من هو الشهيد؟

لكل فريق في لبنان شهيده والبعض يعترف بشهداء الآخرين كي يعترفوا هم بشهيده

تمثال «الشهداء» في وسط بيروت («الشرق الاوسط»)
TT

هل حاولت يوما ان تحصي كم مرة تتكرر كلمة «شهيد» في صحيفة لبنانية؟ قد تفاجأ بعدد المرات التي تستعمل فيها هذه الكلمة في الإعلام اللبناني وتتعجب من اختلاف الاشخاص الذين يحملون لقب شهيد. وقد تدفعك حيرتك الى التساؤل عن مدى جدية تلك الكلمة في قاموس الاحزاب والسياسيين والاعلاميين في لبنان، أو قد توقد فيك حشرية فهم مجتمع يجد نفسه بحاجة دائمة الى اطلاق كلمة «شهيد» على كل من يسقط على أرضه.

الأيام الاخيرة كانت حافلة بـ«الشهداء» لدرجة الزحمة. فقبل نحو عشرة أيام من إحياء الذكرى الثالثة لاغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، وقع إشكال أمني بين شبان كانوا يتظاهرون في ضاحية بيروت الجنوبية والجيش اللبناني.. أسفر عن وقوع «شهداء». ومنذ يومين اغتيل القيادي في حزب الله عماد مغنية، فنعا الحزب «الشهيد» الجديد فور ورود النبأ وأعلن ان يوم 14 شباط سيكون يوم وداعه. وهكذا حلّ يوم 14 شباط حاملا معه ذكرى شهيدين لا شهيد واحد، ولم يعد حكرا على الشهيد رفيق الحريري.

ولكن هل حقا كل هؤلاء «الشهداء» شهداء ؟ أم أن كثرة سماع الكلمة هي التي تجعل اللبنانيين يلجأون اليها كلما سقط منهم قتيل عن حق أو عن باطل؟

كلمة شهيد لم تدخل القاموس اللبناني حديثا، فهي استعملت كثيرا في الماضي وأطلقت أولا على الذين حاربوا اسرائيل الى جانب الفلسطينيين، ثم على الذين قتلوا خلال الحرب الاهلية التي امتدت من العام 1975 حتى العام 1990. وخلال الحرب الاهلية انعكست الانقسامات الحزبية والعقائدية على مفهوم «الشهيد». فكان كل طرف يتحدث عن شهدائه الذي سقطوا في المعركة دفاعا عن أفكارهم ومبادئهم ولحماية وطنهم، من دون أن يقلل من شأن «شهداء» أعدائه أو يلمح اليهم او يذكرهم. فكان لكل طرف نظرته للبنان ومفهمومه للكيان اللبناني ويعتبر انه يدافع عن لبنانه بالشكل الذي يريده هو، مستقلا او مرتبطا بجيرانه. ونتجت عن الحروب لوائح طويلة بأسماء الشهداء الذين سقطوا، وأصبح كل فريق يحيي ذكرى شهدائه بمعزل عن الفرقاء الآخرين.

ومع انتهاء الحرب الاهلية في بداية التسعينات، شهد لبنان فترة «ركود» في الشهداء، الى ان حلّ العام 2005 حاملا معه قافلة جديدة من شهداء من نوع آخر. فخلافا للذين كانوا يسقطون على ساحة القتال، بدأ السياسيون والصحافيون اللبنانيون يستهدفون واحدا تلو الاخر بدءا برفيق الحريري، بعضهم اصبح «شهيدا» وبعضهم الاخر «شهيدا حيا». وعلى الرغم من ان هؤلاء الشهداء قتلوا بسبب افكار سياسية يحملونها وبسبب معارضتهم للنظام السوري ونضالهم لتحقيق استقلال لبنان من الاحتلال السوري، الا ان اللبنانيين انقسموا حول هؤلاء الشهداء ايضا واصبح ينظر اليهم على انهم شهداء طرف واحد. وبات يشارك مثلا في ذكرى اغتيال الحريري مناصرو الاكثرية النيابية فقط، على الرغم من ان المعارضة مصرة على ان رفيق الحريري هو شهيدها ايضا.

ماذا حصل إذاً، ولماذا اصبح الحريري شهيد فريق واحد، وباتت تحرق صوره في بعض احياء بيروت المزدوجة، اي حيث يعيش اللبنانيون السنة الى جانب اللبنانيين الشيعة من أنصار حزب الله وحركة أمل؟

«نحن نحترم الشهيد رفيق الحريري ولكن...»، يقول عضو المجلس السياسي في حزب الله الشيخ خضر نور الدين الذي يتابع في اتصال مع «الشرق الاوسط» منتقدا «المتاجرة بالدماء»: «نحترم الشهيد الحريري ولكن هل يجوز ان استثمر دمه للذهاب بالبلد الى فتنة والتهديد بحرب أهلية؟ نحن نربأ بالجميع ان يحترموا الشهيد من دون المتاجرة بدمه، لحفظ معنى الشهادة». «المتاجرة بالدماء» مصطلح آخر أصبح يرافق كلمة «الشهيد» في لبنان. فالطرف الذي لا يعتبر الشهيد شهيده يتهم الطرف الاخر باستثمار دمائه واستغلاله سياسيا، علما بان الجميع يعترفون بان ثمة استغلالا سياسيا لمعنى الشهادة في لبنان، ولكن طبعا كل واحد يقصد الاخر.

