مفتاح الرئاسة

ولاية أيوا الأميركية.. تصنع أجود أنواع الجبن والزبدة.. وتصنع مقاهيها ومزارعها رئيس أقوى دولة في العالم

مناصرون لاوباما في تجمع انتخابي في ولاية أيوا (أ. ب)
TT

أيوا.. انها ضربة البداية.. في مسيرة ستمتد حتى الرابع من نوفمبر (تشرين الاول) المقبل باختيار رئيس الجمهورية. الذي يضمن الفوز في هذه الولاية الكبيرة، يضمن دفعة قوية، تساعده في مسيرة «سباق الخيل» الاميركي، نحو البيت الابيض. قبل سنة تقريبا، بدأت الحملة الانتخابية عندما بدأ نواب وحكام ولايات وغيرهم يرشحون انفسهم. وأمس بدأت في ولاية ايوا الانتخابات الاولية لتصفية المرشحين. وتستمر انتخابات التصفية حتى الصيف. وفي نهاية الصيف، سيعقد كل حزب مؤتمرا لاختيار مرشحه لرئاسة الجمهورية.

أساس هذه العملية الديمقراطية الطويلة والمعقدة هو معرفة رأي الناخب الاميركي، ولاية بعد ولاية، بدءا من ايوا، ومدينة بعد مدينة بدءا من نترسيت، ومقهى بعد مقهى، مثل الذي ذهبت اليه ليبي كوبلاند، وهي صحافية في صحيفة «واشنطن بوست»، وكتبت: «حول فناجين قهوة الصباح، تصنع الديمقراطية الاميركية». يجلس اميركيون يشربون قهوة الصباح، ويمر عليهم مرشحون، وصحافيون، وكاميرات تلفزيون، وموظفو استطلاعات الرأي، واستراتيجيون، وفضوليون، يسألونهم عن آرائهم في المرشحين وفي سياساتهم.

ويجب ان لا يتوقع اي انسان ان هؤلاء الذين يشربون القهوة يعرفون من يحارب من في الصومال؟ ولماذا تحالف السنة في العراق مع القوات الاميركية؟ وما الفرق بين افغانستان وباكستان؟ وما عدد اعضاء الكونغرس؟ وما اسم وزيرة الخارجية التي قال احدهم لصحيفة أميركية: «انها سيدة سوداء محترمة نسيت اسمها».

زار ديفيد يبسين، صحافي في صحيفة «دي موين ريجستار» تصدر في دي موين، عاصمة ولاية ايوا، واحدا من هذه المقاهي. واعاد الى الاذهان شعار ولاية ايوا: «نحن نقدر حريتنا، ونحرض على حقوقنا». وقال ان هذا الشعار يصور اهمية ايوا، واهمية العملية الانتخابية في اميركا. وأعاد الى الاذهان، ايضا، ان علم الولاية فيه نفس الوان العلم الاميركي الثلاثة: احمر وازرق وابيض.

وقال: «الذين يشربون قهوة الصباح، ويحددون، بطريقة او اخرى، رئيس اميركا القادم، يهتمون اكثر ما يهتمون بقدرة المرشح على ان يكون رئيسا لاميركا. القدرة اهم مما اذا كان المرشح جمهوريا او ديمقراطيا، ابيض او اسود، رجلا او امرأة، كاثوليكيا او من طائفة المرمون». واضاف: «توجد صلة قوية بين القدرة على ان يكون المرشح رئيسا لاميركا، والقدرة على ان يفوز في الانتخابات». لكن، يتفق الناس في ايوا، وفي بقية الولايات، على شيء اساسي، وهو، كما قال ترانس نيوزيل في مقهى بولاية ايوا: «انا أصوت ضميري».

