أسقف كانتربري.. رجل في مأزق

يحاول أن يماشي تطور العصر والموازنة بين مجتمعه غير المتدين وكنيسته المحافظة

TT

«أحد الاشياء التي ستقوم بها عندما تكون اسقفا هو أنك ستخيّب آمال الناس». كان اسقف كانتربري روان ويليامز يردد هذه التوصية امام المطارنة الجدد الذين كان يعمل معهم عندما كان لا يزال أسقفا لويلز. لكنه لم يعرف كم هذا التعبير صحيح، الا حين انتقل الى قصر لامبث، مقر الكنيسة الانغليكانية في بريطانيا، قبل خمس سنوات.. وهناك بدأ الاختبار.

كان يعرف ان ضريبة ان تكون اسقفا هي انك ستخيب آمال الكثيرين، وقد فعل ذلك مرارا خلال السنوات الخمس الماضية، ولكنه على الرغم من ذلك فقد صدم من حجم ردود الفعل التي تسببت بها تصريحاته الاخيرة حول تطبيق أجزاء من الشريعة الاسلامية في بريطانيا. ربما هو لم يكن واضحا لدرجة كافية، وربما الاعلام النهم لتحقيق سبق صحافي، اقتطع اجزاء من حديثه وأبرزها خارج سياقها.. فبدأت الزوبعة.

هو يعرف ان مشكلته مع ابناء كنيسته هي انه يساء فهمه في الكثير من الاوقات. قال مرة انه يجد من السهل التحدث الى حضور «ملموس» يمكنه رؤيته، ولكن «الامر يبدو أصعب بكثير عندما تتحدث الى لا احد والى الجميع في الوقت نفسه. يصعب عليك هنا التنبؤ بردود الفعل». وفعلا هذا ما حصل. لقد استطاع التنبؤ بأن حادثا مماثلا سيحصل له في السنتين المقبلتين ولكنه فشل في التنبؤ بحجم ردود الفعل على هذا الحادث. فتصريحاته الى هيئة الاذاعة البريطانية، احدثت ضجة صماء غير متوقعة وصلت الى حد مطالبته بالتنحي عن منصبه والاستقالة.. كل ذلك، لانه، برأيه، كان يلفت النظر الى واقع لا يمكن تجاهله في بريطانيا هو وجود المحاكم الشرعية أصلا التي تعمل على تطبيق الشرعية الاسلامية. فهو قال ان «على بريطانيا ان تواجه الحقيقة وذلك ان عددا من مواطنيها لا يعتمدون كثيرا على النظام القانوني البريطاني وتطبيق جزئي للشريعة الاسلامية قد يساعد على بلوغ انسجام اجتماعي».

