نساء موريتانيا.. آمسكري والتبراع

يتحركن تحت شعار «جربتم الرئيس فلم لا تجربون الرئيسة؟»

نساء موريتانيا أثرن اعجاب أبن بطوطة قبل مئات السنين («الشرق الأوسط»)
TT

عندما قررت عائشة بنت جدان خوض غمار المنافسة الرئاسية في موريتانيا قبل خمس سنوات، كانت هي السيدة الأولى والوحيدة، التي تنافس الرجال على هذا الكرسي. ورفعت آنذاك شعار «جربتم الرئيس فلم لا تجربون الرئيسة؟». ويعكس حضور المرأة الموريتانية في المواسم السياسية، ومزاحمتها الرجال في مختلف الميادين حجم المكانة التي تحظى بها، وما تمتاز به من تقدير واحترام في المجتمع الموريتاني. ولا يعتبر حضور المرأة الموريتانية في الحياة العامة أمرا جديدا، فقد تحدث المؤرخون عن هذه الظاهرة في مؤلفاتهم القديمة، ضمنهم الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة، الذي قال إنه عندما زار مدينة ولاتة التاريخية في موريتانيا، فاجأته مكانة المرأة العلمية وحضورها الاجتماعي بل أن المؤرخ البكري أطلق على أرض الصحراء «بلاد الفقهاء والنساء». كانت المرأة الموريتانية الصحراوية تمتهن العلم والتدريس، وتهتم بالتأليف في مختلف المجالات، ومن أشهر نساء هذه الفترة خناثة بنت بكار، الأميرة المتحدرة من أسرة الإمارة في منطقة لبراكنة في الوسط الموريتاني، التي تزوجها سلطان المغرب، مولاي إسماعيل، في القرن السابع عشر، وكانت امرأة عالمة ولا تزال المكتبات المغربية تغص بالمؤلفات التي استنسخت لها، وتشهد على اهتمامها الواسع بالعلم. وفي القرن التاسع عشر، ظهرت سيدة اخرى هي خديجة بنت العاقل، التي لا تقل شهرة عن سابقتها حيث كانت من أبرع معاصريها في علم المنطق، الذي ألفت فيه كتابها الشهير، الذي لم يجد طريقه للطباعة وما زال مخطوطاً.

وعلى عكس مجتمعات كثيرة، فإن المجتمع الموريتاني لم يعرف في تاريخه ظواهر مسيئة للمرأة مثل الضرب والإهانة، بل إن إهانة المرأة تشكل في عرف هذا المجتمع أكبر مسبة يتعرض لها الرجل. وكانت المرأة تهجر منزلها بسبب مواجهة الرجل لها بكلمة نابية، مما يستدعى منه محاولة إرضائها، ويتم ذلك عبر إقامة حفل كبير تحضره صديقاتها وأفراد عائلتها وتعرف هذه الظاهرة محليا باسم «آمسكري»، كما ان تعدد الزوجات في المجتمع الموريتاني القديم كان ظاهرة هامشية. وانعكس هذا الوضع في كثير من المظاهر الحالية من بينها تحكم المرأة في التجارة ليس كبائعة، وإنما كمستثمرة وصاحبة رأسمال. وتمكنت النساء في موريتانيا من تأسيس أكبر سوق في نواكشوط يطلق عليها «سوق شنقيط» ويوجد في أرقى أحياء العاصمة نواكشوط، بحي اسمه «تفرغ زينة»، وهي دائرة انتخابية في العاصمة، كانت قبيل الانتخابات الأخيرة تترأس مجلسها البلدي العمدة «انضو»، التي انتخبت في استحقاقات سابقة على رأس تلك البلدية، حيث تقطن الطبقة البورجوازية من رجال وسيدات المال والأعمال والمسؤولين في الدولة.

