فيروز: الكائن السياسي

تأثرت بمدرسة الرحابنة السياسية في السباحة بين التيارات.. وخلال الحرب الأهلية كان لها منزلان: الأول في الرابية حيث الأكثرية المسيحية.. والثاني في الروشة حيث الأكثرية المسلمة

TT

يمكن للمتطيرين أن يصفوا مسرحية «صح النوم» التي ستقدمها فيروز في 28 الجاري، ضمن نشاطات «دمشق عاصمة عربية للثقافة»، بأنها «جالبة نحس»، رافقها منذ تقديمها للمرة الاولى، فقد أوقفت عن العرض طوال ليال بعد أيام على افتتاحها في 28 أيلول (سبتمبر) 1970 عقب وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. وكان من المقرر ان تقدم في إطار «مهرجانات بعلبك» 2006. ذلك انه بعد العرض الخاص بأهالي المدينة عشية 12 يوليو (تموز)، اندلعت حرب إسرائيل على لبنان، والغيت كل النشاطات الثقافية والحياتية ولا تزال. واليوم يعود النحس ليرافق فيروز بعد موافقتها على عرض المسرحية في دمشق. فقد أثار توقيت ذهاب الفنانة الكبيرة الى العاصمة السورية، حفيظة فريق كبير من اللبنانيين الذين يعتبرون ان فيروز بما تمثله من «رمز وطني» كبير لا يجوز لها ان تغني لجمهورها السوري، بدعوة من النظام الذي حملوه مسؤولية الاغتيالات في لبنان. لكن فريقا آخر اعتبر فيروز فوق أي توظيف لخدمة مصالح سياسية، ما فتح الباب أمام اتهامات متبادلة وسجالات حادة.

أين هي فيروز من هذه السجالات؟ ربما العودة الى «سجلها» تكشف المستور. المقربون منها يؤكدون أن فيروز ليست صاحبة مواقف سياسية. هي تخاف على لبنان فقط. لا تنام الليل عندما تتأزم الامور. تشعر انها معنية بهموم الناس ومعاناتهم لأنها فنانة قريبة من جمهورها الممتد من المغرب الى الخليج. معرفتها بهذا الجمهور ليست معادلة نظرية أو تجريبية بالنسبة اليها. فالفن كما تعيشه لغة كونية. وهي تترجم هذه اللغة فعليا. تعتبر أن الناس المسالمين اصدقاؤها. هذا الطرح يبدو منطقيا، تحكيه نشأة فيروز التي ولدت في الحادي والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1935 وحملت اسم نهاد حداد. كانت عائلتها تعيش في بيت متواضع مؤلف من غرفة واحدة في زقاق البلاط، الحي القديم المجاور لوسط بيروت، حيث عاش الفقراء من جميع الطوائف، ولأجيال، حياة مشتركة وآمنة. في هذا الحي تلقت الصغيرة صاحبة الصوت الجميل باكورة دروسها الانسانية، هذا الدرس كان: المشاركة عنوان للثقة. آنذاك ساد هذا المبدأً بين الفقراء. ترجمته إحدى الجارات التي كانت تدعو أولاد حداد للاستحمام في منزلها مرة في الاسبوع. السياسة لم تكن ضمن دروس الحي.

