرنجية يفوز بمقدار نصف صوت رئيسا للبنان.

مع نهاية عهد الرئيس فرنجية، كان الجيش السوري قد دخل لبنان بذريعة وقف القتال بين المنظمات الفلسطينية والميليشيات المسيحية، معلنا بداية الدور السوري المباشر في اختيار الرؤساء في لبنان. كان قرار حافظ الأسد والموفد الأميركي دين براون حاسما في اختيار إلياس سركيس رئيسا للجمهورية عام 1976.

وفي عام 1982، دخلت إسرائيل على خط «الهيئة الناخبة» فدفعت بجيشها إلى لبنان، ونظمت انتخابات رئاسية لبنانية بحراسة دباباتها، أثمرت وصول حليفها رئيس «القوات اللبنانية» بشير الجميل إلى الرئاسة، لكن السوريون لم يستسلموا، فكان أن اغتيل الرئيس الجميل قبل تسلم منصبه عندما فجر حزب مؤيد لسوريا مقره في الأشرفية. حينها دعي المجلس النيابي للتصويت لمرشح وحيد هو شقيقه أمين الجميل الذي لم يستطع أن يخرج من النفوذ السوري تماما، مما أوصل البلاد إلى أسوأ سنوات حروبها الأهلية – الخارجية والتي انتهت بفراغ رئاسي ثان، اضطر معه الجميل إلى تكليف قائد الجيش العماد ميشال عون رئاسة حكومة انتقالية لإدارة البلاد.

وكما في كل مرة كان قرار إنهاء الفراغ الرئاسي يحتاج إلى تدخل دولي، تم هذه المرة برعاية سعودية – أميركية – سوريا، حيث دعي النواب اللبنانيون إلى المملكة العربية السعودية وتم إبرام تسوية كبرى انتهت بإعلان اتفاق الطائف، وتفاهم على انتخاب الرئيس رينه معوض بدعم من الدول الثلاث. لكن الغزو العراقي للكويت غير المعطيات، فقد استغل الرئيس الأسد الأمر خير استغلال فأرسل وحدة من الجيش السوري إلى الكويت للمشاركة في التحرير رمزيا، منتزعا موافقة أميركية على وصاية جديدة على لبنان. وقد ترجم هذا الأمر فورا بعد أن اغتيل الرئيس معوض في عيد الاستقلال عام 1989، بعد أيام على تسلمه منصبه وقبل تأليف حكومته الأولى، واختير الرئيس إلياس الهراوي رئيسا جديدا للبلاد بقرار من الأسد مباشرة.

في عهد «الوصاية» كانت الكلمة الفصل للأسد، فهو مدد رئاسة الهراوي 3 سنوات، ثم أتى بالرئيس إميل لحود رئيسا عام 1998، ومدد ولايته 3 سنوات أيضا.

وبعد اغتيال الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري عام 2005، تغيرت المعطيات مجددا، وضعف التأثير السوري، لكنه لم ينته. انتهى عهد لحود من دون رئيس جديد، فكان الفراغ الثالث في هذا المنصب، بعد أن عجز حلفاء سوريا وخصومها عن الوصول إلى تفاهم على رئيس جديد، فكان الحسم خارجيا هذه المرة أيضا. دعيت القيادات السياسية اللبنانية إلى الدوحة للاجتماع برعاية عربية – دولية انتهت إلى الوصول إلى اتفاق الدوحة، والغريب فيه أن اختيار الرئيس هذه المرة كان من خارج البرلمان بالكامل، حيث نص الاتفاق صراحة على التصويت للرئيس ميشال سليمان في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات الدولية.

وأتت نهاية عهد سليمان، كنهاية عهد لحود. الطرفان نفسهما عجزا مرة جديدة، فكان الفراغ الثالث. فالنصوص التي أراد من خلالها المشرع اللبناني إيجاد ضوابط لعملية الانتخاب، تمنع وصول رئيس بعيد عن التوازنات الإقليمية الكبرى، جعلت من اسم الرئيس خيارا إقليميا - محليا - دوليا، يلعب فيه النواب اللبنانيون دور صندوق البريد، لا دور المقرر.

ولا يمتلك أي من الفريقين القدرة على انتخاب رئيس من دون التفاهم مع الفريق الآخر، حتى لو تحالف مع الوسطيين (وهو أمر صعب التحقيق أساسا)، فالدستور ينص على ضرورة أن ينال الرئيس المنتخب ثلثي أصوات النواب في الدورة الأولى، والأكثرية العادية في الدورات التي تلي. وتتفق القوى السياسية على تفسير للدستور يقول بضرورة حضور ثلثي أعضاء البرلمان لجلسة الانتخاب في أي وقت، مما يعطي أي فريق يمتلك أكثر من ثلث المقاعد قدرة التعطيل وحق «الفيتو» على اسم الرئيس، وهو ما يحدث الآن، حيث لا يمتلك أي من الطرفين الأكثرية اللازمة لانتخاب الرئيس، وبالتالي تبقى الأمور معطلة تقنيا.

