تفصيل الدستور على مقاس السياسة

خبراء القانون لم يجدوا «علة دستورية» للأزمة اللبنانية ويؤكدون أن العلة ليست إلا سياسية

لبنانيون في مسيرة لدعوة السياسيين الى الاتفاق في حملة «كفى» (أ. ب)
TT

لم يبق في لبنان أو خارجه من لم يدل بدلوه في «تفسير» الدستور اللبناني ومن بينهم كثيرون تحدثوا عن تفاصيل الجدل الدستوري فيما يبدو ان الخلاف القائم في لبنان متعلق بكل شيء، إلا بالدستور.

لم يكن من المستغرب وقوع الازمة الدستورية في لبنان. فالكل كان يترقب حصولها منذ اندلاع الازمة السياسية بين الاكثرية البرلمانية والمعارضة والفرز السياسي الذي حصل عقب الانتخابات النيابية في العام 2005 والتي وان أعطت فريق «14 اذار» الاكثرية البرلمانية، لم تسمح له بالحكم بعدما حصلت المعارضة على «الثلث المعطل» في البرلمان. وقد بدأت هذه الازمة تتبلور مع اقتراب موعد انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود. فقد كان من الواضح ان المعارضة لن تسمح للاكثرية بانتخاب رئيس من صفوفها حتى لو وصلت الامور الى حرب حقيقية في شوارع لبنان.

بداية الازمة كانت مع خروج الوزراء الشيعة من الحكومة، واعتبار المعارضة ورئيس الجمهورية آنذاك اميل لحود ان الحكومة «فقدت شرعيتها الميثاقية» بسبب عدم تمثل طائفة كبيرة فيها هي الطائفة الشيعية استنادا الى الفقرة «ي» من مقدمة الدستور التي تنص على ان «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك» فيما تمسكت الاكثرية بالنص الدستوري الذي ورد في المادة 69 من الدستور التي تنص على حالات استقالة الحكومة وهي محددة بستة بنود لا توجد بينها استقالة وزراء من طائفة ما، وتحدد هذه المادة حالات استقالة الحكومة او اعتبارها مستقيلة بالاتي:

«أ ـ إذا استقال رئيسها. ب ـ إذا فقدت اكثر من ثلث عدد أعضائها المحدد في مرسوم تشكيلها. ج ـ بوفاة رئيسها. د ـ عند بدء ولاية رئيس الجمهورية. هـ ـ عند بدء ولاية مجلس النواب. وـ عند نزع الثقة منها من قبل المجلس النيابي بمبادرة منه أو بناء على طرحها الثقة».

استمرت الحكومة رغم عدم الاعتراف من قبل المعارضة، لكن الازمة اخذت منحى جديدا مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية وتمسك المعارضة بنصاب الثلثين في مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية، وهو نصاب سار العرف على اعتماده في كل الانتخابات الرئاسية التي حصلت في لبنان، إلا ان اعتماد المعارضات اللبنانية، على مر السنين والعهود، أسلوب المقاطعة لجلسات الانتخاب لجر الاكثرية الى التفاوض معها، كان يحصل لاول مرة جراء الوضع السياسي المعقد في لبنان. لوحت الاكثرية بنصاب الاكثرية العادية لانتخاب الرئيس اي النصف زائدا واحدا من نواب الجلسة (65 نائبا) وهو النصاب المتوفر لديها باعتبار انها تمتلك الان 68 نائبا في صفوفها انطلاقا من تفسيرها للفقرة الثانية من المادة 49 من الدستور والتي تنص على انه «ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي». فقد رأت الاكثرية ان الجلسة الثانية للانتخاب يمكن ان تتم بالنصاب العادي، فيما أجابت المعارضة بأن النصاب هو للجلسة، وان الانتخاب بالاكثرية العادية ممكن في الدورة الثانية او ما يليها من الدورات ضمن الجلسة. وفي جميع الاحوال كان واضحا ان الخلاف السياسي هو الاساس، فمع حصول الفراغ السياسي وامتناع الاكثرية عن الانتخاب بالنصف زائدا واحدا، وقبولها بترشيح قائد الجيش العماد ميشال سليمان للرئاسة، استمرت الازمة. فقد انتقل الخلاف الدستوري الى مادة اخرى من الدستور، وتحديدا الى المادتين 76 و77 المتعلقتين بتعديل الدستور، بالاضافة الى الفقرة الثالثة من المادة 49 التي تنص على انه «لا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى، وما يعادلها في جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة وسائر الأشخاص المعنويين في القانون العام، مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن وظيفتهم أو تاريخ إحالتهم على التقاعد». وتوجب هذه المادة تعديل الدستور لانتخاب سليمان رئيسا كونه احد موظفي الفئة الاولى. ورفضت المعارضة مرور التعديل الدستوري عبر الحكومة التي لا تعترف المعارضة بشرعيتها مع ان الدستور ينص على مرور التعديل عبرها سواء انطلق عبر مشروع من الحكومة او اقتراح من 10 نواب، رغم أن سليمان كان من الاسماء التوافقية التي اقترحتها هي في البداية.

