فتح.. «معركة بقاء»

بعد 43 عاما من المواجهات المستمرة بدأت تفقد السلطة والمال والسلاح

TT

«اتكالاً منا على الله، وايمانا منا بحق شعبنا في الكفاح لاسترداد وطنه المغتصب، وإيمانا منا بالموقف العربي الثائر من المحيط إلى الخليج، وإيمانا منا بمؤازرة أحرار وشرفاء العالم، لذلك فقد تحركت أجنحة من قواتنا الضاربة في ليلة الجمعة 31/12/1964 ، 1/1/1965 وقامت بتنفيذ العمليات المطلوبة منها كاملة ضمن الأرض المحتلة، وعادت جميعها إلى معسكراتها سالمة. وإننا لنحذر العدو من القيام بأية إجراءات ضد المدنيين الآمنين العرب أينما كانوا، لأن قواتنا سترد على الاعتداء، باعتداءات مماثلة، وستعتبر هذه الإجراءات من جرائم الحرب.

كما وإننا نحذر جميع الدول من التدخل لصالح العدو وبأي شكل كان لأن قواتنا سترد على هذا العمل بتعريض مصالح هذه الدول للدمار أينما كانت.

عاشت وحدة شعبنا وعاش نضاله لاستعادة كرامته ووطنه.

القيادة العامة لقوات العاصفة. 1/1/1965».

كان هذا البيان الأول لحركة التحرر الوطني الفلسطيني ـ فتح، «ام الجماهير» و«اول الرصاص اول الحجارة» كما يحلو لمناصري الحركة القول. لكن «ام الجماهير» لم تعرف منذ انطلاقتها أسوأ من ايامها اليوم. فبعد 43 عاما من المواجهات المستمرة على عدة جبهات، اسرائيلية وعربية ودولية وفلسطينية، خاضت خلالها عشرات المعارك العسكرية والسياسية، وبقيت التنظيم «الأم» بلا منازع، تجد «فتح» نفسها اليوم «مطرودة» من قطاع غزة ومهمشة في الضفة الغربية. فلا هي قادرة على استرجاع غزة. ولا هي تحكم في الضفة.

«إنها فتح»، يقول كثيرون من الفتحاويين «المجروحين» في اشارة الى انها ستعود اقوى من ذي قبل. فهم جربوا مواجهة العواصف والازمات اكثر من مرة. وفي كل مرة كان يخرجون منتصرين... بل اقوى من ذي قبل.

لكن انتصاراتها تلك كان يقودها رجال... صاروا في ذمة الله. ومن بينهم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وهو رجل كان يوصف بـ«طائر الفينيق» بين مناصريه ومحبيه، لامتلاكه قدرة فائقة على البقاء وتجاوز الازمات. ابو عمار «الذي كان يمسك الشيطان بيد والملاك باليد الاخرى من اجل صياغة جملة» حسب ما قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش، رحل. رحل تاركا خلفه جملا صعبة بحاجة الى صوغ ماهر. ويقول فتحاويون كثر انها قدرة لا يجاريه فيها احد من الاحياء في فتح. بل ان الفتحاويين يعتقدون دون تردد ان عرفات لو كان حيا، لما «سقطت» غزة. مستندين الى قدرة الرجل على مواجهة الازمات التي كادت تودي بالحركة قبل ذلك.

وقد عاشت فتح مواجهات كبيرة وانشقاقات مدعومة عربيا، بدأت اولها بعد عام من انطلاقتها حين حاول فتحاويون الاستيلاء على قيادة قوات «العاصفة» في سورية بالقوة بدعم من حزب البعث الذي ظل يحمل العداء لفتح. فتركت فتح سورية وذهبت الى عمان حيث خاضت اشتباكات واسعة في المملكة الاردنية بداية السبعينيات. هدد وجودها بالكامل قبل ان تتدخل دول عربية لاخراج ياسر عرفات متخفيا من احراش جرش. فاضطرت الحركة للانتقال الى لبنان حيث واجهت القوات السورية مجددا غير مرة. ومن ثم اشتبكت مع تيارات لبنانية متصارعة، فوجدت نفسها وسط الحرب الاهلية اللبنانية مهددة مرة اخرى بالبقاء.