لكن الحكومة البريطانية والكثير من النواب والانغليكان المحافظين وبعض ابناء كنيسته من الاساقفة.. كلهم تبرؤوا من تصريحاته ووصفها البعض بأنها «محرجة». ولم يرحمه الاعلام البريطاني أيضا بل انقض عليه بشراسة والصق به نعوتا ليس أقساها كلمة تستعمل في العامية وتعني «غبي»، عنونت بها صحيفة «الصن» الشعبية الاكثر انتشارا في بريطانيا. لم تكن هذه المرة الاولى التي يضع فيها ويليامز نفسه في موقف حرج. فهو رجل أثار في الماضي الكثير من الجدل بسبب آرائه الليبرالية، وخصوصا حول انفتاحه على ترسيم آباء مثليي الجنس في الكنيسة، ودعوته لترسيم النساء في السلك الكهنوتي. ولكنها المرة الاولى التي يصل فيها الجدل والاعتراض على مواقفه الى اطلاق دعوات مطالبة باستقالته من منصبه، والى نشر شعور واسع لدى المحافظين بأن ثمة خللا ما في الرجل الذي يرأس كنيستهم. وموجة الانتقادات التي علت الاسبوع الماضي ردا على دعوات رأس الكنيسة الانغليكانية لتطبيق الشريعة الاسلامية في بريطانيا، أظهرت ان الاب الروحي لاكثر من 70 مليون انغليكاني في العالم، هو رجل واقع في مأزق، خصوصا وان الجدل حول تصريحاته عن الشرعية الاسلامية بدأ قبل ان يندمل جرح سابق تركه في قلب المحافظين في الكنيسة. ففي العام 2003، وبعد تسلمه المنصب ببضعة أشهر، أحدث ويليامز الزوبعة الاولى عندما اعلن دعمه تعيين القس جيفري جون المثليّ، أسقفا لكنيسة ريدنغ. وأثار هذا الدعم استياء المحافظين، وقسم الكنيسة حوله فاضطر الى سحب دعمه وفضل اعادة توحيد الكنيسة على الثورة. فموضوع الكهنة والاساقفة المثليين داخل الكنيسة الانغليكانية يشكل جدلا كبيرا خصوصا في البلدان الافريقية. وحتى ان رئيس الكنيسة في نيجيريا الأسقف بيتر أكينولا وصف المثلية الجنسية بأنها «انحراف لا تعرفه حتى العلاقات الحيوانية». الا ان هذه الافكار المتطرفة حول المثليين لا تجذب ويليامز الذي بقي مصرا على الدفاع عنهم بعد انتهاء ازمة جيفري جون. ففي العام التالي بعث برسالة إلى المؤتمر الثالث والأربعين للكنائس الإنجليكانية وقال فيها: «إن أي كلمة يمكن أن تسهل مهاجمة شخص مثلي أو الاعتداء عليه يجب أن نتوب عنها.. لا تعتقدوا أن التوبة هي أمر ندعو الآخرين فقط للقيام به علينا الاعتراف بالعيوب التي نتقاسمها». وبرر الامر بان بعض المثليين شعروا بأنهم مدانون بسبب ميولهم الجنسي وأدى هذا الشعور بهم إلى الانتحار. ويلاقي ويليامز الكثير من الانتقادات حول بعض طروحاته التي تعتبر أقرب الى الطرح الاكاديمي منه الى الطرح الديني. ويفضل بعض المحافظين في الكنيسة الانغليكانية لو ان هذه المواضيع تترك للنقاش في التجمعات الاكاديمية وليس أمام الاعلام وابناء الكنيسة. في الواقع، روان ويليامز ليس فقط رجل دين، فهو اكاديمي ويحمل دكتوراه في الفلسفة الى جانب شهادته في علم اللاهوت، ومتأهل من السيدة جين وليامز وهي كاتبة ومحاضرة في اللاهوت، ولهما ولدان. لديه شغف كبير بالشعر والادب والموسيقى. ويشكر الله عن منحه شكسبير للعالم، ويقول انه كلما استمع الى اشعار شكسبير تدمع عيناه.. وبرأيه فان شكسبير يجسد كل شيء في الحياة من الولادة الى الموت والحب والكراهية والغيرة والكفاء.. وهو متأثر كثيرا بموسيقى باخ، المؤلف الموسيقي الالماني البروتستانتي. ويقول ان باخ ليس فقط موسيقي يضع نصوصا دينية، بل هو مؤلف يتعاطى مع الموسيقى على أنه تمرين روحي. ويجيد ويليامز ثماني لغات إجادة تامة هي الإنجليزية والويلزية واليونانية واللاتينية والفرنسية والإسبانية والألمانية والروسية... ولديه شغف بالترجمة وحب الاطلاع على ثقافات مختلفة.

وهو بالإضافة الى ذلك، محاضر في جامعتي كامبريدج واوكسفورد منذ تخرجه، وغالبا ما يتلقى دعوات لالقاء محاضرات في جامعات في الخارج. ويوم اعتداءات 11 أيلول في الولايات المتحدة، كان يحاضر في مكان بالقرب من برجي مركز التجارة العالمي. وهذا ما دفعه لاحقا الى نشر كتاب يعكس المشاكل بين الاسلام والغرب. وناقش في كتابه ان منفذي اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) تحولوا الى العنف بعد ان نفدت لديهم الخيارات، ورفض الانطلاق من مبدأ أنهم أشرار. وله علاقات جيدة مع القادة المسلمين في بريطانيا، وعمل معهم بعد أحداث 11 سبتمبر. الا ان هذه الخلفية الاكاديمية أصبحت أشبه بتهمة يذكرها به منتقدوه كلما تحدث بموضوع يطرح جدلا كالموضوع الاخير حول الشريعة الاسلامية حين علت اصوات راحت تطالبه بالعودة الى «وظيفته الاصلية». فقال عنه الأسقف ادوارد أرمتستيد مثلا بعد تلك التصريحات: «ما الذي يدفعه لقول ذلك؟ إنها ليست وظيفته. عليه أن ينتقل للعمل في أي جامعة ويترك المركز الذي هو فيها. في الجامعة سيجد مكانا لمثل هذا النوع من الأفكار التي يزعجنا بها بين الحين والآخر».

والشعور بالانزعاج الذي تحدث عنه الاسقف ارمتستيد يبدو فعلا انه تسرب بين الانغليكان في العالم، وخصوصا أولئك المنتشرين خارج بريطانيا والذين ينتمون الى ثقافات مختلفة أقل تحررا وأكثر تشددا من المجتمع البريطاني. ويؤكد روبرت لاندي المتحدث باسم المجلس الاميركي الانغليكاني انتشار هذا الشعور لدى «الملايين من الانغليكان في العالم»، ويقول لـ»الشرق الأوسط»: «بعض التصريحات التي يقولها الديكتور ويليامز تؤذي ابناء الكنيسة وقد دفعت بالكثيرين الى التساؤل الى متى سيستمر هذا الامر والى متى سيظل الاب الروحي لكنيستنا يطلق تصريحات غريبة عنا».

ويبدو ان ما يقلق الانغليكان المحافظين عدم قدرتهم على التواصل مع ابيهم الروحي، أو عدم قدرته على التواصل معهم. فهو، بحسب لاندي، يبدو في بعض الاحيان «غير قادر على التواصل مع ما يشعر به هؤلاء الاشخاص ويؤمنون به.. وهو لا يساعد على التواصل معهم بتصريحاته التي تستفزهم وتثير استياءهم».