وطرح اكثر من حل لتجاوز هذا المطب، منها استقالة الحكومة لتصبح حكومة تصريف أعمال فلا يعرض عليها التعديل، لكن الاقتراح سقط لان الحكومة رفضت الاستقالة خوفا من عدم التزام المعارضة بانتخاب سليمان، ووقع فراغ في الحكومة بعد الفراغ في الرئاسة. ثم طرحت عودة الوزراء الشيعة الى الحكومة، لكن المعارضة ربطت هذه العودة بمطلب رأته الاكثرية تعجيزيا وهو مراجعة نحو 700 قرار اتخذته الحكومة خلال فترة «اللا شرعية»، أي منذ استقالة الوزارء الشيعة. واخيرا عرض النائب بهيج طبارة اقتراح تجاوز الدستور بدلا من تعديله عبر الاستناد الى المادة 74 التي تنص على انه «إذا خلت سدة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس أو استقالته أو سبب آخر فلأجل انتخاب الخلف يجتمع المجلس فورا بحكم القانون» لعدم تمرير التعديل الدستوري عبر الحكومة كأحد المخارج التي طرحت خلال المفاوضات الاخيرة بين الاكثرية والمعارضة لانتخاب العماد سليمان، وذلك باجتماع البرلمان و«تفسير» الدستور بما يسقط الفقرة المتعلقة بضرورة استقالة الموظفين الرسميين قبل سنتين من الانتخابات للترشح للرئاسة، باعتبار ان المهل تسقط مع حصول الفراغ في المنصب. واستنادا الى الانتخابات الفرعية في العام 2003 التي حصلت بسبب وفاة النائب البير مخيبر، اذ تم القبول بترشيح رئيسة اتحاد بلديات المتن الشمالي ميرنا المر للانتخابات الفرعية انطلاقا من ان «الفراغ يسقط المهل». غير ان انتهاء العقد العادي للبرلمان مع نهاية العام سبّب عقدة جديدة لان المجلس وإن كان يستطيع بحكم المادة 74 انتخاب الرئيس في اي وقت إلا انه لا يجتمع للتشريع إلا في ظل دورة عادية او استثنائية للبرلمان. فالدورة العادية انتهت بنهاية العام 2007 وستفتح مجددا في 17 مارس (اذار) لكن المعارضة لا تعترف بشرعية الدورة الاستثنائية التي فتحها مجلس الوزراء استنادا الى صلاحيات رئاسة الجمهورية التي تسلمها بالوكالة مع فراغ موقع الرئاسة.

وعلى الرغم من ان رئيس مجلس النواب نبيه بري يعتبر ان لا حاجة الى فتح دورة استثنائية لانتخاب سليمان، وقبول بعض اطراف الاكثرية بالتغاضي عن هذه المخالفة للوصول الى انتخاب سليمان على اعتبار ان «إنقاذ البلاد يستحق تجاوز الدستور»، إلا ان اطرافا اخرى في الاكثرية ترى ان اعتماد هذه الطريقة من شأنه ايصال سليمان الى موقع الرئاسة ضعيفا.

ويعبر الدكتور حسن الرفاعي، أحد ابرز الخبراء الدستوريين في لبنان، عن حالة «قرف» أوصلته اليها «انتهاكات الدستور»، ويجزم بان نص المادة 77 من الدستور لا يحتمل التأويل لناحية ان يمر مشروع التعديل المقترح عبر الحكومة، معتبرا ان كل ما يقال عكس ذلك يخضع الدستور لمآرب سياسية. ويقول الرفاعي: «الاقوال التي نسمع ونقرأ كلها سياسية تخضع الدستور لمآرب سياسية ومفاهيم سياسية غالبا مغلوطة. فالمادة 49 في الفقرة الثالثة تشترط ان يستقيل موظف الفئة الاولى قبل سنتين والفقرة التي قبلها تقول بوجوب تأمين شروط الترشح للنيابة. وبالرجوع الى القانون المطبق راهنا نرى ان مادة منه تفرض على الموظف في الفئة الاولى ان يستقيل قبل ستة اشهر. وبما ان الدستور كرّس تطبيق الشروط الواجب توافرها من دون ان يستثني منها صراحة الاستقالة قبل ستة اشهر، فواجب إما ان توقف وإما ان يستثنى تطبيقها الشكليات التي تؤدي الى طريق واحدة. واوضح الرفاعي انه لا بد من المرور بأحكام المادة 77. هذا جزم لا يحتمل التأويل، ووفق المادة 77 فان المشروع يحال على رئيس الجمهورية الذي يقترح هو، وبما ان الشغور اليوم في مركز رئاسة الجمهورية احيل على الحكومة وأصبحت الحكومة تملك كامل صلاحيات السلطة التنفيذية بما فيها صلاحيات رئيس الجمهورية، إذاً لا يجوز التلاعب اطلاقا.

