غزة.. سجن الجوع

نقص مياه وكهرباء وطعام.. وإغلاق 4 آلاف معمل يحرم نحو 140 ألف عامل من وظائفهم

فلسطيني يبيع كوكاكولا لسد احتياجاته في غزة بعد اغلاق المعامل («الشرق الأوسط»)
TT

الأزمة الانسانية والاوضاع المأساوية التي يعيشها سكان قطاع غزة، مرشحة للتصاعد، طالما ظل الحصار الخانق الذي تفرضه سلطات الاحتلال الاسرائيلي منذ حوالي 7 اشهر، وهو حصار متوقع له ان يستمر، كما اعلن القادة الاسرائيليون. فهذه الازمة تنذر بكارثة إنسانية حقيقية لم يشهدها القرن الحادي والعشرون بعد.

وما حصل في 23 يناير (كانون الثاني) الجاري من زحف حوالي نصف مليون غزي، أي حوالي ثلث مجمل السكان، نحو الاراضي المصرية عبر الحدود مع مدينة رفح، ما هو الا مؤشر، على ما تخبئه الاشهر المقبلة من احداث. وليس ثمة ما يضمن ان يكون الانفجار المقبل على النحو السلمي الذي اتسم به هذا الزحف.

ولا تنحصر الازمة الانسانية في قطاع غزة في منحى واحد من مناحي حياة سكانه، بل تصيب في مقتل جميع هذه المناحي والمرافق الحيوية والبنى التحتية على ضعفها. فمعظم هذه المناحي ان لم يكن جميعها، معطل او في طريقه الى التوقف التام عن العمل.

الواقع ان هناك مليونا واكثر من نصف المليون انسان يعيشون على بقعة من الارض لا تتجاوز مساحتها 360 كيلومترا مربعا، بعبارة اخرى انهم يعيشون في سجن صغير، وليس كبيرا كما يحلو للبعض وصفه. فاسرائيل تتحكم عمليا وفعليا، في كل ما يخص المتطلبات المعيشية اليومية للانسان الفلسطيني. ويعتقد البعض خطأ ان هذا الحصار، تفرضه اسرائيل على قطاع غزة منذ سيطرة حركة حماس عليه بعد هزيمة الاجهزة الامنية في يونيو (حزيران) الماضي، فهو مفروض منذ فوز حماس بالانتخابات التشريعية في يناير (كانون الثاني) 2006، كعقاب للشعب الفلسطيني على اختياراته، وازداد احكاما مع اسر الجندي جلعاد شليط في 25 يونيو 2006.

لم يأت الزحف نحو الاراضي المصرية كرد فعل على منع اسرائيل دخول الوقود والمحروقات مدفوعة الثمن مسبقا الى غزة، وما نجم عنه من توقف محطات توليد الطاقة الكهربائية عن العمل والانتاج. الذي أدى بدوره الى شلل الحياة بكاملها في القطاع، لكنه قد يكون الشعرة التي قصمت ظهر البعير. فأزمة القطاع ليست ازمة وقود ومحروقات فحسب رغم اهمية هذا العنصر في الحياة اليومية، بل هي ازمة اكبر وأعم.

وكما قال طاهر النونو الناطق الرسمي باسم الحكومة، إن الأزمة لا تحل بادخال كميات من الوقود. وتساءل «ما معنى ان تضيء غزة في ما القتل البطيء مستمر.. مع غياب الطعام والادوية.. وتواصل الحصار والاغلاق».

واما جمال الخضري رئيس اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار، فقد شدد على أن الحل يتمثل في انهاء كل صور الحصار على القطاع، لان الحصار أشمل من قضية الوقود والكهرباء، انه يطال كل مناحي الحياة، التجارية والزراعية والصحية والاقتصادية، وأثر ويؤثر عليها بشكل سلبي.

واعلنت دوروثيا كريميتساس الناطقة باسم اللجنة الدولية للصليب الاحمر، ان قطاع غزة يواجه خطر «انهيار كامل» لبناه التحتية. وقالت ان الاجراءات التي اتخذت في اطار هذا الحصار «لها كلفة انسانية كبرى، وقد طلبنا من اسرائيل ان ترفع فورا كل الاجراءات الانتقامية». واوضحت ان «الشعب يجد نفسه رهينة هذا النزاع ويعاني من عواقبه الخطيرة»، اذ ان المستشفيات بشكل خاص تواجه نقصا في المواد الغذائية والكهرباء. وتابعت «هناك الكثير من الادوية ناقصة ويجب اعادة تشكيل مخزونها، والا فان المستشفيات ستضطر لاغلاق ابوابها».

فقد ادى الاغلاق حتى اللحظة الى وفاة حوالي 76 مريضا فلسطينيا لم تسمح لهم اسرائيل بالخروج لتلقي العلاج، كانت آخرهم المريضتان عطاف العامودي، وفاطمة أبو طه، اللتان فارقتا الحياة يوم الثلاثاء الماضي بعد معاناةٍ من مرض عضال، حسبما اعلنته مصادر طبية فلسطينية. ويتهدد خطر الموت ايضا قائمة كبيرة من المرضى من المصابين بأمراض خطيرة ومزمنة. وحسب الخضري فان «هناك 1500 حالة مرضية تنتظر أن تغادر القطاع للعلاج بالخارج».

