ملك في مواجهة الأزمات

خوان كارلوس.. صاحب التجربة الاستثنائية ومعيد إسبانيا إلى الديمقراطية احتفل بذكرى ميلاده السبعين

TT

تنسب إلى الملك فاروق، ملك مصر السابق الراحل، مقولة طريفة مؤداها أنه بنهاية القرن لن تبقى في العالم إلا خمسة تيجان مالكة، هي تيجان ملكة بريطانيا وملوك «الكوتشينة» الأربعة! يومذاك أساء الملك فاروق قراءة حركة التاريخ بدقة، فمع أن أنظمة جمهورية عديدة ظهرت في العالم، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، على أنقاض الأنظمة الملكية، فإن الانهيار المتسارع الذي توقعه للأنظمة الملكية لم يحدث، وما زالت معظم الأنظمة الملكية في غرب أوروبا وشمالها قائمة، بل في بعض الحالات حصل تحول معاكس كحال كل إسبانيا التي عادت إليها الملكية بعد فترة سبات غير قصير. وحتى خارج أوروبا عادت كمبوديا إلى الملكية بعدما كانت لبعض الوقت جمهورية اشتراكية.

التجربة الإسبانية، تعد حقاً تجربة استثنائية، على أكثر من صعيد. فعلى أرض إسبانيا قامت أعظم دولة إسلامية على اليابسة الأوروبية، ومعها ولدت حضارة رائدة في تاريخ الغرب. ومع سقوطها عام 1492 نهضت حضارة أمبراطورية مسيحية كاثوليكية توسّعت إلى العالم الجديد (أميركا) وبنت فعلاً «الدولة التي لا تغيب الشمس عن أرضها». وبين هاتين الحقبتين التاريخيتين الاستثنائيتين عرفت أرض إسبانيا تجربة غير مسبوقة في القمع الديني وقهر الأقليات على أيدي «محاكم التفتيش»، التي هي اليوم في رأي كثيرين تشكل وصمة عار في مسيرة الكنيسة. وبعد ذلك، وفي أعقاب تراجع رقعة المملكة الإسبانية في أقاليم غرب أوروبا، خاض الإسبان حرباً أهلية مدمرة تحولت عملياً إلى «حرب مدوّلة» شارك فيها في صفوف القوتين المتصارعتين الرئيستين «الجمهورية» و«الملكية» متطوعون أجانب يساريون وليبراليون وفاشيون وفوضويون وقوميون متطرفون من كل الاتجاهات، أسفرت عام 1939 ـ في عز صعود النازية والفاشية الأوروبية ـ عن انتصار الجنرال فرانشيسكو فرانكو، الذي قاد معركة «الملكيين»، لكنه سرعان ما تحول إلى ديكتاتور، وضع «النظام الملكي» في ثلاجة لمدة ناهزت الأربعة عقود. فرانكو لم يلغ النظام الملكي من الناحية التقنية، بل جعل نفسه اعتباراً من عام 1947 «وصياً على العرش». ولكن عندما شاخت التجربة «الفرانكوية»، كان لا بد لإسبانيا من العودة إلى الديمقراطية والحداثة. وكان البديل الجاهز «الملكية الدستورية» الراعية لنظام ديمقراطي اتحادي، يحترم حقوق المواطن، ويعترف بالتعددية الثقافية للاٌقاليم الإسبانية ومكوناتها الإنسانية.

رمز المرحلة الديمقراطية التي طوت صفحة الديكتاتورية، وأعادت إسبانيا إلى قلب أوروبا... الملك خوان كارلوس الأول. العاهل الإسباني بلغ هذا الاسبوع سن السبعين، وجاءت هذه المحطة في مسيرة حياته مع تخطي شعبيته في أوساط الشعب الإسباني نسبة الثمانين بالمئة، محطمة بذلك كل الارقام القياسية المعهودة ومخالفة معظم التوقعات. وقد فاجأ الملك خوان كارلوس الجميع أخيراً بزيارة خاطفة قام بها إلى أفغانستان، التي يجمع الخبراء أنها اليوم واحدة من أخطر بقاع الأرض، وكان سبب الزيارة تفقد القوات المسلحة الإسبانية المنتشرة هناك، علماً بأن العاهل الإسباني هو القائد الأعلى لهذه القوات، وكان قد أثبت جدارة استثنائية في هذا المنصب عندما أحبط محاولة انقلاب عسكري قام بها بعض ضباط الجيش في الثالث والعشرين من شهر فبراير (شباط) 1981، ما زال بعضهم حتى الآن في السجون الإسبانية.

