الشماعية.. من هم روادها

مستشفى الأمراض العقلية ومحجر للمصابين بالإيدز ومعتقل لحالات خاصة

(«الشرق الاوسط»)
TT

لا أحد يعرف بالضبط لماذا يطلق العراقيون اسما دارجا على مستشفى الامراض العقلية، وهو «الشماعية»، فهذا المستشفى عندما بني اُختير له موقعا نائيا في نهاية مدينة الثورة، قبل ان تتوسع هذه المدينة وتتجاوز الشماعية. ربما سميت كذلك استنادا الى لقب اول طبيب انشأها، وفي اغلب الظن ان التسمية الدارجة جاءت من وصف العراقيين لمن يعاني من خلل عقلي فيقولون عنه «شمع الخيط» أو «مخه مشمع»، أي مضروب بالشمع، ولأن هذا المستشفى يضم من هم يعانون من امراض عقلية، و«مخهم مشمع» فاطلق على المستشفى تسمية الشماعية.

المستشفى كان اسمه الرسمي مستشفى الامراض العقلية والنفسية وهو اليوم يحمل اسم (مستشفى الرشاد التعليمي للامراض النفسية والعقلية). بناية المستشفى من الخارج لا تعطي أي انطباع بانها مؤسسة صحية مثلما مثبت عليها (وزارة الصحة ـ دائرة صحة بغداد الرصافة)، ولا توحي ان بداخلها مرضى نفسانيين ويعانون من مشاكل عقلية وهم هنا لاغراض العلاج، فمثل هذا المكان يصطلح عليه تسمية (مصح)، أي ان نزلاءه يتلقون عناية صحية فائقة وسط بيئة جميلة وهادئة تساعدهم على الشفاء. لكن شكل بناية مستشفى الرشاد لا يرسم في ذهن من يراه سوى السجن، خاصة بأسواره المحكمة وسيارة الشرطة التي تقف امام المستشفى باستمرار، وربما ذلك لحماية النزلاء الذين لا حول لهم ولا قوة.

في زيارة صحافية سابقة لهذا المستشفى أيقنت ان هناك عددا كبيرا من النزلاء الذين لا يعانون من أية مشاكل عقلية او نفسية هم نساء ورجال كبار في السن ادعى عليهم ابناؤهم بانهم مجانين وتصيبهم نوبات ليلية، يحملون السكاكين لقتل من في البيت. لكن الطبيب الشاب الذي رافقني في جولتي اكد بان الفحوصات والاختبارات التي اجريت على هؤلاء اثبتت طبيا انهم اصحاء وطبيعيون ولا يعانون من أية مشاكل سواء كانت عقلية او نفسية. ولكن لماذا هم هنا؟ يجيب الطبيب الذي رفض نشر اسمه، كونه غير مخول بالاجابات رسميا، «بعد ان اجرينا تحريات مطولة اكتشفنا ان ابناء غالبية هؤلاء غير متفرغين لرعاية آبائهم او أمهاتهم، أو أنهم يطمعون بالإرث وبممتلكات آبائهم او أمهاتهم، وهناك حالات اكتشفنا ان زوجة الابن لا تطيق وجود أم أو أبي زوجها، الكبير في السن، لهذا ليس هناك طريقة للتخلص منهما سوى بالمجيء بهم الى هنا والادعاء بانهم مرضى عقليون ويعانون من مشاكل وانهم خطرون».

ويضيف الطبيب: «عندما نخاطب عوائل هؤلاء لأخذ آبائهم او أمهاتهم ينقطعون عن زيارتهم، واذا أرسلناهم لهم يعودون بهم بعد أيام بنفس الادعاءات».

ويشير الطبيب الى ان العوائل التي لديها معاقون من ذوي الاحتياجات الخاصة ايضا يقومون بإيواء ابنائهم او بناتهم في هذا المستشفى للتخلص من رؤيتهم او للتخلص من عبئهم الاجتماعي.

ويقول احمد، الذي التقته «الشرق الاوسط» في بغداد، إنه لم يكن يعرف بان شقيقه «يعد من ذوي الاحتياجات الخاصة إلا بعد ان تخطى مرحلة عمرية معينة، وفهم حينها ان اخاه محمد البالغ من العمر 20 عاما لا يفكر بطريقة تشبه طريقته في الحياة، وان اغلب الناس يدعونه بالمنغولي لانه متخلف عقليا وجسميا».