ويقال إن ميزة المرأة في موريتانيا تكمن في أنها تشكل مصدر عز في الوقت الذي تشكل فيه النساء في بعض المناطق من العالم مصدر خوف من الفضيحة. استطاعت المرأة الموريتانية الوصول إلى أهم الدوائر الحكومية، ومراكز صنع القرار، إذ توجد حاليا ثلاث وزيرات، وخمس وكيلات وزارة، وسفيرتان، ومحافظتان لمناطق داخل البلاد. ويوجد الجنس اللطيف ايضا في الشرطة والجيش والحرس على رغم احتفاظها بالزي الوطني، الذي يغطى جميع الجسد، وحرصها على الالتزام بالتقاليد الإسلامية والأعراف الاجتماعية. وحظيت المرأة الموريتانية في الانتخابات التشريعية الأخيرة بتمثيل واسع في البرلمان، حيث احتلت نسبة 20 في المائة من مجموع مقاعد الجمعية الوطنية (البرلمان) بغرفتيها، وهي أعلى نسبة في العالم العربي. وفي المجالس البلدية، فاق التمثيل النسوي التوقعات حيث حصلت المرأة على 1120 مقعدا من أصل 3688 هي مجموع مستشاري البلديات والمجالس المحلية، أي ما يعادل نسبة 37% من العدد الكلي. وفي عقد الثمانينات من القرن الماضي، بادرت الحكومة الموريتانية الى استحداث وزارة خاصة بشؤون المرأة، ودمجها في قطاعات الحياة المختلفة، وأشفعت هذه الخطوة بمرسوم رئاسي يعين أول سيدة موريتانية على رأس الوزارة، ويتعلق الأمر بخديجة بنت أحمد، التي تولت وزارة الصناعة والتجارة أواخر عقد الثمانينات. وفيما لقيَّ القرار حينها استحساناً دولياً كبيراً، إلا أنه بالمقابل أثار الكثير من اللغط والانتقادات داخل أوساط تقليدية لاعتبارات دينية وتاريخية، بيد أن الجدل لم يدم طويلا، إذ ساهمت وسائل الإعلام، وانفتاح المجتمع الموريتاني على المحيط من حوله، في تخفيف حدة السخط الذي رافق آنذاك هذه الخطوة. فترة حكم الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، التي امتدت أكثر من عشرين سنة شهدت اهتماماً كبيراً بالمرأة، حيث أسندت لها لأول مرة حقائب وزارية، وأنشئ لها عيد وطني اطلق عليه «عيد المرأة» الذي يصادف 8 مارس (اذار) من كل سنة. ويحسب لحكومة ولد الطايع نجاحها في إقحام شريحة نسوية عريضة في العملية السياسية، حيث توجت إستراتيجية الحزب الجمهوري الذي حكم موريتانيا زهاء عقد ونصف عقد من الزمن بوجود قائمة من النساء في هياكله القيادية، منها على سبيل المثال لا الحصر صعود عدد من النساء إلى برلمان (2001) من بينهن لمات بنت أونن، وهي عضو قيادية في الحزب الجمهوري آنذاك، وتعمل سفيرة موريتانيا حاليا لدى فرنسا، قبل أن يحل البرلمان من قبل المجلس العسكري في الثالث من أغسطس (اب) الذي أطاح بنظام ولد الطائع.

إلا ان المشهد السياسي آنذاك كان قد خلق طيفا نسائيا يناضل على الجبهة الأخرى ضمن تشكيلات أحزاب المعارضة السابقة، ومن بينهن المعلومة بنت بلال، التي شكلت مع فئة «الحراطين»، وهم المتحدرون من أصول استرقاقية او العبيد، حزبا سياسيا إلى جانب مسعود ولد بلخير، أحد أشهر مناهضي الرق في موريتانيا، بعد أن عملت في عدد من المنظمات الحقوقية الداعية إلى القضاء على العبودية، وتمكنت بنت بلال من الفوز عن حزب التحالف الشعب التقدمي بمقعد في البرلمان الجديد بعد أن كانت على رأس لائحة مرشحات هذا الحزب في العاصمة.

وتقول بنت بلال، وهي تبدو مسرورة بنجاحها لـ«الشرق الأوسط»: «لقد آليت على نفسي أن أناضل من أجل الضعفاء والمهمشين. وها هم قد استجابوا لخطابي السياسي، وساهموا في وصولي إلى هذا المقعد البرلماني باستحقاق». وتسعى بنت بلال من خلال موقعها في الجمعية الوطنية للقضاء على ظواهر اجتماعية متجذرة، وترى أنها نجحت في ذلك من خلال مصادقة البرلمان الموريتاني على قانون تجريم ممارسة الاسترقاق، ومعاقبة مرتكبيه، وهي القضية التي تحظى أكثر باهتمام بنت بلال، وتسببت في تعرضها لكثير من الضغوط السياسية والاجتماعية وفق ما قالته لـ«الشرق الاوسط».