ولد الملك خوان كارلوس الأول في الخامس من شهر يناير (كانون الثاني) 1938 في العاصمة الأيطالية روما، التي اختارتها العائلة المالكة الإسبانية مقرا لإقامتها بعد إعلان الجمهورية في إسبانيا عام 1931. والده الدون خوان دي بوربون، كونت برشلونة ورأس العائلة المالكة الإسبانية آنذاك، منذ تنازل الملك ألفونسو الثالث عشر عن العرش في الرابع عشر من أبريل (نيسان) 1931، ووالدته ماريا دي لاس مرثيديس دي بوربون وأورليانز. وللملك شقيقتان هما الدونا بيلار (ولدت عام 1936) والدونا مارغاريتا «دوقة هرناني» (ولدت عام 1939)، وشقيق واحد هو الدون آلونسو (ولد عام 1941) الذي قتل عن طريق الخطأ عام 1956 عندما كان في سن الرابعة عشرة برصاصة انطلقت من مسدس حربي ـ يقال إنه كان هدية من الجنرال فرانكو ـ كان يلهو به شقيقه خوان كارلوس عندما كانت العائلة المالكة في مقر إقامتها الصيفية بمنتجع إستوريل في البرتغال. وقد استقرت الرصاصة في رأس ألفونسو ففارق الحياة. ما زال هذا الحادث الذي أخضع لتحقيق قضائي معمق يحمل ذكريات مؤلمة جداً للملك وأثر فيه تأثيراً بالغاً. تلقى خوان كارلوس دراسته في إسبانيا، بناء على رغبة والده، وبالتحديد في العاصمة مدريد التي زارها للمرة الأولى في العاشرة من عمره. وأنهى دراسته الثانوية في سنة 1954 في مدرسة سان أيسيدرو، شفيع العاصمة الإسبانية، ومنذ عام 1955 تنقل بين مدارس القوات المسلحة الإسبانية ومعاهدها متلقيا دراسته العسكرية في سلاح البر والبحر والجو، ثم تخرّج من جامعة مدريد الكومبلوتنسية عام 1961 بشهادتين، الأولى في القانون الدستوري والدولي، والثانية في الاقتصاد والنظام الضرائبي.

في الرابع عشر من مايو (ايار) 1962 تزوّج من الأميرة صوفيا، الابنة البكر للملك بول (بافلوس) الأول ملك اليونان وزوجته الملكة فيديريكا، وشقيقة الملك قسطنطين آخر ملوك اليونان. وفي العام التالي، أي عام 1963 ولدت ابنته البكر الأميرة ايلينا، ثم تلتها الأميرة كريستينا بعد ذلك بسنتين، والأمير فيليبي دي بوربون أمير أستورياس وولي العهد عام 1968. وبالنسبة للأحفاد للملك اليوم ثمانية أحفاد، اثنان من ابنته ايلينا، هما فيليبي خوان فرويلان وفيديريكا فيكتوريا، وأربعة من ابنته كريستينا، هم خوان بالنتين وبابلو نيكولاس وميغيل وأيريني، واثنان من ولي العهد، هما ليونور وريثة العرش وصوفيا.

وعن الحياة الخاصة للملك يمكن القول إن الرياضة تحتل مكانة متقدمة فيها منذ صغره. فهو يمارس التزلج على الثلج شتاءً، وقيادة المراكب الشراعية صيفاً ويشارك بعدد من السباقات التي تقام بجزر الباليار الاسبانية، والتي يحمل أحدها اسمه، «كأس الملك»، ولقد فاز أكثر من مرة بكأس البطولة فيها. وهو أيضاً من محبي هواية الصيد التي يمارسها كلما سنحت له الفرصة، ليس فقط في الاقاليم الإسبانية، وإنما في بلدان أوروبية أخرى وأفريقية، وحتى في الجبال الروسية. وهو في سياق سعيه لتوطيد علاقات العرش مع كل المناطق والأقاليم الإسبانية من خلال زياراته الكثيرة فإنه يشارك بانتظام في نشاطاتها الثقافية والاجتماعية والرياضية.

منح خوان كارلوس لقب «أمير إسبانيا» أمام البرلمان الإسباني يوم الثالث والعشرين من يوليو (تموز) 1969، وبويع ملكاً على إسبانيا في الثاني والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) 1975، بعد يومين فقط من وفاة الجنرال فرانكو. وفي الخطاب التاريخي الذي ألقاه أمام البرلمان وأمام الشعب الإسباني، أعلن العاهل الجديد الأفكار الأساسية التي يصبو إلى تحقيقها مباشرة، ألا وهي استعادة الديمقراطية وتوليه العرش ملكاً لجميع الإسبان، من دون استثناء أو تمييز. وفي شهر مايو (أيار) 1977، تنازل الدون خوان، كونت برشلونة ووالد خوان كارلوس عن حقوقه الملكية ـ وكان مطالباً بالعرش إبان ديكتاتورية فرانكو ـ لصالح ابنه في احتفال تاريخي كرّس فيه التزام العرش الإسباني باستعادة الديمقراطية ونشر المساواة.