وحتى المرضى الذين يمكن ان يتوفر العلاج لهم في مستشفيات غزة، لا يتلقون العلاج اللازم لعجز هذه المستشفيات عن توفير هذا العلاج، إما لعدم توفر التخصص او نفاد الادوية او تعطل اجهزتها الطبية لغياب قطع الغيار لها، او لنفاد الوقود والمحروقات. ويتحدث الخضري عن نفاد 80 نوعا من الدواء، وتقليص المستلزمات الطبية الاخرى.

واعربت منظمة الامم المتحدة للطفولة (يونيسيف) عن مخاوف مماثلة. وقالت آن فينمان المديرة التنفيذية لليونيسيف: «نحن قلقون جدا ازاء وضع الاطفال في غزة. انهم يقعون على الدوام ضحايا في اوقات النزاع». واضافت ان قدرة المستشفيات على تبريد اللقاحات تثير بشكل خاص قلق هذه المنظمة الدولية.

وهناك ايضا مشكلة بيئية صحية اخرى قد تكون لها نتائج كارثية اذا لم يتم تداركها سريعا وفي الوقت المناسب. فقد حذر عماد صيام مدير عام بلدية غزة من أن مدينة غزة على موعد مع كارثة بيئية، بسبب عدم وجود الوقود اللازم لتشغيل محطات معالجة المياه العادمة في المدينة، الأمر الذي ادى الى فيضان مياه المجاري على البيوت في العديد من الاحياء، لاسيما في حيي الزيتون والشيخ رضوان. وفي تصريحات لـ«الشرق الاوسط»، قال صيام إن الوقود الذي وصل للقطاع غير مخصص للاستخدام في محطات معالجة المياه العادمة، الأمر الذي يعني أن تغرق غزة في بحر من مياه المجاري.

وثمة خوف حقيقي من ان يواجه اهالي القطاع، نقصا في المياه فبلديات مدن غزة بحاجة الى الكهرباء لنقل المياه الى البيوت.. والبيوت بحاجة الى الكهرباء لتشغيل المضخات لنقلها الى خزانات فوق سطوح المنازل.

وفي هذا السياق فان حوالي 40% من بيوت مدينة غزة التي يعيش فيها اكثر من 600 الف نسمة، عاشت من دون مياه جارية يوم الاثنين الماضي جراء وقف الوقود لاكثر من 40 ساعة، حسبما ذكرته سلطة المياه الفلسطينية.

وتحذر منظمة «اوكسفام الدولية» من وقف امدادات الوقود مجددا، كما اعلنت اسرائيل ردا على فتح معبر رفح اول من امس، فان مجمل اهالي القطاع قد يعانون من نقص المياه، جراء توقف كل مضخات المياه. وحسب اوكسفام، فان نظام الصرف الصحي سينهار ايضا في غياب السولار.

ونقل عن احد مواطني غزة القول «اننا نستطيع ان نعيش من غير كهرباء وحتى خبز.. فالجو بارد ويحول دون تلف الطعام. ويستطيع الاطفال العيش من غير جهاز الكومبيوتر رغم انزعاجهم.. لكننا لا نستطيع ان نعيش من غير ماء». واضاف «اننا نحسب كل خطوة.. فلا نشغل دفايات الغاز ولا نطبخ يوميا، لكن الا نغسل وجوهنا او لا نذهب الى المرحاض فهذا شيء غير محتمل».

وقال الخضري ان «غزة بحاجة الى 500 الف لتر يوميا من السولار الصناعي المخصص لمحطة توليد الكهرباء، في حين لم تسمح اسرائيل الا بدخول 300 الف لتر». ولفت النظر الى أن توقف محطة توليد الكهرباء لفترة زمنية طويلة، يعني أن إعادة تشغيلها من جديد يحتاج لمليون لتر من الوقود، لتبدأ العمل كبداية». وبين الخضري أن القطاع يحتاج الى 350 طنا من الغاز يوميا، في حين أن السلطات الإسرائيلية سمحت بمرور ما لا يتجاوز الـ(170) طنا.

وعلى الصعيد الاقتصادي فان الحصار والاغلاق ادى إلى إغلاق حوالي 4 الاف معمل ومصنع، وترتب على ذلك فقدان عشرات الاف العمال والموظفين لمصادر العيش. وأدى الاغلاق الى حرمان حوالي 140 الف عامل من اعمالهم. وتجاريا فان اسرائيل تحتجز في موانئها، حسب الخضري بضائع لتجار من غزة تصل قيمتها الى حوالي 150 مليون دولار، ناهيك من منع كبار رجال الاعمال من الخروج. وحال الاغلاق دون وصول المغتربين الفلسطينيين الى اماكن أعمالهم مما اسفر عن فقدان المئات لوظائفهم ومصادر رزقهم.

اما على الصعيد التعليمي فان الاغلاق حال دون مواصلة الاف الطلبة في غزة دراساتهم، سواء في جامعات الضفة الغربية او في الجامعات العربية او الاجنبية.

