إياد مدني ومعركة الحداثة

الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي أثار الجدل منذ عمله في الصحافة.. والوزارة.. وحتى زيارته للقدس

TT

كانت «زرافة» جارية سمراء، عاشت في بيت سيدها بالمدينة المنورة في زمن الجواري، تواجه أصناف القهر والاضطهاد الطبقي، كما تتعرض للقسوة والاعتداء والضرب حتى أصيبت سنها ونزفت الدم من فمها.

لكن بعد عقود من الزمان التقط رجل من أهل المدينة «سن زرافة» الدامية، وكتب بها كتابا يحمل هموم التجديد، وقلق الهوية، والثقة بالتجربة المحلية، وقدرة إنسانها على العطاء.

بعد شهور من مغادرته كرسي وزارة الثقافة والإعلام السعودية، أصدر الدكتور إياد أمين مدني كتابه «سن زرافة»، لينقل جزءا من مناقشات وسجالات الطليعة المثقفة في بداية عصر التجديد السعودي، وليمنح القارئ متسعا للمقارنة مع ما يهمّ ويُشغل جيل اليوم.

من بوابة الصحافة والإعلام ولج إياد أمين مدني عالم السياسة، فهو ينتمي لأسرة «آل مدني» بالمدينة المنورة، والتي برز منها رجال في حقول القضاء والأدب والعلم. والده الأديب والمؤرخ المعروف، أمين بن عبد الله مدني؛ أول رئيس تحرير لجريدة «المدينة» (صدر العدد الأول منها في 8 أبريل/ نيسان، 1937). وتولى إياد مدني جملة من المسؤوليات الإعلامية تحريرا وتسويقا، فقد تولى منصب مدير عام مؤسسة «عكاظ» للصحافة والنشر، ورئيس تحرير صحيفة «سعودي جازيت» باللغة الإنجليزية، ولم ينجُ عمله في الصحافة من الإثارة والمشاكل.

تولى إياد مدني، المولود في مكة المكرمة في 16 أبريل 1946، والحاصل على شهادة البكالوريوس في إدارة الإنتاج من جامعة أريزونا الأميركية، حقيبة الحج، ثم حقيبة الثقافة والإعلام، وهي الفترة الأكثر إثارة في مشواره السياسي. فخلال الفترة التي تولى فيها هذه الوزارة واجه إياد مدني قوى كثيرة في المجتمع كانت تقاوم محاولاته للتحديث، وإنعاش المشهد الثقافي، في بلد يموج بمثل هذا الحراك، ويمثل الشباب أكثر من ثلثي سكانه؛ فواجه التحديات والاتهامات والتعريض، خاصة ممن يحسبون أنفسهم على التيار الإسلامي، الذين تربصوا بمحاولاته تجديد برامج التلفزيون الذي تجاوزه الجمهور، خاصة سعيه لتوظيف عناصر نسائية للعمل كمذيعات، وعرض الفنون المختلفة، و«محاولة» فسح المجال أمام مختلف الأصوات الفكرية للتعبير عن نفسها.

وعلى صعيد الثقافة سعى لاستيعاب النقاش المحلي المحتدم في المجتمع، داخل أروقة معرض الكتاب، وتحويل المعرض إلى موسم ثقافي للتحاور والإبداع. وعلى الرغم من أنه لم يحسم معاركه، فإنه خرج من الوزارة في 14 فبراير (شباط) 2009 بكثير من الجروح والطعنات، بعد أن وضعها على السكة التي تقتسم فيها العمل مع المثقفين وتفكر معهم لا عنهم.

بدءًا من مطلع عام 2014 تولى إياد أمين مدني أمانة منظمة التعاون الإسلامي خلفا للتركي أكمل الدين إحسان أوغلو، وبالتالي أول سعودي يتولى هذا المنصب، وهو الأمين العام العاشر للمنظمة التي تأسست في الرباط بالمغرب يوم 25 سبتمبر (أيلول) 1969، وجاء تأسيسها بعد أن تداعى قادة العالم الإسلامي لعقد أول مؤتمر لهم عقب محاولة إسرائيليين حرق المسجد الأقصى بمدينة القدس، في 21 أغسطس (آب) 1969.

* «القدس لنا»

* بعد نحو عام من تسلمه هذه المنظمة التي تضم في عضويتها 57 دولة إسلامية موزعة على أربع قارات، وتعاني من التفكك والتمزق؛ فاجأ إياد مدني العالم بزيارته للقدس المحتلة، وصلاته في المسجد الأقصى.

مناسبة الزيارة كانت رمزية، وهي إعلان القدس عاصمة للسياحة الإسلامية لعام 2015، لكنّ إياد مدني أراد أن يحرك المياه الراكدة في العالم الإسلامي، حين دعا من القدس التي وصلها رغم العراقيل الإسرائيلية إلى كسر الحصار وزيارتها، وقال «إنه لا يمكن تحقيق هدف القدس عاصمة للسياحة الإسلامية لعام 2015 من دون أن يتوجه المسلمون لزيارة القدس الشريف بعشرات الآلاف».

في القدس رفع شعار «نحن أحقّ بالقدس والأقصى»، وقال «نقول للذين يخشون الذهاب إلى القدس والأقصى بحجة أنها تحت الاحتلال الإسرائيلي إن المجيء إلى هنا يؤكد أحقيتنا جميعا في القدس والأقصى». وقد جاء أول الاحتجاجات على زيارته للقدس ودعوة المسلمين لزيارتها من مشيخة الأزهر، التي أصدرت بيانا يرفض زيارة القدس لغير الفلسطينيين.