واتفقت معه هاريت ويلسون، المتخصصة في النحت على الزبدة. نعم، تصنع تماثيل ابقار من الزبدة في محلها، وتبيعها الى الناس. وظلت تفعل ذلك لثلاثين سنة، واكبر تمثال بقرة هو في حجم بقرة حقيقية، يقف الى جواره المرشحون لتلتقط لهم صور، وليبرهنوا على انهم: أولا: يزورون المواطنين العاديين، ثانيا: يقدرون ثروة ولاية ايوا، وهي الألبان والزبدة، ثالثا: لا بأس من التقاط صور في غرفة مثلجة، اذا كان الجو حارا. على اي حال، قالت ان مرشحها المفضل هو باراك اوباما، ولم تضع اعتبارا للونه الاسمر (ابوه اسود، وامه بيضاء)، ولا لدينه (هو مسيحي، ووالده وجده مسلمان)، لكنها تحتفظ في محلها بصورة له وهو يقف الى جوار البقرة العملاقة المصنوعة من الزبدة.

وللتقرب الى المواطن العادي في ايوا، لا يخجل المرشحون من ان يزوروا هاريت ويلسون، وان تلتقط صورهم الى جانب بقرة عملاقة مصنوعة من الزبدة. بل يفعلون اغرب من ذلك: يحلبون ابقارا في ولاية ثروتها الابقار، ويحصدون الذرة من المزارع في ولاية ثروتها الذرة. هذا، طبعا، بالاضافة الى التوقيع على اوتوغرافات المواطنين، وأكل الدجاج المقلي والهامبرغر والهوت دوغ معهم، وحمل اطفالهم، وتقبيلهم، مع الحرص على التقاط صور لهم لتنشر على صفحات الصحف، وتظهر في التلفزيون، وفي شبكة الانترنت.

ومنذ انتخابات سنة 2004، بدأوا يفعلون شيئا جديدا. يزورن جامعة نورث ايوا، لالتقاط صورة لهم مع لعبة لوجه رجل على شكل حبة بطاطا. لماذا البطاطا في ولاية ليست البطاطا ثروتها ؟ لكن، ليست لهذه البطاطا صلة بالثروة، ولا حتى بالسياسة، ولا حتى بأي شيء. انها لعبة عمرها مائة سنة، توارثها ابناء عن آباء عن اجداد، ويملكها حاليا اندي غرين، طالب في الجامعة. وكلما زار مرشح الجامعة للدعاية لنفسه يظهر غرين ومعه اللعبة، ويعطيها للمرشح لالتقاط صورة له وهو يحملها.

ربما يعتقد انسان ان المرشحين، وهم حكام ولايات، وسناتورات، وشخصيات مهمة في اميركا، واذا فازوا برئاسة الجمهورية سيقررون مصير العالم، سيرفضون، او يخجلون، او يحرجون، لكنهم، بالعكس، يمسكون بلعبة البطاطا ويبتسمون امام كاميرات التصوير والفيديو.

انتخابات ايوا الاولية دليل على صدق نظرية «السياسة محلية»، اي ان السياسي الذكي هو الذي يكسب اصوات المواطنين العاديين بأن يتقرب اليهم، ويتعهد بحل مشاكلهم. لهذا، قبل حرب العراق، وانخفاض سعر الدولار، يتعهد المرشحون بأشياء محلية.

تعهدت هيلاري كلينتون بإضافة فصول الى مدرسة ثانوية. وتعهد اوباما بزيادة عدد المدرسين في مدرسة فيها اغلبية من التلاميذ السود، ومستواها الاكاديمي ليس عاليا. وتعهد جون ماكين بإصدار قرار يمنع المهاجرين من المكسيك من ان يسكنوا بأعداد كبيرة في بيوت صغيرة. وتعهد رومني، عندما تعطل موكبه في عاصفة جليدية، بزيادة عدد جرارات تنظيف الشوارع من الجليد.

