نهاية الحرب الأهلية الأميركية ومقتل الرئيس لنكولن

TT

تابعنا كيف استطاعت إدارة الرئيس لنكولن إحراز النصر في معركة جيتزبورغ الفاصلة والاستيلاء على مدينة فيكسبورغ في يوليو (تموز) 1863، فكانت هذه بداية النهاية للكونفدرالية الجنوبية، حيث بدأ هذا الكيان السياسي يهتز تدريجيا، فلم يعد قادرا على حشد الجيوش أو توفير الجنود لاستكمال الحرب الأهلية مقارنة بالاتحاد. وقد انتشرت الجيوش الاتحادية في الجنوب، التي لجأت لاستراتيجية تشابه سياسة الأرض المحروقة، خاصة من قبل الجنرال شيرمان، أحد أكثر القادة الاتحاديين غير المبالين بالمسائل الإنسانية، حيث اتبع سياسة معاقبة شعوب الولايات الجنوبية، خاصة في ولايتي أطلنطا وكارولينا، حيث كان على قناعة كاملة بأن التشدد مع هذه الولايات من شأنه كسر رغبتها في دعم الجيوش الكونفدرالية والقضاء على أي فرصة لتزويدهم بالمؤن. وقد لجأ الجنرال جرانت لسياسة مشابهة عندما بدأ يطارد فلول الجنرال «ليي» بعد معركة جيتزبورغ، وهو على قناعة كاملة بأن القضاء على هذا الجيش من شأنه أن ينهي مقاومة الكونفدرالية، ولأنه أبرع قادتها ويترأس ما تبقى من أكبر جيش للكونفدرالية.

لقد اتبع جرانت تكتيكات عسكرية تعتمد على استنزاف الخصم الذي كانت له قدرة قتالية عالية للغاية رغم ظروفه الصعبة أدت لهزيمة جيش الاتحاد في مناوشات كثيرة وبعض المعارك المحدودة. بالتالي لجأ الرجل إلى مطاردة الجيش الكونفدرالي ومنع وصول الإمدادات له، فضلا عن مناوشته كلما أمكن ذلك، فكلما انسحب الجيش خرج جيش جرانت في مطاردته، إلى أن تمت محاصرته في مدينة بترسبورغ، وهنا لم يدخل جرانت في حرب مفتوحة، ولكنه آثر إحكام الحصار تدريجيا، ثم قام بقطع كل طرق السكك الحديدية التي كانت كفيلة بتوصيل المؤن له، واستمر الحصار 9 أشهر كاملة إلى أن يئس «ليي» من الانتصار، وتم كسر قدرته على الاستمرار، وتم اللقاء بين القائدين؛ حيث استسلم «ليي» للجنرال جرانت في 9 أبريل (نيسان) 1865، فلم يسع جرانت لإذلال الرجل، فقبل استسلام جيشه مع احتفاظهم بأسلحتهم الخفيفة، وتمت مراسم الاستسلام بكل تبجيل للجيش الكونفدرالي وبتحية عسكرية وهو يخرج من المدينة.

وفي الجبهة الشرقية التي تسيدها الجنرال شيرمان الجبار، ظل الرجل على سياسته العنيفة، فحرق أجزاء من مدن ولاية أطلنطا في رسالة للولايات التالية التي انتوى دخولها لعدم المقاومة، وكان ذلك هو المصير نفسه لكثير من المدن في ولاية جورجيا، ومن بعدها كارولينا الشمالية، فكان مصير مدينة سافانا سيئا على يد هذا الرجل، وكانت الروح المعنوية للجيوش الكونفدرالية سيئة للغاية، وسرعان ما استسلم الجيش الكونفدرالي الآخر للجنرال شيرمان بعد 9 أيام من استسلام جيش «ليي»، وكان هذا إيذانا بنهاية الحرب، حيث استسلمت باقي جيوش الكونفدرالية في شهر مايو (أيار) التالي.