أما الاستشهاد بأحكام للمجلس الدستوري (قضية ميرنا المر) فإن هذا المجلس المذكور، ومن دون ان نعلم ما فيها هذه الاحكام ومهما كانت، لا يحق له ان يفسر دستورا او ان يعلق على مواد دستورية بموضوع الا اذا كان ينظر في قانون عادي، فيقول ان القانون دستوري او غير دستوري، أما ان يقرر ضمنا وصراحة امكانية تعديل او الغاء حرف من حروف الدستور من دون مشروع قانون او اقتراح يأتي من النواب ليكرس بمشروع قانون من قبل الحكومة، كل هذه الاقوال خطأ.

ويجزم رئيس لجنة الادارة والعدل في البرلمان اللبناني، النائب روبير غانم، بان المشكلة القائمة «سياسية لا دستورية»، ويقول: «الوضع السياسي ينعكس على تفسير الدستور لسوء الحظ»، معتبرا ان «المخرج هو بالعودة الى القواعد الاساسية في تفسير الدستور وفق المنطق الدستوري وعدم ادخال التجاذبات السياسية عاملا اساسيا في التعاطي مع الدستور».

ويرى غانم ان «الطبقة السياسية اللبنانية فشلت في تطبيق الدستور، وبالتالي اضطررنا خلال السنوات العشرين الماضية الى الخروج باستثناءات للوصول الى مخارج دستورية».

ويتفق وزير الشباب والرياضة، احمد فتفت، مع الرأي القائل بان الازمة القائمة في لبنان «سياسية لا دستورية»، لكنه يشير الى وجود «ازمة نظام». ويقول فتفت ان «الازمة الحقيقية هي ان كل شخص يفسر الدستور على رأيه»، ويعتبر ان «الخطأ الاساسي هو في عدم اعطاء المجلس الدستوري صلاحية تفسير الدستور بدلا من وضعها لدى مجلس النواب الذي يستحيل عليه التعاطي مع هذا الموضوع بشفافية بسبب تأثره بالاتجاهات السياسية، اذ يكفي وجود من يمتلك اكثر من الثلث من اعضاء المجلس لتعطيل اي قرار بصدد تفسير الدستور».

ويخالف فتفت القائلين بضرورة ايجاد «طائف جديد»، نسبة الى الاتفاق الذي عقد في مدينة الطائف السعودية حيث اتفق الافرقاء اللبنانيون على إنهاء الحرب الاهلية. ويعتبر فتفت ان «الطائف ظُلِم كثيرا، لانه لم يطبق بالكامل ليتم تعديله». ويقول: «ان الكلام عن طائف جديد يصح في واحدة من حالتين، وجود هدوء سياسي كامل يسمح بالتعامل مع التعديل بعقلانية، او فتنة كبيرة تدفع باتجاه تعديله». ويضيف: «لقد دفعنا 200 الف قتيل في الحرب الاهلية ثمنا للوصول الى اتفاق الطائف، ونحن غير قادرين على دفع اثمان اخرى الان».

وبدوره رأى عضو كتلة «المستقبل» النيابية مصطفى علوش ان 90 في المائة من الاجتهادات الدستورية تقول ان الطريقة الوحيدة لتعديل الدستور، من اجل انتخاب العماد سليمان، هي «عبر المرور بتعديل المادة 49 من الدستور» وان هذه المادة «لا يمكن ان تعدل إلا عبر المرور بالحكومة ومجلس النواب بغالبية الثلثين من اعضائهما». لكنه اشار الى انه لو كان الحل السياسي موجودا لكانت الامور الاخرى قد سهلت امورها. واشار علوش الى ان «الخلاف الاساسي سياسي والدستور يستعمل كواجهة». وقال: «لقد تجاوزنا كل التحفظات الدستورية وذهبنا الى المجلس لانتخاب العماد سليمان، لكن هذا لم يحصل لان المسألة الدستورية ليست هي العقدة».

وأبدى علوش تحفظه على تجاوز تعديل الدستور وانتخاب العماد سليمان استنادا الى نظرية النائب طبارة، معتبرا ان هذا يجعل الرئيس رهينة لدى كل من يملك 10 نواب او اكثر في المجلس، لان هذا هو العدد المطلوب من النواب للتقدم بطعن امام المجلس الدستوري بشرعية انتخابه رئيسا، ما يجعل الرئيس مضطرا للحصول على «رضى» كل الاطراف، فاذا اختلف مع احدها اصبح وجوده في منصبه مهددا ويجعله رئيسا ضعيفا، معتبرا ان اقتراح طبارة «يستند الى اجتهاد شخصي ولا يستند الى توافق القوى الاساسية».