مدني نفسه يقول لـ«الشرق الأوسط» عن هذه الخطوة؛ التي جاءت كقفزة في المجهول «انطلقت منظمة التعاون الإسلامي لتنافح عن المسجد الأقصى المبارك، ثالث مسجد أمرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بشد الرحال إليه. وينص ميثاقها على أن مقرها هو القدس الشريف، وأن عملها من جدة إنما هو أمر مؤقت إلى أن يكتب الله للقدس انعتاقا من ربقة الاحتلال الإسرائيلي». وأضاف «سرعان ما تكشف أن الذود عن المسجد الأقصى هو في حقيقته ذود عن القدس، والتي هي بدورها في مكانة القلب من القضية الفلسطينية ككل. وأن فلسطين، وما تعانيه من احتلال واضطهاد وفرقة، هي بدورها جزء من عالم عربي ماجت وتموج فيه منذ الستينات، حينما انطلقت المنظمة، تيارات شتى، ومر بمد وجزر التغيير ومتطلبات النمو والمعيشة في عالم أوسع، كان بدوره أيضا خلال هذه العقود مسرحا لإعادة تشكيل جذري لقواه وآيديولوجياته وموازينه».

* معركة الحداثة

* يعي إياد مدني الحال التي وصل لها العالم الإسلامي، والتي انعكست على أداء المنظمة التي تنافح لحماية المصالح الحيوية للمسلمين، وتسوية النزاعات والصراعات التي تحتدم بينهم. لكن هذه المنظمة هي نفسها تعاني من الترهل والضعف، لكن إياد مدني يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «المنظمة التي تجاوزت الأربعين عاما من عمرها مطالبة بأداء وأسلوب عمل يليقان بمنظمة تراكمت خبراتها وبلغت سن النضج».

أول التحديات هو الولوج للعالم بلغة مختلفة، يتحدث لنا إياد مدني، عن تطلعاته للمستقبل، قائلا إن «المنظمة وهي تعيش عالمها، كان لا مفر لها أن تلج إلى عوالم (الحداثة) بأبعادها السياسية والاجتماعية والحقوقية، وأن تجد خطابها في ما يخص المشاركة السياسية، والديمقراطية، والعولمة، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، والنموذج الرأسمالي للاقتصاد، والتقنية، والتعليم».

يعي إياد مدني أن الشعارات وحدها لا تنجز عملا، وهو يقول لنا إن «المنظمة التي تجمع في عضويتها سبعا وخمسين دولة من إندونيسيا شرقا إلى السنغال والكاريبي غربا، عليها أن تجد سياقها الذي يجذب ويربط ويجمع أعضاءها بها، حتى لا تصبح فقط منصة شعاراتية». ويضيف «إنّ إيجاد السياق يقتضي فهم العلاقات التي تربط كل دولة عضو بمحيطها الإقليمي، وما ترتبط به منظمات إقليمية وقارية وإثنية أخرى».

* انقسام المسلمين

* يعي مدني أن الدور السياسي للمنظمة لا يمكن أن يكون فاعلا ما دامت الدول التي تمثلها ضعيفة وتعاني التمزق والاحتراب، ولذلك انطلق للعمل على احتواء الخلافات وتبريد مناطق التوتر والتنازع، خاصة تلك التي ترتبط بالانقسام الطائفي، ويوم 14 يناير (كانون الثاني) الحالي، زار الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي إياد مدني، المرجع الديني الشيعي السيد علي السيستاني في النجف بالعراق، وبحث معه سبل تقريب وجهات النظر والحد من الانقسام الطائفي بين المسلمين.

يقول إياد مدني لـ«الشرق الأوسط»: «هناك اعتبارات على أمين عام المنظمة أن يخوض غمارها، ويجد بوصلته في منعطفاتها». يضيف «المنظمة - هي - منظمة حكومية سياسية، وليست دعوية، ولكن مبرر وجودها هو الإسلام الذي يجمع بين أعضائها ثقافة وهوية ومرجعية». ويشرح ذلك بالقول «المنظمة هي شبكة من الأجهزة والمستويات تنتهي كلها عند مؤتمر القمة الذي يضع السياسات ويحدد الاتجاهات، وتمر بمؤتمر وزراء الخارجية الذي يتابع ويعدل خطة السير حسب مقتضى الأحوال، وتنفذ عبر عدد من الأجهزة كبيرها وصغيرها. من البنك الإسلامي للتنمية و(الإيسيسكو) إلى أجهزة ثقافية واقتصادية وفنية تنتشر على الرقعة الجغرافية للأعضاء. وعلى الأمين العام أن يفهم كل ذلك، وأن يدرك أولويات الدول الأعضاء، وأن يجد البحث عن الأرضيات المشتركة، والقواسم الجامعة، والمصالح المتبادلة، وأن يدفع بمقاربات جديدة تحيل حالات التوتر والصراع بين بعض الدول الأعضاء إلى تعايش وقبول، وربما نماء مشترك بينها».

ويمضي بالقول إنه على الأمين العام للمنظمة أن يدرك أيضا «أن عليه أن يعمل على أن تكون المنظمة خط دفاع أول أمام كل من يسعى للمساس بالمكون الأول لهوية أعضائها، وهو الإسلام دينا وعقيدة وشرعا ومقاصد وثقافة».

وماذا يتعين أيضا على الأمين العام أن يفهم؟ يجيب إياد مدني «أن يفهم ليس فقط ملفات القضايا والتحديات التي تنغمس فيها المنظمة؛ بل وأن يفهم أيضا، ويكون بجوار نبض شعوب الدول الأعضاء، ومجتمعها المدني، وحراكها الثقافي، وما يلوح لها من رؤى وتثب إليه من طموح، ويستعر في ضميرها من قيم، وما تهرع إليه من أحلام».