وبهذا انتهت الحرب الأهلية الأميركية، وأصبح الآن على الرئيس الأميركي لنكولن ومعه الكونغرس أن يدخلا في معركة إعادة بناء الدولة سياسيا واقتصاديا.

كثيرا ما يعتقد البعض أن التسوية العسكرية للصراع خاصة في الحروب الأهلية هي أهم الخطوات، ولكن حقيقة الأمر أن أخطر شيء قد يواجه الأمة على المدى الطويل هو لمّ الشمل وتضميد الجراح وإعادة الإعمار خاصة في الحروب الأهلية، لأنه من المفترض في هذه الحرب أن أبناء الشعب الواحد سيعيشون جنبا إلى جنب، وهو المبدأ الذي اعتنقه لنكولن منذ البداية، فبالنسبة له، فإن الولايات الكونفدرالية المنشقة لم تكن عدوا، بل كانت فئة ضالة وجبت إعادتها إلى صوابها داخل الاتحاد، خاصة عندما تكون الحرب دائرة والصراع لم يحسم بعد. وهنا برزت القيادة العظيمة لهذا الزعيم في الحفاظ على الاتحاد بعد اندلاع الحرب رغم الانشقاقات، أو فكرة إعادة بنائه بعد الحرب لو أن القدر قد أمهله. وقد بدأ الرجل هذه العملية برؤية ثاقبة قبيل انتهاء العمليات العسكرية بسنتين، فقد اتخذ خطوة مهمة للغاية، وهي إعلان العفو العام في الدولة عن كل من يلقي سلاحه ويعود للاتحاد، ثم ضرب هذا الرجل الكونفدرالية في مقتل عندما أصدر قرارا بتحرير الرقيق في يناير (كانون الثاني) 1863، بل ووافق على انضمام الرقيق إلى الجيش الاتحادي، ولكن تأخر تنفيذ هذا القرار بعض الشيء لأسباب تتعلق بتردد بعض القادة العسكريين في ضمهم أو الموافقة على إشراكهم في عمليات حربية، ولكن هذا الأمر تغير بعدما تقرر تشكيل لواء من السود، الذي عرف باسم «ماساتشوستس 54»، والذي وضع تحت قيادة شابة، وهي القصة التي جسدها الفيلم الأميركي المتميز «المجد Glory»، وقد حارب هذا اللواء في إحدى المعارك في مدينة شارلستون في يوليو 1863، ومات أكثر من نصفه في المعركة، وقد أبلى اللواء بلاء حسنا، وأبرز شجاعة كبيرة كانت محل احترام الجميع، وكان هذا أول تنظيم أسود يحارب في الجيش الأميركي.

لقد كانت خطوة لنكولن هذه مهمة جدا لإرساء المبدأ الأساسي الذي كانت ستسير عليه الولايات بعد هزيمة «الكونفدرالية» المتمسكة بالرق، فلقد حسم الرجل جذور المشكلة بشكل لا مجال للتغيير فيه مستقبلا، حيث أصبح قراره فيما بعد معروفا بـ«التعديل رقم 13» للدستور الأميركي.

ومن ثم، فإن عملية عودة الرق للجنوب صارت أمرا منتهيا، ولكن الواقع بعد الحرب الأهلية كان صعبا، فقد خرج ما يقرب من 4 ملايين من ذوي البشرة السوداء من الرق إلى الفقر والبطالة، وكثير منهم لم يكن لهم المأوى أو الملبس، وأصبحت هذه أول مشكلة تواجه الرئيس الجديد بعد الانتصار العسكري، ولذلك أنشأ الرجل مكتبا لتولي شؤون العبيد المحررين من أجل رعايتهم المؤقتة، ولكن مشكلة توظيفهم استمرت لفترات طويلة مرتبطة بالمشكلات الاقتصادية بالدولة الموحدة، وصعوبة الأحوال المعيشية في ولايات الجنوب المنهزمة، فضلا عن بقاء أخطر مرض اجتماعي قائما، وهو التفرقة العنصرية، الذي لا تزال الولايات المتحدة تعاني من بعض ممارساته على الرغم من التعديلات القانونية الممتدة على مدار الفترة منذ انتهاء الحرب الأهلية إلى ستينات القرن الماضي وما بعده.