يضيف احمد: «أنا حزين جدا من اجل اخي وعندما سمعت بان بعض الجهات الارهابية تستخدم المعاقين عقليا في تنفيذ بعض عملياتهم الانتحارية وتفجير انفسهم او تفجيرهم عن بعد امثال شقيقي لعدم ادراكهم ما يفعلون بدأت بإخفاء شقيقي محمد داخل غرفته في منزلنا في حي الشرطة ولا يخرج الا معي او مع والدي لاسيما وان خطف المعاقين اصبح حالة سائدة في بغداد».

واذا كانت حالة محمد ربما لا تشبه حالات اخرى لذوي الاحتياجات الخاصة فالعديد منهم بلا مأوى او أنهم يودعون في دور الدولة تخلصا من مسؤوليتهم المادية والمعنوية.

إحدى السيدات في منطقة اليرموك ببغداد كانت تعنى بشريحة ذوي الاحتياجات الخاصة او المنغول مقابل اجور رمزية، تقول ساهرة عبد اللطيف، انها ومنذ اعوام كانت قد فتحت دارا لهذه الشريحة واستقدمت لها خبراء اجتماع ومدرسات وعاملات للعناية بهم لكنها تلقت تهديدا بالقتل، فقامت باغلاق المكان.. ولا تعرف ان كان احدا قد اهتم بهم بعدها ام لا. تؤكد عبد اللطيف ان هذه الفئة من الاطفال قد لا يجدون من يهتم بهم داخل عوائلهم بل ان العديد منهم كانوا يطلبون منها البقاء معها لانهم وجدوا رعاية من نوع خاص. المختلون عقليا ايضا لهم حكايات خاصة خصوصا اولئك الذين اودعو مستشفى الرشاد للامراض العقلية فهم كما يقول احد الاطباء الذين رافقوا هؤلاء المرضى منذ اعوام طويلة، ان بعضهم لم يقو على تحمل اعباء المشاكل التي واجهها في حياته فحدث خلل في تركيبة عقله ونفسيته ولم يستطع مواجهة العالم لانه يجد نفسه خارج هذا العالم او اكبر منه. ويؤكد الطبيب المختص بالامراض العقلية والذي رفض الكشف عن اسمه لدواع امنية انه عمل في هذا المستشفى في اصعب الظروف، وقد تركوا على سبيل المثال لأشهر بدون طعام او رعاية بعد دخول القوات الاميركية. ولم يتبق معهم سوى افراد من كادر المستشفى، وكانت العوائل القريبة من المشفى تأتي لهم بالطعام والملابس الى ان عادت الحياة الى بغداد، وعاد كادر المستشفى.

ويشير الطبيب الى انه في بداية دخول القوات الاميركية الى بغداد، حيث لا دولة ولا حكومة، فتحت ابواب المستشفى بالقوة من قبل الغوغاء وخرج غالبية النزلاء الى الشوارع واختفوا تماما.

وقبيل تغيير النظام السابق كشفت صحيفة عراقية عن قيام بعض العاملين في المستشفى، ممرضين وحراس، بتأجير بعض المرضى لعصابات (الشحادة)، حيث كانوا ياخذونهم صباحا ويعيدونهم مساء مقابل أثمان يتقاضاها هؤلاء الممرضين او الحراس، وانكشف الامر عندما شاهد احد المارة شقيقه الذي كان نزيلا في (الشماعية) يستجدي المارة في شارع فلسطين مما حدا به لأن يأخذ شقيقه الى البيت ويفضح القصة. الا ان احد الممرضين برر فعلته بان «الدولة لا تخصص اموالا كافية لإطعام المرضى والعناية بهم فنقوم نحن بمبادرات مثل هذه تحت باب الاكتفاء الذاتي».

ويؤكد الطبيب ان بعض المرضى خرجوا من المستشفى في تلك الظروف ولم نجدهم حتى الان، رافضا نعت المرضى بالمجانين، مشيرا الى ان تسمية المريض النفسي او العقلي بالمجنون هو جنون ايضا، فهو انسان ربما يرفض الواقع الذي يعيشه ويحاول ان يخلق لنفسه عالما اخر يشبهه ويعيش داخله.

وحول محاولة استخدام هذه الشريحة من الاشخاص في التفجيرات الاخيرة قال: لقد تم استخدام المنغول وليس المرضى النفسيين باعتبار ان هذه الشريحة من الصعب السيطرة عليها او ايداع ما يريدون داخل عقلها.