ان ازمة الوقود قد تتكرر مرة اخرى اذا ما عاد الجانب الاسرائيلي، الى وقف امدادات الوقود والمحروقات، متجاهلا التحذيرات الفلسطينية التي جاءت على لسان صائب عريقات رئيس دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية من «أن الإجراءات الإسرائيلية والعقوبات الجماعية وفرض سياسة الأمر الواقع ضد أبناء شعبنا من شأنها تقويض عملية السلام».

وقال عريقات، إن التعامل مع قطاع غزة يجب أن يستند الى قاعدة مفادها أن الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية والقطاع وحدة جغرافية واحدة لا يمكن تجزئتها، مطالباً بإلزام إسرائيل بعدم المس بحاجات أبناء شعبنا في القطاع، خاصة في مجالات الغذاء والدواء والوقود والمياه.

واضاف أن استخدام الغذاء والوقود والدواء كأدوات للضغط يدخل في إطار العقوبات الجماعية المحرمة دولياً، مضيفاً أن على الجميع بذل كل جهد ممكن لتحقيق تهدئة شاملة ومتبادلة ومتزامنة مع الجانب الإسرائيلي في الضفة والقطاع.

* قطاع غزة .. فقر غير مسبوق

* قطاع غزة عبارة عن شريط ساحلي يقع على الحافة الجنوبية الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، طوله نحو 45 كيلومترا، وعرضه ما بين 8 و 12 كيلومترا في بعض مناطقه. تحد اسرائيل قطاع غزة من الشمال والشرق، وشبه جزيرة سيناء المصرية من الجنوب.

ويعتبر قطاع غزة منطقة مأهولة بالسكان بصورة متصلة منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام. وكانت غزة عبر التاريخ ملتقى للحضارات القديمة، ونقطة استراتيجية على البحر المتوسط. وقد خضعت للامبراطورية العثمانية لمئات السنين شأن المناطق العربية الأخرى، واستمر ذلك حتى الحرب العالمية الاولى، عندما وضعت فلسطين كاملة تحت الانتداب البريطاني. بعد حرب عام 1948، وقيام اسرائيل، وضع قطاع غزة تحت حكم الادارة المصرية، وبقي كذلك حتى حرب حزيران (يونيو) 1967، حيث احتلته اسرائيل الى جانب الضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية. وكان قطاع غزة قد خضع قبلها للسيطرة الاسرائيلية لفترة قصيرة بعد حرب السويس (العدوان الثلاثي) امتدت من 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1956 حتى 7 مارس (آذار) 1957.

بين عامي 1948 و 1949 زاد عدد سكان غزة ثلاثة أضعاف حيث ادت حرب 1948 الى نزوح عدد كبير من الفلسطينيين من مدن وقرى جنوب البلاد واستقرت في القطاع، وكانوا يشكلون حوالي ربع اللاجئين المهجرين من مناطق هي الان جزء من دولة اسرائيل وقدر عددهم الاجمالي في حينه بـ750 الفا.

أنهت اسرائيل سيطرتها العسكرية على قطاع غزة في سبتمبر (أيلول) 2005 عندما سحبت 8500 مستوطن يهودي من 21 جيبا استيطانيا بعد حكم عسكري دام قرابة أربعة عقود، غير أنها استأنفت عملياتها البرية في يونيو (حزيران) 2006 بعد أن عبر نشطاء فلسطينيون من غزة الحدود وأسروا جنديا اسرائيليا ما زال محتجزا الى الآن.

بعد مرور عام، وفي يونيو (حزيران) 2007، سيطر مقاتلو حماس على قطاع غزة بعد قتال مع قوات حركة فتح، وأغلقت اسرائيل اثر ذلك المعابر الرئيسية وخصوصا معبري بيت حانون (ايريز) شمال القطاع، ومعبر رفح الحدودي جنوبه، وأخضعت القطاع لحصار شامل. وقد وحذرت وكالات الاغاثة من تزايد المصاعب بالنسبة للسكان العاديين، خصوصا بعد قطع اسرائيل إمدادات الوقود عن محطة الكهرباء الرئيسية ومحطات البنزين بالقطاع، ووقف شحنات المساعدات بما فيها الامدادات الغذائية وغيرها. وأثار الاغلاق قلقا دوليا من حدوث كارثة انسانية في غزة.

يعيش في قطاع غزة اليوم نحو 1.5 مليون فلسطيني، اكثر من نصفهم من اللاجئين وأبنائهم ممن شردتهم الحروب السابقة مع اسرائيل. وتعتبر غزة واحدة من أعلى مناطق الكثافة السكانية ومعدلات النمو السكاني في العالم. تعيش غالبية العائلات الغزاوية على أقل من دولارين في اليوم. وقد تضرر الاقتصاد الفلسطيني بشدة بسبب عمليات الاغلاق الأمنية للقطاع من جانب اسرائيل، والتي تعرقل التجارة عبر الحدود، وتحد من فرص العمل، وكذلك بسبب العقوبات التي فرضها الغرب بعد تولي حركة حماس السلطة في أوائل عام 2006.