مسامحة الديكتاتور

كان حكم سوهارتو يعتبر من أكثر النظم استبداداً في العالم.. إلا أن الإندونيسيين يكتشفون اليوم مزايا «التسلط الناعم»

TT

في الوقت الذي يرقد فيه «ديكتاتور» إندونيسيا الجنرال سوهارتو، الذي حكم اكبر دولة اسلامية حكما ديكتاتوريا لمدة 32 سنة، على فراش الموت حيث يعاني من فشل اجهزة الجسم، يبدو ان اندونيسيا سامحته على حكمه الاستبدادي. وكان حكم سوهارتو يعتبر واحدا من اكثر نظم الحكم في القرن العشرين قسوة وفسادا. وفيما يتلقى سوهارتو، الذي دخل مستشفى جاكرتا الاسبوع الماضي، سيلا من الزوار من كبار المسؤولين من بينهم كبار الشخصيات السياسية في البلاد، وهي دليل على نفوذه في أوسط النخبة الحكمة، إلا أن المثير ان الاندونيسيين العاديين الذين اجبروه على التنحي عام 1998، لا يبدو أنهم أقل اهتماما بصحة سوهارتو من النخب التي عاصرت حكمه. وتعبيرا عن الترقب الاندونيسي حول صحة سوهارتو، قطع الرئيس الاندونيسي سوسيلو بامبانغ يدويونو زيارته الى ماليزيا للعودة الى البلاد لمتابعة حالة الرئيس السابق. وقال الرئيس «سوهارتو ارتكب بعض الاخطاء في الماضي، ولكن يجب ألا يمنعنا ذلك من منحه تقديرنا. الرئيس سوهارتو زعيم لهذا البلد وحقق بعض الانجازات، ولاسيما في المجال الاقتصادي».

اندونيسيا المكونة من عدة الاف من الجزر تمتد بين اسيا واستراليا هي اكبر دولة ارخبيل في العالم. ويصل عدد سكانها الى 235 مليون شخص، وهي بالتالي اكبر دولة اسلامية في العالم، على الرغم من انها رسميا ليست دولة اسلامية. وحصلت اندونيسيا على استقلالها عن الحكم الاستعماري الهولندي، الذي استمر لمدة ثلاثة قرون ونصف، بعد الحرب العالمية الثانية. وهي دولة ذات تاريخ اقتصادي وسياسي متعددة. هذا الارخبيل المتعدد العرقيات واللغات والديانات لم يكن ليعرف تطوره بالطريقة التي عرفها بها لولا دور سوهارتو. وصل سوهارتو، الرجل العسكري المتشدد المعروف بأنه قاد واحداً من اسوأ النظم الديكتاتورية في القرن الماضي، للسلطة عام 1965 بعد انقلاب غامض ضد أحمد سوكارنو، اول رئيس لإندونيسيا، وذلك عبر مجموعة من المناورات العسكرية والسياسية في اطار اضطرابات داخلية وأجنبية. إلا ان حكمه، ادى الى عمليات تطهير عسكرية ووفاة ملايين من الشيوعيين الإندونيسيين والاندونيسيين من اصل صيني. وخلال حكمه جرى ايضا قمع العديد من الحركات الانفصالية شرق تيمور واريان جايا وآيشه.

وكان هذا، على حد قول تقييم لوكالة الاستخبارات المركزية الاميركية، «واحدا من كبار مرتكبي عمليات القتل الجماعي في القرن العشرين». لكن هذه السنوات الاولي هي الأكثر قسوة، فخلال العقود اللاحقة جرى قتل وسجن مئات الآلاف، وهي جرائم مرت بدون عقاب. وخلال فترته في السلطة وجد تأييدا من الحكومات الغربية التي اعتبرته متراسا ضد الشيوعية في جنوب شرقي آسيا. هذا التأييد الغربي له تجسد فعليا في المساعدات المالية الهائلة والاستثمارات لاندونيسيا، خصوصا الاستثمارات الاميركية. لكن الاستثمار الغربي والتدفق المالي لم يكونا ليحولا الاقتصاد الاندونيسي بهذه الطريقة الهائلة لولا طريقة ادارة سوهارتو للاقتصاد، وهي طريقة قامت على فتح الاسواق والاستفادة من الاستثمارات الغربية وفتح مصانع وصناعات وطنية قادرة على الوقوف امام نظريتها الاجنبية. وربما ساعد سوهارتو على المضي قدما في طريقه الطريقة التي كان ينظر بها الى نفسه، فهو ولد في جاوا، مركز الدراسات الدينية والصوفية. وشجعه هذا على الاعتقاد في ان له قوى خفية وتأثيرا ميتافزيقيا.