ومستشفى الرشاد عالم قائم بذاته، ليس من السهل اختراقه او الدخول اليه والتجوال في اقسامه، وربما تكون القصص التي تحاك حوله مبالغا فيها لكن بالتاكيد فيها نسب ما من الصحة، مثل حالات اغتصاب بعض المريضات او المرضى، خاصة اؤلئك الذين لا يقوون على التعبير عن انفسهم، وقد شكت عوائل من اكتشاف ان بناتهن اللواتي يعانين من مشاكل عقلية حوامل، أو انهن أجبرن لإجراء عمليات اجهاض، لكن المسؤولين عن المستشفى اليوم يعلقون كل هذه الحوادث على مشجب النظام السابق.

في جانب قصي من المستشفى يوجد قسم خاص بالحالات الخطرة، ونزلاء هذا القسم هم ممن ارتكبوا جرائم قتل او من الممكن ان يرتكبوا مثل هذه الجرائم لذلك هم يحجزون خلف قضبان حديدية متينة وبعضهم مقيد بالسلاسل وهم في حالة يرثى لها من حيث اهمال العناية بنظافتهم، وهم معزولون عن الاخرين تماما.

يقول الطبيب: ان الاجهزة الامنية للنظام السابق كانت تمعن بتعذيب بعض السجناء السياسيين خاصة، وذلك عن طريق ايداعهم هذا القسم من المستشفى لتدمير حالتهم النفسية، وبعض السجناء السياسيين تعرضوا للقتل على ايدي هؤلاء النزلاء.

عندما تم فتح ابواب هذا المستشفى مع دخول القوات الاميركية كشف الاعلام عن وجود الكثير من العوائل بكاملها داخل المستشفى، بعضهم كانوا عوائل معارضين للنظام فحجزوهم بعيدا عن العالم وعرضوهم للتعذيب النفسي هنا، والقسم الآخر من العوائل التي تحررت من المستشفى كان ذنبها ان احد اعضائها مصاب بالايدز.

يوضح الطبيب قائلا، لا توجد في العراق مستشفى خاصا لمعالجة مرضى الايدز فكان النظام السابق يرسل هؤلاء المرضى مع عوائلهم الى هذا المستشفى لحجزهم مدى حياتهم.

ويروي الطبيب قصة اشتهرت مع تحرر عائلة من حجزها في المستشفى، حيث كان الرئيس العراقي السابق صدام حسين في زيارة الى مدينة شمال العراق، وفي الطريق التقى عائلة، رجل في منتصف الخمسينات وزوجته مع ابنتيه، وكعادة صدام اعلاميا صافح الرجل وزوجته وربت على رأس كل من الابنتين، وسألهم عن احوالهم، فتقدم الأب بطلب راجيا من صدام مساعدته في ارسال ابنه المصاب بالايدز الى خارج العراق للعلاج. هنا ارتسمت علامات الغضب على وجه صدام فقال غاضبا «ابنكم مصاب بالايدز وتصافحوني»، فأمر بإيداع العائلة كلها في مستشفى الرشاد مع ابنهم مدى الحياة، ولم يتحرروا الا في التاسع من ابريل (نيسان) 2003.

عبير الجلبي مديرة دور الدولة التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية قالت لـ«الشرق الأوسط»، ان «قانون الرعاية الاجتماعية العراقي كان يعد من أكثر القوانين تطورا في العالم، أما اليوم فيمكن وصفه بالعكس تماما، فهو مدون على الورق وغير مطبق وغير مفعل لعدم مواكبته التطورات التي حدثت على مستوى العراق والعالم أيضا. وكذلك الحال بالنسبة لأنظمة دور الدولة التي أقرت عام 1986 والتي أصبحت غير مجدية ولا تحقق طموح المجتمع ولهذا شكلنا لجنة لإعداد قانون بديل عنه».

وأكدت ان «الخروقات التي كثيرا ما تحدث في العراق من عمليات استغلال للأطفال المشردين والأيتام والمجانين وإجبارهم على امتهان مهنة كالتسول أو حتى سرقة أعضائهم، ليست حالة يعاني منها العراق فقط فكثير من الدول بما فيها المتقدمة نجد فيها ممارسات غير قانونية تمارس بحق الطفل والمرأة وغيرها»، وتضيف «في المجتمع العراقي ساهمت جملة من الأمور في انتشار بعض الظواهر السلبية وحتى الخارقة للقانون، حتى وصل الأمر إلى قيام بعض الأسر الفقيرة إلى تأجير أبنائها لجماعات أو عصابات تمتهن التسول.. وهذا يعني تنشئة طفل في بيئة ستضر ليس بأهله فقط بل بالمجتمع ككل، ولكم أن تتخيلوا مصير طفل ينشأ في وسط مليء بالجرائم والسرقات والنصب.. بالتأكيد سيتأثر بهذه البيئة».