من ناحية أخرى، أصبح أمام الرئيس لنكولن مشكلة واسعة النطاق، وهي كيفية الخروج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة في الولايات الشمالية، وبدرجة أكبر الولايات الكونفدرالية، ولكن الرجل اتخذ عددا من الخطوات المهمة للتعجيل بتسوية مديونيات الحرب، التي كانت واقعة على الخزانة، تماما كما فعل الرئيس جورج واشنطن بعد حرب الاستقلال عن إنجلترا. وقد اتخذ الرجل عددا من الخطوات الجوهرية، وعلى رأسها رفع الجمارك، وبيع الأراضي في الغرب التي كانت ملكا للاتحاد، كما خصص الكثير من التمويل من أجل إعادة إعمار الجنوب مرة أخرى من خلال مشاريع البنية الأساسية، خاصة الطرق والسكك الحديد، ليفتح بذلك المجال أمام تكامل الولايات بعضها مع بعض، وذلك رغم أن الحرب لم تنته بعد بشكل رسمي، فالطرق والبنية الأساسية هي الأساس الحقيقي لبناء مجتمع متكامل، وهو ما أدركه الرجل تماما.

أما بالنسبة لإعادة دمج الولايات المنهزمة، فقد أصر الرجل على مواجهة الكونغرس الذي أراد تضييق الخناق عليها خلال الحرب، ففرض خطته لقيام هذه الولايات باختيار حكامها من خلال ما عرف بـ«خطة العشرة في المائة»، وهي الخطة التي دعت لقيام الولايات باختيار حكامها ما دام وصل عدد الناخبين من الموالين للاتحاد إلى 10 في المائة من الذين صوتوا في انتخابات ما قبل الحرب، وقد تسبب ذلك في اتهام كثيرين له في الكونغرس بأنه يسعي بسياساته اللينة لجذب أصوات الولايات الجنوبية في الانتخابات الرئاسية التالية، ولكن الرجل لم يأبه لذلك حتى بعد إعادة انتخابه.

وبنهاية الصراع العسكري في الولايات المتحدة وقبيل الاستسلام الكامل لجيوش الكونفدرالية، تدخل القدر ليحرم الولايات المتحدة، في تقديري، من أعظم قادتها على الإطلاق بعد جورج واشنطن، ففي يوم 14 أبريل وأثناء مشاهدته إحدى المسرحيات في واشنطن، تعرض الرئيس لنكولن لعملية اغتيال قادها ممثل يدعى «بوث» مع اثنين آخرين، فأصيب الرئيس بطلق ناري، ومات متأثرا بجراحه بعد 9 ساعات تاركا الولايات المتحدة في مرحلة دقيقة للغاية كانت في أشد الحاجة لحكمته لتضميد جراحها وإعادة بناء الدولة الأميركية بعد الحرب، وعندما آلت رئاسة الجمهورية إلى نائبه آندرو جونسون، اعتقد كثيرون أن الرجل يمكن أن يسير على خطى الرئيس لنكولن، ولكن بصيرته السياسية وعصبيته الشديدة وتشدده في أمر مهادنة الساسة الجنوبيين حرمه من الرؤية والمرونة اللازمتين لإدارة البلاد بالشكل المطلوب، فدخلت الولايات المتحدة الأميركية في حرب أهلية من نوع آخر، وهي الحرب بين الرئيس والكونغرس والولايات الجنوبية التي لم تقبل القواعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة التي كان من المفترض أن تقبلها بعد هزيمتها عسكريا.