أما في صالون الرحابنة حيث عاشت فيروز، فلم يكن هناك حلقات سياسية، وانما حلقات صحافية وأدبية وفنية. والرحابنة كانوا يحرصون على الظهور بمظهر الفنانين الملتزمين قضايا انسانية. قيل عنهم انهم يميلون الى الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي حاول القيام بانقلاب عسكري في عهد الرئيس الراحل اللواء فؤاد شهاب. فغنت فيروز للجيش «بيي راح مع العسكر» وصدحت حنجرتها بموال من «عودة العسكر»: «لا تخافي سالم غفيان ومش بردان ـ نايم عا تله بتضل تصلي ـ وناطر زهر اللوز بنيسان ـ بقلبو الايمان ومغطى بعلم لبنان». وقيل انهم متعصبون للفريق المسيحي، فكذّبوا المقولة وكانوا رواد الاغنية الوطنية الفلسطينية، التي سبقت تأسيس الكفاح المسلح حتى ان البعض اعتبر انها صنعت هذا الكفاح وأطلقت ثورته مع «راجعون» و«ردني الى بلادي» و«سيف فليشهر» و«سنرجع يوما» و«زهرة المدائن» و«القدس العتيقة» و«بيسان» وغيرها وغيرها. لكن الحرب الاهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975، أعادت صورتهم اللبنانية مع «بحبك يا لبنان» التي اصبحت أشبه بالنشيد الوطني الجديد. علاقة الرحابنة بدمشق وثيقة. فهذه العاصمة شهدت ولادتهم الفنية شعبيا واذاعيا. هذه حقيقة لم تصنع، وانما وجدت ونمت وترسخت. مرة قال أحد وزراء الثقافة في سورية، انه يرغب في إصدار قرار يقضي بإلزامية تعليم اغنيات فيروز للتلاميذ. ويحكى أن الطيارين السوريين كانوا يستمعون الى اغنياتها وهم يحاربون اسرائيل عام 1967.

حتى الشيوعية التصقت بمسيرة فيروز والرحابنة مع اغنيات خاصة بالعمال والفلاحين. لكن على ما يبدو كانت المؤسسة الرحبانية ماهرة في السباحة بين التيارات، لتكتفي في مسرحياتها بتقديم نقد عام وحيادي وخفيف الظل، فتعصب الرحابنة للانتماء اللبناني لم يغلب على البعد الانساني لتعاملهم الفني مع محيطهم العربي. من هنا يجد كل فريق سياسي في لبنان وكل صاحب قضية اينما كان في الاغنيات الوطنية لفيروز امتدادا طبيعيا لقضيته. ما ان يقصف الجنوب حتى تبث المحطات الاذاعية أغنية «اسوارة الجنوب» من الحان الراحل فيلمون وهبي. وعندما كان القصف عشوائيا بين البيروتين الغربية والشرقية خلال الحرب الأهلية كانت أغنية «يا حرية يا زهرة برية يا طفلة وحشية»، تلبي غاية كل من فريقي الصراع. الا أن جراءة الرحابنة لم تكن تسلم كل مرة. فقد تبرم منهم أحد الملوك العرب بعد مسرحية «هالة والملك» واعتبرها موجهة ضده. اخفوا المسرحية ولم يسمحوا بتداولها مسجلة وقتا طويلا حتى لا يغضبوه. فيروز التي عاشت هذه الاجواء غنت كل العواصم العربية، لكنها لم تغن لرئيس او شخص بعينه. عندما زار الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة لبنان، طُلب منها رسميا ان تقدم حفلة على شرفه. رفضت، فعوقبت بإيقاف أغانيها فترة في الاذاعة اللبنانية. والاهم أن فيروز المسيحية الهوية في بلد تعددي ومشحون بالاصطفافات هو لبنان، ليست طائفية أو مذهبية. ربما لديها تفضيلات داخلية وفق مزاجها وفهمها لما يدور. لكن إصرارها على الاقامة في منزلين خلال الحرب الاهلية في لبنان، الاول في الرابية حيث الاكثرية المسيحية، والثاني في الروشة حيث الاكثرية المسلمة، يظهر كيف تفكر. هذه هي فيروز الحقيقية. تتعاطف دائما مع الشعوب المعذبة. هي متغيرة بتغير الحالات. لكنها دائما مع الضحية.