ويوثق التاريخ الفتحاوي لكثير من محاولات الانشقاق داخل فتح، ويتطرق للخطر الذي واجهته الحركة في العام 1974 بانشقاق صبري البنا «أبو نضال»، مدير مكتب الحركة في العاصمة العراقية انذاك، وتأسيسه لما سماه «حركة فتح ـ المجلس الثوري» التي بدأت باغتيال قيادات في فتح والتي لقيت الدعم المكثف من المخابرات العراقية في البداية، ثم من مخابرات عدة دول أخرى لاحقاً. لكن لعل اسوأ المراحل على حركة «فتح» تلك التي بدأت في العام 1983 بعد عام من معركة «الصمود» في بيروت، حين انشق احد ابرز قيادييها العسكريين عنها، وهو سعيد مراغة المعروف بـ أبو موسى. وتقول فتح انه «استولى في 9/5/1983 على قيادة قوات اليرموك بعد أن تسلم 60 طنا من الأسلحة عبر الاستخبارات السورية، وأعلن مع شركائه خالد العملة وقدري، ما سموه (الحركة التصحيحية) في «فتح» والتي عرفت لاحقا باسم (فتح ـ الانتفاضة). وحسب فتح، فان الموقف تطور سريعا بشكل سيئ، وهاجم المنشقون قوات «فتح» في المناطق الواقعة في سهل البقاع اللبناني بدعم دبابات الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة الموالية لسورية فيما احتلت القوات السورية معسكر حمّورية ومواقع «فتح» في البقاع وحاولت اغتيال ياسر عرفات ثم قامت بطرده وخليل الوزير (نائب عرفات) في 24/6/ 1983، لتبدأ الحرب السورية ـ الليبية مع المنشقين ضد «فتح».

بقيت «فتح» صامدة واكتسبت جماهيرية اكثر وخرجت من طرابلس كما خرجت من بيروت والاردن وسورية، هذه المره الى الشتات في صحارى دول عربية، واخذت من تونس مقرا لها لادارة معاركها السياسية والعسكرية. فواصلت تنفيذ العمليات المسلحة، ودفعت نحو الانتفاضة الشعبية بداية العام 1987. ثم حركت هذه الانتفاضة ووجهتها قبل ان يرد الاسرائلييون باغتيال «مهندس الانتفاضة»، خليل الوزير المعروف بأبي جهاد، بعد اعطائه الاوامر بتنفيذ عملية في مفاعل ديمونا الاسرائيلي الامر الذي اعتبره الاسرائيليون كسرا لقواعد اللعبة وتجاوزا للخطوط الحمر. ويعتبر كثير من الفتحاويين، انه باغتيال الوزير فقدت فتح «العقل» العسكري. وقبل ابو جهاد كانت اسرائيل قد اغتالت عشرات القادة والكوادر الفسطينيين. ووحده ياسر عرفات استطاع العبور بفتح الى الاراضي الفلسطينية، بعد اتفاق اوسلو الذي وقع بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل في العام 1993. قالت المنظمة انه لا مناص من الاتفاق وكان عرفات يخشى افول منظمة التحرير، بعد ان بدأت الانتفاضة تخبو. هاجمت حركة حماس «الاسلامية» التي كانت وليدة انذاك حركة فتح «العلمانية» واعتبرت اتفاق اوسلو ترجمة للخيانة الكبرى. وقالت ان «فتح» بدلت البندقية بغصن الزيتون. وصافحت قتلة ابنائها. وتنازلت عن الارض. وشنت حماس عدة هجمات، ونفذت عدة عمليات تفجيرية لاحباط اوسلو ومن ثم لاحباط توسيع الاتفاق. لكن عرفات استطاع الرد، وامر بسجن معظم قادة الحركة، ونجح في الحفاظ على تواصل طيب معهم. ومضى قدما دون عقبات. اسس اول سلطة فلسطينية واول برلمان فلسطيني واجرى اول انتخابات، وصار اول رئيس منتخب. ولم يكن يدر بخلده انه قد يبني السلطة لحماس. كان يبحث دائما عن معارضة، لكنه لم يكن يخشاها ابدا، اذ كان ايضا يصنعها احيانا، ويمول انشقاقاتها بعد ذلك. مات عرفات في الانتقاضة الثانية وكانت حماس قد كبرت وامتدت جماهيريتها، وامتلأت الناس بالرغبة في التغيير ربما انتقاما من ممارسات لم تستطع فتح ضبطها في الشارع وتحت تاثير الحديث المستمر عن الفساد والافساد.