ومن بين المجموعة النسوية التي وصلت كذلك إلى قبة البرلمان الجديد هناك الناهة بنت مكناس، رئيسة حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم، وتعتبر أول سيدة عربية تترأس حزبا سياسيا، وتمكنت من الفوز بمقعد برلماني رفقة اثنين آخرين من حزبها. ورثت بنت مكناس زعامة الحزب من أبيها المرحوم حمدي ولد مكناس في نهاية التسعينات. وكان والدها رئيس وزراء في أول حكومة موريتانية بعد الاستقلال.

وتقول بنت مكناس عن نفسها إنها تحاول دائما أن تأخذ الاتجاه الصحيح في توجيه سياسة حزبها، وتدرك أن الوعي السياسي وفاعلية الأحزاب الموريتانية ما زال أمامهما شوط طويل. وتوضح لـ«الشرق الأوسط»: أنها «تعتمد على نظريات اجتماعية تهدف إلى محاربة الفوارق الاجتماعية، واستفادة كل المواطنين من المشاركة السياسية، وتوزيع الثروة بعدالة بين المواطنين دون تمييز ولا غبن». وازداد نشاط المرأة الموريتانية اخيرا في المجال السياسي حيث تترأس ثلاثة أحزاب سياسية حاليا من بينها حزب واحد ممثل في البرلمان، هو الاتحاد من أجل الديمقراطية والوحدة، الذي ترأسه الوزيرة السابقة الناهة بنت مكناس.

لكن تشكو تحي بنت لحبيب، رئيسة حزب الأمل الموريتاني أحد آخر الأحزاب المرخصة، من التهميش الذي تتعرض له المرأة الموريتانية، وتعتبره السبب في عدم إحرازها لمكاسب سياسية أكثر مما حصلت عليه.

وكما شبهت بنت لحبيب في حديث مع «الشرق الأوسط» المجتمع الموريتاني بأنه مجتمع ما زال يحتضن بقايا من الجاهلية فيما يتعلق بالنظرة للمرأة، ألقت باللائمة على السلطات السياسية التي ألقت على عاتقها مسؤولية «تغييب المرأة عن المشاركة في القرار الوطني» رغم النسبة الكبيرة التي حصلت عليها هذه الشريحة من المجالس المحلية والجمعية الوطنية المنتخبة. ولم تشأ المرأة الموريتانية أن تبقى أسيرة في يد المجتمع رغم ما واجه هذا التحول من تحديات كبيرة وعراقيل اجتماعية متعددة. فقد مارست الموريتانيات التجارة، وسافرن إلى بلدان عديدة لاقتناء البضاعة واستيرادها من بلاد الموضة بأغلى الأثمان واستحدثت النساء المقاولات والتاجرات هيئة خاصة بهن تمنحهن الحماية القانونية اللازمة لمشاركتهن الاقتصادية، الأمر الذي مكنهن من إقامة سوق لبيع السيارات المستوردة إلى جانب سوقهن التجاري المعروف محليا باسم «مرصة لعليات» (سوق النساء). وفي سنة 1992 أعلن عن إنشاء كتابة الدولة (وزارة دولة) لشؤون المرأة الموريتانية، وهي تعنى بترقية المرأة وتوظيفها ودمجها في مختلف النشاطات، وعينت على رأسها مريم بنت احمد عيشة. كما كانت هذه الوزارة تقوم بحملات توعية في عموم موريتانيا بهدف الرفع من تعليم البنات الذي كان يشهد تدنيا كبيرا، خصوصا في المجتمعات المحافظة، التي كانت تنظر إلى المرأة المتعلمة في المدارس والجامعات الحديثة بنوع من الريبة، وتعتبر هذه الأساليب نشازا على المنظومة الأخلاقية للمجتمع الموريتاني المحافظ. وعملت وزارة الدولة لشؤون المرأة كذلك على محاربة بعض الظواهر الاجتماعية التي كان ينظر إليها على أنها تعيق التنمية، وتحد من إنتاج المرأة وفي مقدمتها الزواج المبكر والانتشار المتزايد للطلاق وختان المرأة.

وأعدت الوزارة المعنية بترقية المرأة، استراتيجية طموحة لتذليل العقبات التي تعترض سعيها، ومن أبرز هذه العقبات التفكك الأسري الذي ينوء بثقله الحاد على توازن المجتمع الاقتصادي والنفسي، ويعرض الأطفال للتشرد والعوز، إذ تعد نسبة الطلاق في موريتانيا الأكبر في البلاد العربية حيث تبلغ 37 في المائة من مجموع حالات الزواج، في حين لم يكن يوجد تشريع يضمن حقوق الأبناء وأمهاتهم.