الاعلامية المخضرمة يمن الاخوي التي واكبت فيروز طوال 30 عاما وأكثر. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «الموقف السياسي الوحيد الذي صدر عن فيروز، هو ايمانها بأن اسرائيل عدوة لبنان والعرب. في جلساتها الخاصة تسأل عن المستجدات السياسية والاخبار الاجتماعية. غالبا لا تعلق على ما تسمعه. تكتفي بالقول: خسارة ما يتعرض له لبنان. ننتهي من أزمة لتدخل في مصيبة. اكثر من ذلك لا شيء. وانا استغرب الثورة الحالية عليها. كذلك استغرب توقيتها لاحياء حفلات في دمشق. ربما لأنها تلقت الدعوة من حنان قصاب حسن، الأمينة العامة لاحتفالية «دمشق عاصمة ثقافية». وعائلة قصاب حسن من الاصدقاء المقربين الى فيروز. لم تكن تقوم بزيارة أحد غيرهم في دمشق عندما تكون هناك. بالتأكيد قدموا اليها عرضا يلبي شروطها. وهي ليست مادية كما قد يتبادر الى الاذهان. وبعيدا عن التوقيت يجب ألا ننسى كيف يهبّ الشعب السوري لاستقبال فيروز».

تضيف الاخوي: «همّ فيروز كان لبنان وشعبه وليس حكامه. لم تجر ولا تجري اتصالات مع أي طرف من أطراف الصراع في لبنان. لذا أصبحت أكثر من أيقونة لدى جمهورها. وهي لا تهتم بالسياسة بالمعنى اللبناني الضيق وخصوصا المرتبط بالاشخاص. لم تلب دعوة الى قصر او الى أي مكان رسمي. تبقى في مكانها ومن يرغب في لقائها يمكنه ان يزورها».

ولعل اصرار فيروز على الخروج من القطيع والابتعاد عن التصنيف، يترجمه بقاؤها في منزلها في الروشة في أحرج المراحل. تقول الاخوي: «عندما استهدف المنزل بقصف صاروخي خلال الحرب اللبنانية، واخترقت قذيفة غرفة نومها وضعت فيروز متاريس من باطون في الممرات واحتمت بها مع ابنها هلي وابنتها ريما. كان يصعب عليها الحصول على رغيف الخبز، لأنها تخاف من القصف. كما انها لا تخرج وتتسوق كما بقية الناس. آنذاك تلقت اتصالات من رؤساء وملوك ومسؤولين كبار. كلهم عرضوا عليها المساعدة. عرضوا عليها نقلها الى مكان آمن في طائرات خاصة. لكنها رفضت. كانت تقول: لبنان اعطاني الكثير في ايام العز، ولا اريد ان اتركه وهو مريض». من هنا تعتبر الاخوي ان «لا احد يستطيع ان يزايد على فيروز في لبنانيتها. حتى عندما خرجت من بيت الرحباني ودفعت ثمن استقلاليتها وعانت وقاست وبقيت في البلد وبدأت تبني حياتها من جديد. تلقت عروضا كفيلة بإغراء أي كان. لكنها لم تقبل مساعدات او مخصصات مالية اوهدايا. بالكاد تقبل باقة زهور. لم تتنازل لأي كان وهذه اهميتها». صداقات فيروز بقيت انسانية الطابع. نورا جنبلاط صديقتها. رفيق الحريري، طلب التعرف اليها وزارها. تربطها بالرئيس سليم الحص مودة واحترام. الرئيس الراحل كميل شمعون وزوجته زلفا كانا يقدرانها. يعود هذا التقدير الى بدايات مهرجانات بعلبك. حينها كانت لا تزال في بداياتها الفنية. هي لا تثق بالناس بسهولة، ربما يعود ذلك الى انها تلقت الاذى حتى من أقرب المقربين. لذا تخاف من النميمة قدر خوفها من الحروب.

المعروف عنها انها ذكية جدا تعرف من يجاملها ومن يحبها ومن يكذب عليها ومن يصدقها القول. لا تضعف ولا تتأثر بالمديح. شخصيتها صعبة. من يستطيع ان يفهمها يكسب ثقتها. صاحبة مزاج خاص. ربما لولاه لما كانت فيروز. مع أن هذا المزاج يعذبها احيانا. مشكلتها الكبيرة انها لا تجيد الخروج الى المجتمع. لا تستطيع ان تتنزه في شوارع المدينة. نزهاتها دائما جبلية في أحضان الطبيعة. لا تزال تحتفظ بطينتها القروية البسيطة، كأنها تخبئ الطفلة التي تسكنها تحت أناقتها الرصينة والمميزة. ربما في هذه المعادلة يكمن توازنها. وهو توازن قلما عهدناه في مشاهير، معظمهم اتسمت سيرته بالجنون والجموح، لا سيما اذا وصل الى حد الخروج من دائرة الضوء.