خسرت الحركة، معركتها الانتخابية الاولى في البلديات، فلم تغير ولم تبدل ولم تحاسب. فتلقت الضربة الثانية في الانتخابات التشريعية، بدت كأسد جريح يريد ان يرد بالسرعة الممكنة. فلم تتعود فتح على المعارضة. ولم تغير كذلك ولم تحاسب ولم تبدل. فاندلعت الاشتباكات الدموية في قطاع غزة سريعا، واستمرت، وكبرت حتى حسمت حماس الامر، واسقطت كل قلاع الحركة التي صمدت قبل ذلك امام جيوش اكبر واعتى واكثر تدريبا.

هذه المرة، سقطت رؤوس في فتح، وعادت اخرى. وقال احد مقاتلي فتح القدماء لـ«الشرق الاوسط»: «كأنهم قدر على الشعب الفلسطيني، هل اصبحت فتح عاقرا؟ والى متى سنبقى نحرك احجار الشطرنج». ويقول تيسير نصر الله عضو المجلس الوطني الفسلطيني عن فتح لـ«الشرق الاوسط» إن «الدماء الجديدة بحاجة الى انتخابات». ويعتقد نصر الله الذي يختلف مع كثير من سياسات الحركة ان فتح تمر بانتفاضة ديمقراطية الان، بهدف التغيير والتبديل. ويضيف: «المؤتمر السادس منتصف هذا العام يجب ان يشهد تغييرات كبيرة لانتخاب لجنة مركزية جديدة»، لكن نصر الله رغم كل ما يبديه من تفاؤل يبدو قلقا من تضارب المصالح والنفوذ، ما سيفشل عقد المؤتمر السادس. وحسب نصر الله فان فتح وابناءها «رغم كل هذه الانتكاسات، مازالوا قادرين على النهوض من جديد». لان مسببات وجود الحركة (الاحتلال) مازال قائما.

ويقر نصر الله، بكثرة الافكار والتيارات المتصارعة، داخل فتح، لكنه يشدد انها مازالت رغم ذلك موحدة، مستبعدا خطر الانشقاق كما حدث في العام 83 الذي يعتبره نصر الله من اسوأ ما ألم بالحركة مع ما تواجهه اليوم. أما عبد الله عبد الله، رئيس الدائرة السياسية في المجلس التشريعي عن فتح، فيقول ان ما تمر به الحركة اليوم هو فريد من نوعه، ويمايز عبد الله بين ما مر على الحركة قبل ذلك، وما تعيشه اليوم، اذ يعتبر الازمة ليس شأنا داخليا فتحاويا، بقدر ما هي شرخ وقع على الارض والوحدة الفلسطينية. ويبدو عبد الله واثقا من قدرة فتح على احداث التغيير رغم غياب قادتها الكبار، ويرجع ذلك الى ما سماه «نهج فتح المؤسسة».

وفتح المؤسسة، تلك قصة اخرى... اذ لا يرى الكثير ان هناك مؤسسة عند فتح، وقالت مصادر من الحركة لـ«ألشرق الاوسط» ان «فتح تعيش ازمة مالية حادة اليوم»، اذ فقدت كذلك قوة «المال»، الذي صار في يد رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض، الذي لم ينتم يوما لفتح، ولا أي من وزرائه. وقوة المال تلك هي ما يجبر فتح، حسب ما قال احد كوادرها «على كظم الغيظ من فياض ووزرائه»، مضيفا «لا نعرف اذا ما كان العالم سيتقبل ازاحة فياض». وقال اخرون: «لن يبقى الرجل (فياض) ضرورة فتحاوية بعد ان ينهي الدور المطلوب منه» وان كان البعض الفتحاوي يشكك بقدرة فتح على استعادة «القرار».

وقبل اسبوع مضت الحكومة الفلسطينية، بحل «كتائب شهداء الاقصى» الذراع المسلح لفتح، وقالت ان السلاح الوحيد سيبقى بيد رجال السلطة، الذين تنوي الحكومة وقف حوالي 30 الف منهم ينتمون ايضا لفتح. ومن غير المعروف ما اذا كانت «اول الرصاص والحجارة» بدون قوتي المال والسلاح، اللتين لم تسمح فتح يوما بالتنازل عنهما، ستستطيع ان تنتصر من جديد ام ان كثرة الضربات دون علاج ستودي بحياة الحركة.