أما عن استغلال بعض المختلين عقليا في عمليات تصب في مصلحة تنظيمات إرهابية، واستخدامهم في عمليات إرهابية ضد المجتمع، وقد شهد العراق مؤخرا الكثير من تلك الحالات، وقالت مديرة دور الدولة، «كل نزلاء دور الدولة وبخاصة الأيتام والمختلين عقليا، يعانون من مشاكل نفسية، او اجتماعية، تحتاج إلى تشخيص ودراسة وتحديد للعلاج، أما عملية استغلالهم من قبل جهات إرهابية فهذا لأنهم شريحة غير قادرة على التحكم بتصرفاتها ويسهل استغلالها من قبل هؤلاء.. لكن من المستحيل أن يتصرف شخص يعاني من خلل عقلي بمفرده ويقوم باعمال منافية للطبيعة.. وهنا قامت تلك الجماعات بتفخيخهم وإرسالهم للجهات المقصودة وتفجيرهم عن بعد، وهي جريمة لا يمكن وصفها فالقوانين الدولية تفرض على المجتمعات رعاية هذه الشرائح وتم تسميتهم بذوي الاحتياجات الخاصة أي أنهم يحتاجون كثيرا من الأمور وعلى الآخرين تأمينها لهم، لكن ماذا نقول لعصابات إرهابية غايتها سفك الدماء ولا يهمها الوسيلة».

وبهدف إيجاد حل مناسب لهذه المشكلة أوضحت عبير الجلبي «هذا يعتمد أولا وأخيرا على وعي المجتمع نفسه، فعندما نثقف الأسرة التي تحوي مثل هذه الشرائح، وأيضا دعمها من قبل الحكومة تختفي هذه الظاهرة، كما أن هناك حالة يجب الانتباه لها وهي شريحة المشردين التي اعتبرها قنابل موقوتة داخل المجتمع، فهي تضم عناصر في أعمار قابلة للاستمالة بسهولة من قبل جهات إجرامية». وتقول الجلبي انها قامت بحملة استمرت لعام تقريبا تم خلالها جمع ما يقارب عن 800 مشرد، وإخضاعهم لدراسة نفسية. قالت «وجدنا أنهم عناصر خطرة كونهم نشأوا وسط بيئة غير سوية، حتى ان قسما منهم بينوا أن الذين يستغلونهم في أعمال التسول وبيع الممنوعات يجبرونهم على تناول حبوب لا يعرفونها».

المسؤولة في دائرة ذوي الاحتياجات الخاصة خلود إبراهيم، بينت في لقاء مع «الشرق الأوسط»، أن «المهام الرئيسية لدور الدولة تتمثل في تامين الرعاية الصحية والاجتماعية والإيوائية للمسنين وفاقدي الرعاية الأسرية وأيضا الأيتام والمشردين واستيعابهم في دور متخصصة، فضلا عن تقليص ظاهرة العوق في المجتمع ورعاية المعوقين بدنيا وعقليا وتأمين فرص العمل لهم، كما تشمل اختصاصاتنا فئات أخرى مثل رعاية الطفولة بهدف محاربة الظواهر الاجتماعية التي تستغل الطفل وتنتهك حقوقه، ونقوم أيضا بالتنسيق مع المنظمات غير الحكومية».

أما عن أعداد الدور فبينت أن «عددها في كافة محافظات العراق 136 وحدة تشمل دور الأيتام والمسنين والحضانة والمكفوفين والعوق العقلي والبدني وورش محمية وجمعيات تعاونية»، مشيرة الى ان الطاقة الكلية لدور الدولة هي 1030 يستفيد منها 686 بينهم 250 أنثى و436 ذكرا، أما العاجزون كليا فتبلع الطاقة الاستيعابية للدور 500 ويستفيد منها 445، أما دور الحضانة فتبلغ طاقتها الاستيعابية 3160 يستفيد من خدماتها 1704 أطفال بينهم 800 إناث، اما وحدات العوق العقلي فطاقتها 1335 تؤوي 918 مستفيدا والعوق البدني 2630 تؤوي 1573 وأخيرا الورش المحمية التي تبلغ طاقتها الاستيعابية 239 تضم 455 مستفيدا. وتبلغ الطاقة الاستيعابية لجميع الدور 9555 يستفاد من خدماتها ورعايتها 5781 بينهم 2354 من الإناث و3427 ذكورا».