ولمواجهة تحدي الفقر، الذي تعاني منه المرأة الموريتانية، تم إنشاء مفوضية مكلفة حقوق الإنسان ومحاربة الفقر سنة 1998 تتولى التنسيق الوثيق مع القطاعات الوزارية الرئيسية ومهمة إعداد وتنفيذ ومتابعة برنامج الحد من الفقر. كما تم إعداد إطار استراتيجي لمكافحة الفقر، كان ثمرة تشاور واسع بين الإدارة والمجتمع المدني والمانحين الأجانب. وفي عام 2000، صدر في موريتانيا قانون الأسرة، الذي منح المرأة الكثير من الحقوق مكنتها من فرض نفسها في الحياة السياسية والاجتماعية في البلد، وحظيت مدونة (قانون) الأحوال الشخصية، التي تقر هذه الحقوق بموافقة العلماء الموريتانيين بمختلف مشاربهم ومدارسهم الفكرية. ومع المشاركة السياسية للمرأة في موريتانيا، تحضر المرأة الموريتانية بقوة في المجال الثقافي حيث توجد شاعرات مجيدات وقاصات وناقدات كانت للبعض منهن مساهمة رائدة في مسار الحركة الموريتانية المعاصرة، فيما تغص المكتبات العربية بالدواوين الشعرية التي ألفتها شاعرات موريتانيات؛ ومن أشهرها ديوان «ترانيم امرأة لوطن واحد» و«أميرة الفقراء» للشاعرة المعروفة بات بنت البرا. وتمثل النساء في موريتانيا نسبة 50.5% من مجمل السكان، وعرفت وضعية المرأة خلال العقدين الأخيرين تقدما كبيرا على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، حيث انخفض معدل الأمية بين النساء البالغات سن عشر سنوات فما فوق، فيما ازدادت نسبة تعليم البنات في التعليم الابتدائي الأساسي من 54.5% إلى حوالي 76.4%، وارتفعت هذه النسبة في التعليم الثانوي من 31.3% سنة 1990 إلى 43% سنة 2000، وبلغت 21.3% بالنسبة للتعليم العالي. وتبلغ نسبة المتعملين في موريتانيا حاليا حوالي 80 في المائة، وهي إحدى النسب المرتفعة في العالم العربي، وتسيطر المرأة في موريتانيا على المجتمع المدني الذي يتكون من مئات المنظمات غير الحكومية الناشطة في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والحقوقية.

ورغم الجهود الحكومية الكبيرة لدمج المرأة في كافة القطاعات إلا أن مشاركتها في الحياة السياسية والاجتماعية ما تزال دون المستوى المأمول من ناشطات العمل النسوي، وإن شهدت تطورا ملحوظا في الفترة الأخيرة بالنظر إلى مؤشرات كثيرة؛ من بينها تولي هذه الشريحة لقيادة قطاعات وزارية وتمثليها القوى في الجمعية الوطنية، ودخولها الجيش والشرطة والحرس.

ومن المتوقع أن تنظم في موريتانيا خلال العام الجاري أول مسابقة حول «شعر المرأة»، خاصة الشاعرات في بلاد يطلق عليها اسم «بلد المليون شاعر» على غرار مسابقة أمير الشعراء التي نظمت العام الماضي في الإمارات، ولا يبدو هذا الأمر غريبا في موريتانيا التي تتميز بوجود نمط شعري خاص بالنساء يعرف باسم «التبراع». و«الـتَّـبْراعْ» شعر شفوي مقصور على النساء.. تتغزل بواسطته النساء في الرجال، وهو غير معروف الا في موريتانيا ومناطق الصحراء المغاربية. ومفرده «تَــبْريع» وهو، كما عرفه أحد الباحثين وهو أحمد بابا مسكة: «قصيدة صغيرة تعبر بها الفتيات عن عواطفهن المصادرة اجتماعيا ودينيا، والتي يمنع التعبير عنها بوضوح، وبشكل صريح على الملأ». عُرف «التبراع» قديما، وتتضارب الآراء والدراسات حول نشأته وتكونه. وأجمل ما فيه حول الفطرية التي يتمتع بها. غير انه يتجاوز دوره كشعر الى طريقة لتحرير النساء وتشجيعهن على المشاركة في الحياة العامة من الأسواق الى المحافل الشعرية. وربما هذا ما استوقف ابن بطوطة قبل مئات السنين.