لكن فيروز الرصينة ليست عاقلة بجمود كما يخيل لنا، لانها تملك القدرة على ممارسة جنونها برصانة وتحفظ من دون الاخلال بمبادئ اخلاقية صارمة. رغم انفصالها عن عاصي الرحباني، سارعت الى رعايته والاهتمام به عندما مرض وبقيت الى جانبه حتى اللحظة الأخيرة. لم تتوقف عند التجني الذي أصابها بسبب اتخاذها قرار الانفصال. انطلاقا من هذه المبادئ، ردد البعض أن فيروز أيام الحرب الأهليّة شكلت الرمز الوحيد الباقي لوحدة لبنان. البعض يعتبر انها أيضاً رمز لأخوّة ما، روحيّة وحقيقية، بين لبنان وسورية الشعب، الذي لا يمكن اختزاله الى نظام سياسي. في هذا الاطار يقول الفنان الياس الرحباني (شقيق الراحل عاصي الرحباني) ان «عائلة الرحابنة تحرص على لبنان قبل كل شيء. وبالتالي فإن نشأة فيروز الفكرية في البيئة الرحبانية بنيت على العلاقة مع الارض والناس الكادحين. تأسست على مفاهيم الثورة النظيفة والتفكير الرؤيوي. ولأنها كذلك كل الاذاعات العربية تبث اغاني فيروز. لأنها كذلك نجد اجيالا تحفظ عن ظهر قلب هذه الأغاني. كأن الأهل اورثوا اولادهم التراث الرحباني. وفيروز تعاملت مع الأمور بسمو، وليس لديها اية تطلعات سياسية تقوم على النظر الى الأمور على اساس التقسيم كما يفعل البعض، انما تتطلع الى الشعب الواحد في كل الارض خاصة في البلد الجار سورية.. وفيروز التي انشدت «سوا ربينا» بكل ذلك الصدق لا يمكن ان تنظر الى الصغائر. ولا يمكن ان تلفت نظرها الا الرسائل الانسانية.. اما رسائل الانقسام فهي ليست في حسابها، ولا في حساب بيت الرحابنة». واشار الياس الرحباني الى ان فيروز تتقبل الاشياء بهدوء. فالسياسة بالنسبة لها سمو ورفعة وليس خراباً وتقسيماً وقلة اخلاق بالشكل الذي يظهره البعض، مؤكدا انها تفهم السياسة جيدا لكنهم لا يتعاطونها». وأكد «ان سورية وقفت دائما الى جانب عائلة الرحابنة وفيروز في كل الظروف. وهذا ما احمله في ذاكرتي منذ أن كنت صغيراً عندما كنت اذهب مع اخوتي عاصي ومنصور الى دمشق. لذلك فإن فيروز حقا ذاهبة لتغني للأوفياء لها».

يبقى السؤال: هل كانت فيروز تتوقع ان تثير مشاركتها في احتفالات «دمشق عاصمة ثقافية عربية» كل هذه السجالات.

هل تهتم بها او تتوقف عندها؟

هي لم تعلق مباشرة على كل ما يدور من جدل هي محوره. فالسيدة تجيد صمتها كما تجيد التواري دائما خلف نظارات سود، عندما لا تكون على المسرح. كأنها تلوذ بها من العيون، أو كأن الغموض جزء لا يتجزأ من نجوميتها.