ومما يسجله الساسة الإسبان لعاهلهم دوره السياسي الهادئ والحصيف الذي لعبه عام 1975 على أثر وفاة فرانكو. إذ جمع مختلف الأطراف والأحزاب السياسية الإسبانية على طاولة المفاوضات، وقادها إلى التوصل إلى صيغة مشتركة انتشلت إسبانيا من فجوة الظلام وخطر حرب أهلية ثانية، تخوف كثيرون من احتمال حدوثها بسبب التباينات الكبيرة والخلافات الواضحة التي كانت موجودة آنذاك بين الجمهوريين والملكيين واليسار واليمين والجماعات القومية والانفصالية المتعددة. واليوم يعترف الجميع بأهمية هذا الدور خلال تلك الفترة الانتقالية الصعبة، إذ يقول خوسيه لويس رودريغيث ثاباتيرو، رئيس الحكومة الحالي، إن الملك «أمام الأوضاع الاستثنائية الصعبة التي تعرضت فيها الديمقراطية في إسبانيا لخطر شديد، عرف كيف يتحمل مسؤوليته ويمارس مهامه في نظام ملكي ديمقراطي ودعم الدستور المؤسسات». أما خوسيه ماريا أثنار، الرئيس السابق للحكومة الإسبانية، فيرى «أن العرش الإسباني، ممثلا بشخص الملك خوان كارلوس، استطاع تأمين الاستقرار والثقة والمسؤولية والدوافع الإصلاحية الضرورية والانفتاح على المستقبل». أما فيليبي غونثاليث رئيس الحكومة الإسبانية الأسبق، وزعيم الحزب الاشتراكي آنذاك، الذي كان يمارس نشاطه سرا خلال نظام الجنرال فرانكو، والذي لعب دورا مهما في الفترة الانتقالية التي عاشتها إسبانيا بعد وفاته عام 1975، فنقل عنه قوله «أحيانا ننسى أن الملك خوان كارلوس تسلّم جميع سلطات الدولة من النظام السابق، لقد كان ملكاً مطلقاً، لكنه لم يمارس هذه السلطات». ويؤكد ماريانو راخوي، زعيم الحزب الشعبي اليميني المعارض، أن الملك «كان ولا يزال حجراً أساسياً غير قابل للتبديل في الحياة اليومية الإسبانية والنظام السياسي الإسباني وركيزة دعم حيوية للنظام الديمقراطي السائد، بل حتى غاسبار لامازاريس زعيم اليسار المتحد الذي يضم بين صفوفه الحزب الشيوعي الإسباني وغيره من الأحزاب اليسارية، أكد أنه «على الرغم من كوننا جمهوريين، ولكن نعرف تقييم الثلاثين سنة الأخيرة وما رافقها من نشاط سياسي مكثف على الصعيد المحلي».

الواقع أن الملك خوان كارلوس لا يتمتع بشعبية عالية داخل الأوساط والتيارات السياسية فحسب، بل يحظى باحترام وتقدير كبيرين في الأوساط الأدبية والثقافية والاقتصادية. وثمة إجماع في أوساط الإعلاميين والمثقفين على دوره في ترسيخ الاستقرار في الحياة السياسية الإسبانية، وقيادته النقلة النوعية الديمقراطية بعد مرحلة الديكتاتورية، ثم تصديه الشجاع للتيارات العسكرية المغامرة لمحاولة الانقلاب العسكري، التي نظمها بعض ضباط الجيش المتمردين في شهر فبراير (شباط) 1981، وكانت تلك المحاولة تذكيراً وإنذاراً نبها الشعب إلى التمسك بالنظام الملكي الدستوري، حيث الضمانة للديمقراطية التي كافح من أجلها لسنوات طويلة.