ولكن على الرغم من الامتعاض الذي تسببت به تصريحات ويليامز لدى المحافظين ولدى ابناء الطائفة، الا انه لا يزال يحظى باحترام وثقة رجال الدين في السنودس الذين استقبلوه بالتصفيق قبل ايام، بعد حديثه عن الشريعة الاسلامية. ويقول الاب مارك شابمان وهو استاذ في كلية اللاهوت في جامعة اوكسفورد لـ«الشرق الاوسط»، ان حديث ويليامز عن الشريعة «دفع بالكثيرين الى التفكير ببعض الامور المعقدة والصعبة وهذا امر ضروري». وحتى ان شابمان يرى ان الاسقف ويليامز يؤمن «نوعا جديدا من القيادة يحكمها المنطق والعقل».

وعلى عكس انزعاج البعض من ظهور ويليامز بمظهر الاكاديمي اكثر منه رجل الدين، فان هذا الامر يبدو ايجابيا بنظر الكثيرين. فالاب انطوني كلارك وهو استاذ في كلية اللاهوت ايضا في اكسفورد يقول لـ«الشرق الاوسط» ان «الاسقف الاكاديمي هو دمج جيد وليس سيئا على الاطلاق».

من الواضح ان ويليامز دفع بنفسه من خلال تصريحاته المثيرة للجدل، الى الاضواء، وجعل أبناء كنيسته يترقبون تحركاته وينتظرون تصريحاته بحذر. ويقول لاندي من المجلس الاميركي الانغليكاني ان على اسقف كانتبري ان «ينتبه الى ما يقوله اليوم، فكل شخص في مركز قيادي عليه تحمل مسؤولية كلامه والتنبه لما يقول والعمل على عدم استفزاز او اذية احد لان هذا الامر لا يساعد على التواصل مع اتباع الكنيسة».

الا ان الاب دوبري الاستاذ في كلية اللاهوت في جامعة اكسفورد لا يزال يعتقد بأن النقمة التي اثارتها تصريحات ويليامز ستهدأ، وسيعيد الناقمون التمعن بردود افعالهم وقد يغيرون رأيهم ويؤدون ويليامز. ويقول دوبري لـ«الشرق الاوسط»: «عندما تهدأ الامور ويفكر الجميع بابعاد ما قاله، اعتقد ان الكثيرين سيعودون ويدعمونه. فتصريحاته لم تكن حساسة بالدرجة التي صورت بها، ولكنها وضعت بطريقة اعمتنا عن حقيقة ما قاله للوهلة الاولى».

وبرأي دوبري، فان ويليامز كان يحاول الاجابة على سؤال شرعي حول الجماعات الثقافية المختلفة التي تعيش في المجتمعات. ويقول ان «اي شخص يعي اهمية هذا التنوع بين الثقافات يطرح على نفسه السؤال. وانا كانت لدي الروح الايجابية والانفتاح الكافي لافهم ما كان يقوله.. أنا فخور به واعتقد انه يمثل الانغليكان بطريقة جيدة رغم انه يرتكب بعض الاخطاء ولكن هذه احدى حسنات الكنيسة الانغليكانية يمكن للمرأ ان يرتكب خطأ ثم يصححه من دون خوف».

ولكنه الى جانب افكاره وطروحاته المثيرة للجدل، فان لاسقف كانتربري مواقف عديدة أخلاقية وسياسية جعلت حتى الذين يكرهونه يقفون ويصفقون له. فموقفه الرافض للحرب على العراق مثلا ومهاجتمه للولايات المتحدة وسياساتها جعلت بالكثيرين من الكنيسة الانغليكانية يفخرون به. ومن اقواله عن الحرب على العراق: «قلت قبل ان تبدأ الحرب ان لدي تحفظات كثيرة على اخلاقية شنها، وكما قلت مؤخرا فانا لست مقتنعا بهذه الحرب».

كثيرون يناقشون ان وليامز هو رجل يشبه عصره. فهو يحاول طرح القضايا من جانب معاصر وحديث. قضايا لطالما كان التحدث بها ممنوع في الكنيسة في الماضي. فالاب دوبري يقول عنه انه «يتجاوب مع حاجات المجتمع على مختلف الاصعدة وهو من جهة يريد ان يكون العقل المنفتح ومن جهة اخرى يريد ان يفعل ذلك بطريقة حكيمة لا تضايق الاخرين المختلفين في الكنيسة في المجتمعات الاخرى». ولكن مشكلة ويليامز انه رجل دين معاصر يرأس الكنيسة الانغليكانية في مجتمع غير متدين عموما وغالبا ما تتماشى أفكاره الثورية مع المجتمع البريطاني، ولكنها تصطدم بعشرات الملايين من الانغليكانيين المحافظين خارج بريطانيا. ويليامز هو من دون شك رجل في مأزق واقع بين مطرقة المحافظين وسندان الليبراليين داخل كنيسته.