ويذكّر عضو المكتب السياسي في حزب الله ان «الشهيد الحريري كان حريصا على البلد»، ويضيف: «اذا اردت ان احترمه أحرص على البلد، ولا استفيد من دمه لأحرص على مصالح خاصة او برنامج اجنبي او داخلي. هذا استثمار للدم في غير مكانه». والتصق هذا المصطلح أيضا، أي المتاجرة بالدماء، بـ«شهداء» الاحد في الثالث من فبراير (شباط) الذين سقطوا بعد ان نزلوا الشارع ليتظاهروا احتجاجا على انقطاع الكهرباء، فأحرقوا الدواليب وقطعوا الطرقات... فتصدى لهم الجيش واشتبك معهم وأدى الاشكال الى سقوط سبعة قتلى من المتظاهرين، وانتهى الى احالة 3 ضباط و16 عسكريا الى المحاكمة واعتقال اكثر من 75 شخصا بتهمة المشاركة بأعمال شغب. وأسرعت حركة أمل الى نعي «الشهداء» الذين كان بينهم احد قيادييها وآخر من أجهزة العناية في حزب الله، فيما اتهمت قوى الاكثرية المعارضة بالمتاجرة بدماء القتلى. «شهداء» جدد ومن نوع آخر، ولكن «شهداء» ماذا؟

«شهداء الظلم وشهداء أحداث غير متوقعة» يقول رئيس الهيئة التنفيذية في حركة أمل محمد نصر الله لـ«الشرق الاوسط» ويضيف: «من سقط لنا يوم الاحد الاسود كانوا شهداء لانهم لم يكن يجب ان يسقطوا هناك. هم لم يطلقوا النار ولم يمارسوا خطأ بل كانوا يعبرون عن رأيهم في مسألة اجتماعية لم تكن تحتاج الى مواجهة بالرصاص بقدر ما كانت تحتاج الى حنان في التعاطي». إلا ان احداث هذا اليوم لم تكن بهذه البراءة بالنسبة الى قوى الاكثرية. عمار الحوري، النائب في تيار المستقبل الذي يرأسه سعد الحريري، يعتبر ان الذين سقطوا يوم الاحد «ضحايا»، ويقول لـ«الشرق الاوسط»: «هم ضحايا من ضللهم ووجههم بالاتجاه الخاطئ. ومن سقط يوم الاحد الاسود ربما من وجهة نظره سقط لانه يطالب بمطلب معيشي وهو مطلب حق، لكن السؤال من دفع به لهذا الاتجاه؟ حتما هناك من دفع به في محاولة لاستغلاله في مآرب سياسية أخرى. من سقط في هذا اليوم سقط شهيدا، ولكن من يتحمل مسؤولية ذلك هو من دفع به الى هذا الموقع ليستغله سياسيا». ولكن حتى لو ان لكل طرف ملاحظاته على «شهداء» الطرف الاخر، إلا ان الجميع يعترف بحق كل فريق ان يكون له «شهداؤه» وفقا لعقيدته وأفكاره. فالنائب الحوري في تيار المستقبل يقول انه «خلال الحرب الاهلية سقط من اللبنانيين شهداء كل بمفهومه، وكان كل فريق يدافع عن لبنان بطريقته وقناعته». ويعتبر نصر الله، المسؤول في حركة أمل، ان «من حق كل فريق وفقا لقناعاته الفكرية والسياسية والعقائدية ان يعتبر ان من يسقط من عنده هو شهيد». أما الشيخ نور الدين من حزب الله، فيقول: «كي يكون شهدائي عند الآخرين محترمين عليّ أن احترم شهداء غيري. انا اعتبر شهدائي ضد اسرائيل شهداء الوطن، والاخرون يعتبرون قتلاهم في قضية داخلية شهداء الوطن، لذا نعتبر ان الكل في بوتقة واحدة انطلاقا من مفهوم شهداء الوطن».

في لبنان شهداء كثر. شهداء الاستقلال، شهداء الجيش اللبناني، شهداء الكتائب والقوات اللبنانية، شهداء حرب تموز، شهداء الوعد الصادق، شهداء الخط الاحمر، شهداء المحكمة الدولية، شهداء الاحد الاسود...

من يحدد من هو شهيد ومن ليس شهيدا في لبنان؟ المعايير لم تعد واضحة والحكم غائب. والشهادة ككل شيء في لبنان أصبحت موضوع صراع وحتى تسابق. قد تطلق كلمة شهيد أحيانا كتعويض للأهل عن قتيلهم، وقد تطلق بطريقة غير مشروعة احيانا لاستثمارها في الاستقطاب السياسي.. ولكن الأكيد أنها اصبحت كلمة سحرية، واستعمالها كما قال الشيخ نور الدين من حزب الله «لن يجعل أحد يخسر شيئا»، قد يجعله يربح أشياء.