من ناحية ثانية، يعتبر الملك خوان كارلوس من أهم «سفراء» إسبانيا إلى العالم بأسره وأكثرهم نشاطاً، فعديدة هي الزيارات الرسمية وزيارات الدولة التي يقوم بها برفقة عقيلته الملكة صوفيا إلى مختلف دول العالم لتوطيد وتوثيق الروابط والعلاقات الثنائية. ومما هو معروف عنه في كل المناسبات تحليه بالوقار والصبر، ولكن من دون أن تفارقه الصراحة أو العفوية المحببة اللتان تدفعانه إلى الخروج على رتابة البروتوكول كلما سنحت الفرصة، وهذا ما سمح له بأن يكون قريبا من الناس. ومن الأمثلة على ذلك ما حصل إبان الجلسة الختامية لاجتماع القمة الأيبرية الأخير، الذي عقد في سانتياغو، عاصمة تشيلي، والذي ضم كل الدول الناطقة باللغة الإسبانية، بالإضافة إلى البرتغال والبرازيل. إذ فقد العاهل الإسباني صبره وخرج عن البروتوكول مدافعاً عن إسبانيا وعن رئيس حكومتها السابق أثنار، عندما وجه الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز ـ مقاطعا الخطاب الختامي لرئيس الحكومة الإسبانية رودريغيث ثاباتيرو ـ انتقادات لاذعة ضد أثنار. وكان شافيز قد أشار إلى بعض مشاريع الاستثمار الإسبانية في فنزويلا وبعض بلدان أميركا اللاتينية الأخرى، كما لو كانت مشاريع استعمارية، مما دفع رئيس الحكومة الإسبانية للدفاع عن رئيس الحكومة الإسبانية السابق الذي «اختاره الشعب الإسباني في انتخابات ديمقراطية نزيهة» وعن الشركات الإسبانية العاملة في أميركا اللاتينية، وهكذا وصل الاثنان إلى نقاش حاد، دفع العاهل الإسباني للتدخل أكثر من مرة حتى فرغ صبره أخيراً وتوجه إلى الرئيس الفنزويلي مشيراً إليه بإصبعه قائلا: «لماذا لا تصمت»، ثم وقف وغادر قاعة الاجتماع.

وبالنظر إلى علاقات إسبانيا التاريخية العميقة مع العالمين العربي والإسلامي يعرف عن العاهل الإسباني، رغم بعض سحب الصيف في العلاقات الإسبانية – المغربية، انه من أشد الفخورين بتاريخ إسبانيا العربي والمسلم. وهو يزكي هذا الموقف عملياً من خلال توليه منصبين، أولهما الرئاسة الفخرية لمؤسسة التراث الأندلسي، التي تتخذ من غرناطة مقرا لها، وتعمل على إحياء ذكرى الأندلس والسنوات الغائبة واستعادة التراث الأدبي والاجتماعي الأندلسي، وثانيهما الرئاسة الفخرية للمجلس الأعلى للبيت العربي، الذي انطلق باندفاع كبير منذ حوالي سنة ويهدف إلى تقوية الروابط التاريخية والجوار الجغرافي مع العالم العربي والإسلامي، ودعم العلاقات المتبادلة والعمل على مقاربة المجتمعات وتوطيد الاحترام بين جميع الأطراف.

يضاف إلى ذلك أنه اعتنى منذ تولى العرش بتنمية علاقات صداقة وتعاون مع جميع الدول العربية. وعلى الرغم من ان الزيارات الرسمية لم تكن كثيرة فإن الاتصالات معها لم تنقطع ابداً. كما أنه في مطلق الأحوال زار معظم البلدان العربية من المحيط إلى الخليج، واستقبل في إسبانيا مراراً الملوك والرؤساء العرب.

وفي العام الماضي استقبل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في زيارة دولة، جرى خلالها التوقيع على مذكرة تفاهم وعدة اتفاقات في مختلف المجالات، لاسيما مجالي المال والطاقة. وجاءت هذه الزيارة تعبيرا ليس فقط عن الصداقة المتينة والعلاقات الثنائية الممتازة التي تربط بين إسبانيا والمملكة العربية والسعودية وشعبيهما فحسب، بل وعلى الروابط الأخوية التي تربط بين العائلتين المالكتين الإسبانية والسعودية، على حد قول العاهل الإسباني. والمعروف أن خوان كارلوس اعتاد على قطع عطلته الصيفية ليوم كامل يخصصه لزيارة خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك فهد بن عبد العزيز عندما كان يمضي إجازته الصيفية في إسبانيا.

على صعيد ثان، يعرف عن العاهل الإسباني دفاعه الدائم عن القضية الفلسطينية ويعرب عن تأييده لاعلان دولة فلسطينية حيوية ذات حدود آمنة مع اسرائيل. وفي هذا المجال تجدر الإشارة إلى ان الرئيس الراحل ياسر عرفات كان يذكّره في كل اللقاءات انه ليس فقط ملك لإسبانيا وانما «ملك القدس» ايضاً، ذلك ان العائلة المالكة الاسبانية حظيت بلقب «ملك القدس» عندما تزوج الملك بدرو الثالث دي آراغون من حفيدة الملك فيديريكو الثاني. وكان هذا الأخير قد اعلن نفسه ملكاً على القدس عام 1229. وإلى يومنا هذا، وعلى جدران الكنيسة الملكية في غرناطة، بالإمكان قراءة ما يلي: «أمر ببناء هذه الكنيسة جلالة الملك فرناندو وجلالة الملكة ايزابيل ملكا اسبانيا ونابولي وصقلية والقدس».