جدران بيروت «صحف الشعب»

«المشتاقون للأسد» في الضاحية الجنوبية و«دولة رئيس الدولة» في الطريق الجديدة

جدران بيروت.. صحف معارضة وموالاة («الشرق الأوسط»)
TT

كانت محلة البسطا في العاصمة اللبنانية ليلة رأس السنة الميلادية الجديدة مسرحا لاحتفال من نوع اخر: عشرات الشبان يتجمعون في احدى الساحات يتضاربون بدلا من الرقص احتفالا بالمناسبة، وصوت رصاصات القوى الامنية اختلط بالمفرقعات التي اعتاد اللبنانيون اطلاقها في وداع عام واستقبال اخر. اما المناسبة فكانت اقدام شبان من المعارضة على تمزيق صورة للرئيس الراحل رفيق الحريري ونجله، زعيم الاكثرية البرلمانية سعد الحريري. لم تكن «موقعة البسطا» التي اختتم بها اللبنانيون عام 2007 واستهلوا بتداعياتها عام 2008 المواجهة الاولى بين جمهور المعارضة والموالاة في لبنان على خلفية تمزيق صورة لزعيم سياسي. لكن هذه الحلقة من السلسلة كانت خطورتها انها الاولى من نوعها بعد فترة هدوء طويلة وانها كانت مؤشرا لعودة التأزم الى الشارع اللبناني.

كان من حظ صورة البسطا العاثر انها رفعت في منطقة ذات اختلاط طائفي وسياسي، فمزقت واعيد رفعها مرارا، فيما تنجو مئات الصور واللافتات الاخرى من «الغزوات» المتقابلة لانها رفعت في مناطق من لون واحد. على كامل مساحة لبنان تنتشر ثقافة الصور واللافتات السياسية التي تنبئ الزائر بالمنحى الطائفي والسياسي لكل منطقة فلا يقع في محظور الكلام غير المباح، فهذه ، كما يقول الاعلامي راشد فايد، «هي صحف الشعب في لبنان»، ملاحظا ان هذه الشعارات «تشي بالمستوى الفكري والثقافي لصاحبها». ويرى ان هذه العادة هي «جزء من ثقافة العالم الثالث، ولها علاقة بان الرواية هي وسيلة الاعلام العربية».

الوضع السياسي يتحكم باللافتات ، فاذا توتر ارتفعت لهجتها، واذا هدأ هدات وتيرتها. كما انها تكشف احيانا ما لا يتبناه علنا الخطاب السياسي للفريق المسيطر على المنطقة، واحيانا تذهب ابعد بكثير مما يتطلبه هذا الموقف فيتدخل اصحاب القرار ليتمنوا على النافذين في الاحياء ازالتها او تعديله.

عند المدخل الجنوبي للضاحية الجنوبية لبيروت تستقبل الزائر لافتة مرفوعة على طريق مطار بيروت الدولي تندد بزعماء اسرائيليين واميركيين تصفهم اللافتة بـ«مصاصي الدماء»، وتحت هذه العبارة صور للرئيس الاميركي جورج بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس والرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ورئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت، بالاضافة الى المندوب الاميركي السابق في الامم المتحدة جون بولتون مع غمز من قناة فريق «14 اذار» الذي كرم الاخير. ولا تخلو اللافتة من اخطاء لغوية: «مصاصي الدماء، رجال ظنوهن فكرموهن بلبنان هزموهن بمزبلة التاريخ هزموهن». نزولا في اتجاه الضاحية يرى الزائر 4 لافتات كبيرة الاولى تشيد بالأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله وترى ان «في عزيمته صلابة الرجال ومن ملامحه سمات الانبياء» وتخلص الى انه «سيد الآباء»، فيما تصور الثانية رجالا من المقاومة يحملون صواريخ وفوقهم عبارة «الارض تشهد اننا رجال». أما الثالثة فهي صورة كبيرة للرئيس السوري بشار الاسد ، هي عبارة عن «تحية لأسد العرب من لبنان المقاوم»، اما الصورة الرابعة فهي للرئيس اللبناني السابق اميل لحود تحتها عبارة «يا جبل ما يهزك ريح»، لكن المفارقة هي ان الريح اطاحت فعلا جوانب من هذه الصورة.

واذا اوغل المرء في عمق الضاحية تستوقفه محطة وقود عدل اسمها منذ اسابيع لتصبح «محطة الرئيس بشار الاسد للمحروقات» وفي مقابلها صورة للرئيس السوري مذيلة بعبارة «ماذا يفعل المشتاقون اليك؟». وفي ساحة «عين السكة» ترتفع صورة للرئيس تظهره معانقا الوزيرة رايس مذيلة بعبارة «اللهم احشرني مع من احب»، والى جانبها صورة اخرى تمجد التحالف بين «حزب الله» والتيار الوطني الحر الذي يقوده العماد ميشال عون.