في «سياسة محلية» حقيقية، هناك صورة للسناتور ماكين وهو يساعد مواطنا على دفع جرار لقطع حبات الذرة. وهناك صورة لرومني وهو ينظف بقايا أكل من على مائدة في مطعم كان يتحدث مع صاحبه وهما يشربان قهوة. وهناك صور كثيرة فيها هاكابي وهو يتحدث داخل كنيسة. زيارة الكنائس واحدة من تقاليد انتخابات ايوا، واي انتخابات اخرى. لكن، في هذه السنة، تفوق هاكابي على كل منافسيه في هذا المجال. وذلك لأنه قسيس في كنيسة معمدانية (بابتست) في ولاية آركنسا. قبل عشرين سنة، ترك الوعظ الديني، واحترف السياسة، رغم انه يقول ان السياسة جزء من الدين.

متى بدأت الانتخابات الاولية؟ سؤال مطروح الآن لدى الكثيرين ربما حتى في اميركا نفسها. وحتى قبل مائة سنة، لم تكن هناك انتخابات اولية في كل ولاية لكل حزب، كما هو الحال الآن، كان قادة الحزب في كل ولاية يجتمعون، ويرسلون مندوبيهم الى مؤتمر الحزب العام الذي يختار مرشح الحزب للانتخابات. واشهر انتخابات اولية تاريخية كانت سنة 1912، عندما ترشح باسم الحزب الجمهوري الرؤساء وليام تافت، وثيودور روزفلت، وروبرت فوليه، وفاز ثيودور روزفلت في كثير من الولايات. لكن، في مؤتمر الحزب، صوتت الاغلبية للرئيس تافت. وكانت تلك بداية مرحلة جديدة في الانتخابات الاولية، وهي إلزام المندوبين الذين يرسلهم كل حزب من كل ولاية الى مؤتمر الحزب العام بالتصويت للمرشح الذي فاز في الولاية.

ولكن لماذا ايوا؟ بداية من سنة 1972، كان فرع كل حزب في كل ولاية يحدد تاريخ الانتخابات الاولية لانتخاب مندوبيه الى مؤتمر الحزب الذي سيختار مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية. واختار فرع الحزب الديمقراطي في ولاية ايوا يوم الثالث من يناير، فصارت اول انتخابات اولية في سنة الانتخابات الرئاسية. في تلك السنة تنافس للترشيح باسم الحزب الديمقراطي كل من السناتور جورج ماكفيرن (ليبرالي)، والسناتور ادوارد ماسكي (معتدل)، وفاز الاول في ولاية ايوا. واستغل فوزه للدعاية لنفسه في ولاية نيوهامبشير. وفاز هناك ايضا. ثم فاز في ولايات اخرى. ثم فاز مؤتمر الحزب مرشحا باسم الحزب. واقترحت صحيفة «نيويورك تايمز» على الحزب الجمهوري اجراء انتخاباته الاولية في نفس ولاية ايوا، في نفس اليوم، حتى تتضح معالم المرشحين للحزبين مع بداية السنة. وهذا ما حدث.

في انتخابات سنة 1976، برزت اهمية ايوا مرة اخرى، وذلك عندما فاز فيها جيمي كارتر، حاكم ولاية جورجيا، على بقية مرشحي الحزب الديمقراطي. في ذلك الوقت، قال كثير من سكان الولاية إنهم صوتوا له لانه كان يتجول في الولاية من منزل الى منزل، يدق على الابواب، ويقول: «اسمي جيمي، وانا حاكم ولاية جورجيا، واريد ان اكون رئيسا لأميركا». كان غير مشهور، وكان سكان ايوا يسألون بعضهم البعض: «من هو جيمي؟» لكن فوزه ساعده في ايوا على الفوز في ولاية نيوهامبشير. ثم، بعد ذلك، في ولايات اخرى. ثم فاز كمرشح للحزب الديمقراطي. ثم فاز برئاسة الجمهورية.

وفي انتخابات سنة 1980 فاز في الانتخابات الاولية في ولاية ايوا جورج بوش (الاب) على بقية مرشحي الحزب الجمهوري، وجاء بعده رونالد ريغان، حاكم ولاية كليفورنيا. ثم فاز بوش في ولاية نيوهامبشير لكن ريغان اكتسحه في ولايات الجنوب، وفاز كمرشح للحزب الجمهوري واختار بوش نائبا له، وفازا برئاسة الجمهورية.