ولا يقتصر هذا التواري على النظارات، وانما يمتد وسع السلوك الفيروزي، ومن ابتسم له الحظ وحظي بمجالستها يعرف انه لا يعكس خوفا او علة او تعاليا. يعرف انه اسلوب حياة يمنح الفنانة حيزها بعيدا عن الابتذال. كما يعرف ان فيروز تملك مخزونا جارفا من المرح. وتملك سر الفرح ومفاتيح الحياة. لا يعنيها ان يحولها جمهورها المهووس بها الى رمز، لا يشقيها الامر ولا يسعدها، هكذا اخبرتني. هي انسانة ابعد من الرمز، صاحبة نكتة لاذعة، تنبض سخريتها مُرّة حيث ينبغي، سريعة البديهة، ممسرحة الحضور، حتى يلتبس على جليسها الامساك بطرف الدائرة التي تأسر ضمنها مقادير الكلام.

لكن من حظي بمجالستها يعرف أيضا انها امرأة التفاصيل والهواجس، لذا لا يكفي صمتها ليدل على حيادها في هذا الجدل.

بالتأكيد لن تكون فيروز غير مبالية عندما يناشدها منبر كملحق «النهار الثقافي» رفض الدعوة للغناء في دمشق. قد تسعى الى سؤال صديق تثق به عن تبعات هذا الجدل وابعاده. قد تهتم وان لم تجب عن الأسئلة التي وجهها اليها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط من دون أن يسميها، والتي جاء فيها: «كيف ستكون دمشق عاصمة ثقافية عربية كما يقولون في الوقت الذي تحتجز السلطات القمعية السورية أبرز المثقفين السوريين؟ فهل أجهزة الاستخبارات هي التي تفهم في الثقافة؟ لعلها فعلا تفهم ثقافة القتل والاستبداد والقهر والظلم والبطش. هل لهؤلاء تتبرع بعض الأصوات الغنائية القديرة، وهل يقدرون أصلا الثقافة والفن؟». وكان قد سبقه النائب في كتلته أكرم شهيب لينتقد الزيارة، ويسقط الازمة اللبنانية على المناسبة الفنية من موقعه في الاكثرية النيابية.

لن نعرف اذا كان يزعج فيروز ان تزج في هذا الصراع. ولن تجيب عن مدى رضاها على تولي الرحابنة الدفاع عنها بأسلوب بعيد عن أدبياتها السلوكية. التاريخ يعلمنا انه لو كان الهوى الرحباني في غير هذا الموقع السياسي لما تولوا الدفاع عنها. ما يجري يرتبط بمواقفهم السياسية الحالية، وليس دفاعا خالصا عنها وعن الابعاد الفنية لغنائها في دمشق، كما يظهر رد فعل الفنان غسان الرحباني (ابن الفنان الياس الرحباني) الذي أسقط بدوره مواقفه السياسية التي تميل الى المعارضة على القضية، وان قال: «فيروز أكبر من مثل هذا التناول. فهي رمز أعلى من السياسة. وعلى شهيب ان يهتم بأموره ولا يتدخل في فيروز». الا أنه استدرك وأضاف: «السياسيون الذين لا يعرفون كيف يهتمون بأمن منطقتهم، والذين يعجزون عن إدارة البلاد لا يحق لهم انتقاد فيروز والطلب اليها عدم الذهاب الى دمشق بحجة تحميل النظام السوري مسؤولية جرائم الاغتيال في لبنان. فلينتظروا التحقيق الدولي ونتائجه قبل ان يتخذوا مثل هذه المواقف». الرحباني رد ايضا على النائب وليد جنبلاط وبعنف، مذكرا اياه بأن «من يدعو اليوم الى مقاطعة سورية كان يذهب اليها بالامس»، ومنذرا اياه «بخسارة ما تبقى له من رصيد ضئيل من خلال هذه العملية السياسية، التي جرها الى الفن».

الجواب لا يبدو حتميا او نهائيا. ذلك ان فيروز المتحفظة ليست فقط صنيعة رحبانية. يقول الشاعر انسي الحاج ان الرحابنة لم يصنعوا فيروز وانما استثمروا ما هي عليه. فهي «البنت الشلبية» قبل الاغنية وبعدها. وهي «لولو السويعاتية» قبل المسرحية وبعدها. وهي ملكة بمعزل عن «بترا»، وهي كل مسرحياتها وليست بطلة تؤدي دورها على الخشبة ثم تنسحب بعد اسدال الستارة.