لكن السنوات التي مرت على سوهارتو في الحكم جعلته تدريجيا اضعف بسبب تنامي الطبقة الوسطي في اندونيسيا. فهذه الطبقة الوسطى نشطت سياسيا وأدارت حكما ليبرالياً متعدد الاحزاب. تراجعت قبضة سوهارتو على شؤون البلاد أكثر عندما تسببت الأزمة المالية وسط دول منطقة جنوب شرق آسيا في خفض مستوى المعيشة وسط سكان البلاد، الأمر الذي أدى إلى انقسام مؤيديه داخل الجيش ومنظمات المجتمع المدني والسياسي. وبسبب حالة عدم الاستقرار، والتململ الداخلي بدأت العزلة الدبلوماسية في التأثير سلبا على ما تبقى من تأييد شعبي له خلال النصف الثاني من عقد التسعينات. وخلال التسعينات عمت المظاهرات الطلابية اندونيسيا الى ان أطيح عام 1998، اثر مظاهرات عارمة وفوضى سياسية وأزمة اقتصادية أعقبتها عمليات شغب في مدن البلاد وفتحت الباب أمام الحكم الديمقراطي. بعد الاطاحة به، ابتعد سوهارتو خلال السنوات العشر الماضية عن الحياة العامة وكان يعيش في فيلا يملكها في العاصمة جاكرتا، واقتصرت حركته فقط على حضور المناسبات الأسرية أو المواعيد ذات الصلة بأوضاعه الصحية.

ويقول فرانسيس فوكوياما، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي بجامعة جونز هوبكنز، ان الاندونيسيين أيدوا «تسلط سوهارتو الناعم» لأن نظام حكمه نجح في تنمية البلاد، ولكن عندما ظهرت الأزمة المالية وسط دول جنوب شرقي آسيا تهاوت شرعيته. اندونيسيا ما بعد سوهارتو تمكنت من التحول إلى الديمقراطية، وانتقلت السلطة من الحكومة المركزية وعقدت أول انتخابات رئاسية عام 2004، لكنها لم تحقق معدلات نمو ولا تصنيع بالدرجة التي حققتها عندما كان هو في الحكم. وبالنسبة لمعجبيه، يعتبر سوهارتو «أبا التنمية» الذي اشرف على تحول اندونيسيا إلى بلد صناعي. لكن الديمقراطية في نظر البعض ليست كل شيء، فالبعض يقول ان الفساد ما زال كما هو، كما ان الازمات السياسية الداخلية تزايدت خصوصا في اقليم آتشيه، اذ تواجه اندونيسيا في الوقت الحالي مطالب الاستقلال في عدد من الأقاليم حيث يجري تشجيع الانفصاليين بعد نجاح تيمور الشرقية عام 1999 في تحقيق الانفصال بعد 25 عاما من السيطرة الاندونيسية. وراحت الجماعات الاسلامية المتطرفة تستعرض عضلاتها خلال السنوات القليلة الماضية. وقد اتهم بعضها بوجود صلات لها مع «القاعدة»، بما في ذلك الجماعة المسؤولة عن تفجيرات بالي عام 2002 والتي أدت الى مصرع 202 شخص. وقال راجا موهان، الخبير الهندي ببلدان جنوب آسيا، ان «أي امريء يتذكر عهد سوهارتو سيخبركم ان البلد كان اقل فسادا في ظل حكمه، مما هو عليه الآن. ولم يكن للعنف في اقاليم آتشيه وماكوكو وتيمور. الناس الذين يقفون خلف تفجيرات بالي لم يكونوا قادرين على العمل في ظل حكم سوهارتو. وكان المسلمون والمسيحيون والهندوس وأفراد الأديان الأخرى يتعايشون في سلام، وتضمن حرياتهم. وعلى الرغم من أنه مسلم ملتزم فانه لم يسمح لأي دين، بما في ذلك دينه الخاص، أن يشوه سمعة دين آخر». اليوم وبعد غياب اوهام «التأثير السحري للديمقراطية»، يعترف كثير من الناخبين بالتوق الى الاستقرار في ظل حكم سوهارتو.