من يعلق هذه الصور؟ الجواب يأتي من بعض الحضور «انه شخص يهوى التعبير عن رأيه بهذه الطريقة». فذات مرة رفع صورة يهزأ بها من نائب المنطقة باسم السبع يصفه فيها بـ«النبي الجديد»، ومرة رفع اخرى يسخر فيها من رئيس الهيئة التنفيذية لـ«القوات اللبنانية» سمير جعجع. ويقول احد القياديين في «حزب الله» ان هذه الصور ترفعها الناس من تلقاء ذاتها، مشيرا الى ان الكثير منهم «يقفون إلى يمين الحزب» ويستغربون مواقفه «المعتدلة» احيانا. وتعج مناطق الضاحية الاخرى بالكثير من الصور والشعارات التي يبدو منها انه من صنع «منظم»، كتلك الصورة الكبيرة التي تظهر السيد نصرالله وتحته حشد جماهيري كان يشارك حينها في «مهرجان النصر» بعد الحرب الاخيرة مذيلة بعبارة «يا أشرف الناس» التي استخدمها نصرالله لمخاطبة جمهوره. وأخرى تشيد بـ «الوعد الصادق لنصرالله» بعودة الضاحية «اجمل مما كانت» نصبت على مقربة من موقع يعاد بناؤه.

أما في منطقة الشياح التي تقع في منطقة نفوذ حركة «امل» فترتفع عشرات الصور العملاقة لرئيس مجلس النواب اللبناني، ذيلت احداها بعبارة «ويلكم اذا نفد صبره».

وفي المقلب الاخر، تهيمن على المناطق البيروتية صور الرئيس الراحل رفيق الحريري ونجله سعد، بالاضافة الى صور رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الذي ابدى استياء شديدا من صورة رفعت في محلة الطريق الجديدة المعقل السني الاساسي والاكثر ولاء لتيار «المستقبل»، وقد ذُيّلت بعبارة «دولة الرئيس رئيس الدولة» بعيد حصول الفراغ الرئاسي. وهي صورة استغلتها المعارضة كثيرا لإظهار رغبة فريق الاكثرية في الـ«استيلاء» على صلاحيات الرئيس الماروني، فاجرت عنها احدى محطات التلفزة المؤيدة تحقيقا كاملا، لكن الرئيس السنيورة سارع الى الايعاز برفعها بعد وصول خبرها اليه.

وفي المحلة نفسها ترتفع صورة كبيرة للنائب سعد الحريري تحتها صورة للرئيس الراحل رفيق الحريري واخرى لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الراحل كمال جنبلاط وبينهما صورة الطفل الذي قضى انتقاما بعيد المواجهات بين المعارضة والاكثرية في مطلع العام 2007. وتحتها عبارة «ستبقو(ن) فينا وننتصر» مذيلة بتوقيع «آل غندور». وغير بعيد منها ترتفع صورة لمفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني. وفي المنطقة نفسها ايضا صورة عملاقة تجمع الرئيس رفيق الحريري مع نجله سعد وبينهما عبارة «الحقيقة آتية ولو كره الكارهون». وفي منطقة اخرى من بيروت ترتفع صورة للرئيس السنيورة تحتها عبارة «باق باق باق» في اشارة الى مطالبة المعارضة برحيله.

وفي محلة البربير في غرب بيروت يتخذ احد المواطنين المؤيدين لتيار «المستقبل» من شرفة منزله «منبرا حرا» يرفع عليه الشعارات والصور، وجديده لافتة كبيرة دمغها بعبارة «اعلان شخصي» يهاجم فيها رئيس تحرير صحيفة لبنانية معارضة بشدة، ويصفه بعبارة «شرلوك هولمز لبنان» في اشارة الى بعض الاخبار المتعلقة بعملية اغتيال الرئيس الحريري التي اعتادت الصحيفة نشرها ويختمها بعبارة «كذاب كذاب كذاب».

وينفي احد مسؤولي تيار «المستقبل» ان يكون زرع الصور عملية منظمة، معتبرا انها عادة شعبية في لبنان وليست وليدة اليوم، مستدلا على ذلك بالانتشار الكثيف للصور واللافتات خلال مراحل الانتخابات. ويقول: «نحن كأي تيار سياسي له جمهوره، لكننا لسنا حزبا حديديا لنفرض على الناس هذا الموقف او ذاك. اما اذا لاحظنا تماديا غير مرغوب فنتصل بالطرف الذي يرفع الشعار ونتمنى عليه ازالته».