في الموقفين المتناقضين بين الأكثرية والمعارضة تبدو فيروز غائبة. لعلها تردد في سرها: «مش فارقة معاي» أو «كلمة كلمة يا حبيبي تا افهم عليك، او فتش عن غيري بيفهم اذا رح تبقى هيك»، قد ترد على المتجادلين بمقطع غنائي هو: «بدك دولة أو شي أمة أو أكبر من هيك، يمكن كوكب او شي أكب ليستوعب ليك» أوتزجرهم قائلة: «ولك بس هوه هيه وين. بعلمي العقل كبير، مش سم وهم وغم وذم وقدح وتشهير». او بكل بساطة تعرف فيروز ان كلامها او صمتها لن يوقفا الجدل، لذا اختارت الصمت.

لكن قامتها الفنية الحاضرة دوما، شكلت مادة دسمة لسجال، ربما يسعى من فتحه الى اقفاله، الا انه بقي يكبر ككرة ثلج. والسبب أن لا احد يقرأ فيروز الا انطلاقا من تفاعله الوجداني مع هذه القامة وليس انطلاقا مما هي عليه فعلا. شاءت أم أبت يغرقها جمهورها في احلامه السياسية والوطنية والعاطفية. فالرافضون الزيارة اعتبروا ان ابنها زياد اقنعها بها انطلاقا من ميوله السياسية، وأن دافعها هو الاغراء المالي الكبير الذي قدمه النظام السوري ليكتسب رئيسه بشار الأسد شرعية معنوية لدى جلوسه في الصف الامامي قبالة فيروز وتصفيقه لها ومن ثم مصافحتها، وكأنه يغسل يديه من كل ما ارتكبه نظامه في لبنان. ويذكّرون ان الاسد وصف رئيس الحكومة اللبنانية بـ«عبد مأمور لعبد مأمور»، وانه اتهم نصف الشعب اللبناني تقريبا بأنه عميل لإسرائيل. وبالتالي هناك خلاف بين دولتين وليس فقط مواقف متباينة ازاء قضية بسيطة تمسح اضرارها بمصالحة وحفلة تبويس لحى.

أما المتعصبون للمعارضة فيستنكرون مثل هذا الطرح ويعتبرون ان استغلال الاكثرية في لبنان هذا الامر لتسجيل مزيد من المواقف بعنصرية على حساب فنانة أرقى من البازار الرخيص الذي يستهدفها، لأنها لا تفرق بين الشعوب. وكأن الدفاع عن فيروز كان يعني لهم الهجوم على الأكثرية النيابية وبعبارات لا تختلف في شيء عن العبارات المستخدمة في الخطاب اليومي لهذه المعارضة. فقط أضيف اليه اسم الفنانة الكبيرة ليبقى المحتوى على حاله.

وسط هذه التجاذبات يكتفي المعتدلون بالتمني لو ان فيروز اختارت توقيتا آخر لعودتها الى الشعب السوري. مع انتقاد الاسلوب الذي اعتمده الذين دعوها الى عدم الذهاب، لأنه لا يؤدي الا الى تعميق الشرخ بين الشعبين اللبناني والسوري انطلاقا من أن التوقيت الحالي غير مريح. وبالتأكيد ذهبت وفي ذهنها ان ما تفعله سيقرب بين الشعبين والتغلب على الاحقاد والشكوك. بالتأكيد يؤلمها الا تؤخذ الناحية الايجابية لخطوتها هذه، ليتم التركيز فقط على الناحية السلبية. وربما كان بإمكان السيدة فيروز ان تنتظر حتى تنجلي الغيوم التي تعكر علاقة البلدين الجارين. لكنهم يرفضون وضع فيروز في مقارنة مع النظام السوري. لأننا بذلك نصير أشبه بمن يضع فاغنر وبيتهوفن وغوته في مقارنة مع هتلر.