أما الناحية السياسية، فهي الأكثر تعقيدا، حيث يتحكم طرفا الأزمة بالجانب التقني، ويستطيع أي منهما التعطيل، من دون القدرة على الحل منفردا. ويعتبر اسم رئيس الجمهورية عنوانا للمرحلة، ولهذا يصر كل من الطرفين على رئيس يحظى بثقته، وهو أمر متعذر لغياب التلاقي بالحد الأدنى في الجانب السياسي حيث يقف الطرفان على حدي النقيض.

وتنص القواعد الدستورية اللبنانية على أن يتولى مجلس الوزراء مجتمعا، صلاحيات رئيس الجمهورية في حال شغور المنصب لأي سبب من الأسباب، مما يجعل العملية الدستورية مستمرة، وبالتالي لا تتعطل أمور الدولة، خصوصا أن صلاحيات رئيس الجمهورية تكاد تنحصر في الجانب المعنوي أكثر من الجانب التنفيذي.

ولا يبدو في الأفق اللبناني حاليا، مما يوحي بإمكانية تذليل العقبات التي منعت انتخاب الرئيس، حيث يبدو أن كلا الطرفين ينتظر تحولا إقليميا، مما يسمح له بإيصال مرشح يقود البلاد في الفترة المقبلة، مما يرجح استمرار الفراغ لفترة طويلة، أو الوصول إلى تفاهم على أحد الأسماء «الوسطية» المطروحة.

* الفراغات اللبنانية.. أربعة

* يعيش لبنان حاليا في عهد الفراغ الرابع، وهو فراغ مرشح لأن يكون الأطول في تاريخ لبنان إذا ما استمرت الأوضاع الإقليمية التي تمنع انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

ومنذ استقلال لبنان عام 1943 وقع لبنان في الفراغ 3 مرات وتسلمت الحكومات صلاحية الرئيس.

الفراغ الأول من 18 سبتمبر (أيلول) إلى 22 منه عام 1952، كان الأقصر في تاريخ «الفراغات اللبنانية» قد أعقب استقالة الرئيس بشارة الخوري حيث شكلت حكومة عسكرية برئاسة فؤاد شهاب تولت صلاحيات الرئيس لـ4 أيام حتى انتخاب كميل شيمعون رئيسا.

أما الفراغ الثاني فقد حصل مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل وتعذر انتخاب خلف له وامتد من 23 سبتمبر عام 1988 إلى 5 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1989.

أما الفراغ الثالث فقد امتد من 23 نوفمبر 2007 إلى 25 مايو 2008 وجاء بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود وتعذر انتخاب خلف له فتولت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة صلاحيات رئيس الجمهورية حتى انتخاب الرئيس ميشال سليمان

* رؤساء لبنان

* الرئيس بشارة الخوري الرئيس اللبناني الأول (محام) بعد الاستقلال، وامتدت ولايته من 21 سبتمبر 1943 حتى 18 سبتمبر 1952.

* تولى الرئيس كميل شيمعون (محام) رئاسة الجمهورية في الفترة الممتدة بين 23 سبتمبر 1952 و22 سبتمبر 1958.

* اللواء فؤاد شهاب (ضابط)، وكان أول قائد للجيش اللبناني (أغسطس (آب) 1945، خلف شيمعون في رئاسة الجمهورية، ليكون بذلك العسكري الأول الذي بات رئيسا في لبنان. وامتدت ولايته من 23 سبتمبر 1958 حتى 22 سبتمبر 1964.

* الرئيس شارل حلو، الرئيس اللبناني الرابع (محام وكاتب)، وشغل قبل وصوله إلى سدة الرئاسة منصب سفير لبنان لدى الفاتيكان (1946–1949).

* الرئيس سليمان فرنجية، منذ عام 1970 حتى 22 سبتمبر 1976.

* إلياس سركيس (محام وقاض) تولى رئاسة الجمهورية من 23 سبتمبر 1976، حتى 22 سبتمبر 1982.

* بشير الجميل، القائد العسكري لحزب الكتائب اللبنانية ومؤسس حزب القوات اللبنانية، انتخب رئيسا للجمهورية في 21 أغسطس 1982، لكن أحد عناصر الحزب القومي اغتاله في 14 سبتمبر من العام ذاته، قبل تسلمه منصب الرئاسة رسميا، ليخلفه شقيقه أمين الجميل.

* أمين الجميل (محام).. امتد عهده منذ سبتمبر 1982 حتى 22 سبتمبر عام 1988.

* رينيه معوض (محام): بدأت ولايته في 5 نوفمبر 1989، ليجري اغتياله في الثاني والعشرين من الشهر نفسه.

* الرئيس إلياس الهراوي (رجل أعمال ومزارع)، استمر رئيسا لمدة 9 أعوام (1989–1998.

* إميل لحود (ضابط)، تولى الرئاسة منذ 24 أكتوبر (تشرين الأول) 1998 حتى 23 نوفمبر 2007.

* الرئيس الحالي ميشال سليمان وقائد الجيش السابق.. انتخب خلال اجتماع المصالحة بالدوحة في مايو 2008.. وانتهت ولايته في 25 مايو الماضي من دون انتخاب خلف له.