وفي انتخابات سنة 2000، فاز في الاولية في ولاية ايوا، بوش الابن على بقية مرشحي الحزب الجمهوري، ثم فاز بترشيح الحزب للرئاسة. ثم، طبعا، فاز بالرئاسة مرتين. وفي انتخابات سنة 2004 فاز في الاولية في ولاية ايوا، هوارد دين على بقية مرشحي الحزب الديمقراطي. وجاء جون كاري الثالث، لكن، فاز كاري في الاولية في ولاية نيو هامبشير، ثم في ولايات اخرى، ثم بترشيح حزبة لرئاسة الجمهورية.

لهذا، ليس مؤكدا ان كل من يفوز في ولاية ايوا سواء من الحزب الجمهوري او من الحزب الديمقراطي سيفوز بترشيح حزبه لرئاسة الجمهورية، لكن الفوز الاول دائما يوفر فرصة اعظم في بقية الولايات. وحتى الان ليس معروفا من سيفوز بترشح الحزبين الكبيرين هل سيكون اوباما مرشحا للحزب الديمقراطي، أم هيلاري؟ وهل سيكون رومني هو مرشح الحزب الجمهوري، أم هاكابي؟ ولكن البداية القوية ستضمن دفعا قويا.. هكذا تأتي اهمية ايوا لانها ضربة البداية. بالطبع ان الذي يفوز في ولاية ايوا ربما لن يفوز في ولاية نيوهامبشير الثلاثاء المقبل. والعكس صحيح. الذي يسقط في ايوا ربما سيفوز بترشيح حزبه، ثم برئاسة الجمهورية.

في انتخابات سنة 1988، سقط مايكل دوكاكيس في ايوا، وجاء ترتيبه الثالث، لكنه فاز بترشيح الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية. وفي نفس السنة سقط جورج بوش (الاب) في ايوا، وجاء ترتيبه الثالث، لكنه فاز بترشيح الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية (ثم فاز على دوكاكيس).

ما الفرق بين الانتخابات الاولية في ولاية ايوا وفي ولاية نيوهامبشير؟ ايضا سؤال مهم عند الكثيرين. الفرق الرئيسي هو ان الاولى في غرب الوسط، والثانية في الشمال الغربي. الاولى تقليدية، والثانية ليبرالية. في الاولى سأل صحافي مشهور: «ما هي فائدة التصويت لشخص لن يفوز؟» وفي الثانية ربما سيسأل صحافي مشهور: «لماذا لا نصوت لمن نتفق معه في الرأي، بصرف النظر عن فوزه او سقوطه؟» ربما ايوا أهم لانها خليط من جمهوريين وديمقراطيين. بينما نيوهامبشير ديمقراطية. وربما ايوا اهم لأنها، طبعا تجري انتخاباتها الاولية قبل نيوهامبشير. لكن، في الجانب الآخر، ربما نيوهامبشير اهم لأنها «من ولايات الصفوة» مثل ماساتشوستس، ومين. ولايات الشمال الغربي، حيث بدأت فكرة الديمقراطية الاميركية، من قبل استقلال اميركا. وربما لأن الانتخابات الاولية في نيوهامبشير فيها تصويت سري ومباشر، بينما هي في ايوا عبارة عن ناس يجتمعون في مدرسة، او مكتبة، او حتى مقهى، ويختارون مندوبيهم في مؤتمر الحزب. تتفوق نيوهامبشير بهذا الطعم الخاص، رغم ان ايوا اكبر مساحة (خمسة اضعاف)، واكثر سكانا (ضعف). ولهذا، يحتاج المرشح الذي يفوز في ايوا لأن يفوز، ايضا، في نيوهامبشير، ليضمن فوزه بترشيح حزبه في مؤتمر الحزب.