لا غالب ولا مغلوب

معادلة الحروب والحلول في لبنان

المغلوب دائما.. مدينة بيروت («الشرق الاوسط»)
TT

في كل مرة يواجه فيه لبنان أزمة سياسية كيانية، خصوصاً بعد حرب أهلية أنهكت أطراف النزاع، خرج من نَادَى باستعادة معادلة «لا غالب ولا مغلوب»، التي تهدف باستمرار إلى حماية الكيان والنظام من خلال إعادة بناء السلطة السياسية، وتوزيع الحصص فيها. من أجل الهروب من محاولة تهديد الكيان وتقويضه، كانت الذريعة المثلى تصحيح التمثيل وتقاسم النفوذ في الحكم، كي يبرر فرقاء الصراع أن أياً منهم ليس في وسعه الانتصار على الآخر وحده، وفي الوقت نفسه إبقاء النزاع معلقاً ومؤجلاً. إلا أن ليس هذا ما رمت إليه معادلة «لا غالب ولا مغلوب» منذ طرحت للمرة الأولى عام 1958، فقد كانت بدورها ثمرة أزمة كيانية قبل أن تكون حساب تقاسم السلطة.

في سني الحرب اللبنانية الطويلة (1975 ـ 1990)، خرج مَن طالب بتكرار التجربة. وفي السنتين الأخيرتين استعيدت العبارة، وهُمست أكثر من مرة في أذن الأمين العام لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، مذ حضر وسيطاً للمرة الأولى في ديسمبر (كانون الأول) 2006. تصوّر الرجل أنها عبّارة سهلة تؤدي إلى حل متاح وسريع، وفاتته قصتها ورجالها. مع أن كثيراً من أحداث 1958 كأنها تنسَج من جديد. بعد سنوات قليلة على الاستقلال لم تتعدَّ عقداً ونصف عقد من الزمن، واجه لبنان أولى أزماته الكيانية التي انفجرت حرباً أهلية ولّدت فيها جذورها الإقليمية أسباباً محلية، لم تكن في صلب انفجار تلك الحرب. بات تأثير التدخّل الخارجي في لبنان فاعلاً إلى حدّ اجتذاب فرقاء النزاع الداخلي، الذين لم تكن قد توقفت منذ الاستقلال عام 1943 خلافاتهم على طريقة إدارة الحكم والسلطة في لبنان، ولا تباينت عميقاً ردود فعلهم من عهد من آخر، ولم يكن قد مرّ بعد إلا عهدان رئاسيان. شغلتهم نزاعات داخلية اتصلت أحياناً بمواقفهم من الفساد وشؤون المواطنين وبناء الإدارة والعلاقات مع الجوار العربي القريب كسورية ومصر. في عهد الرئيس كميل شمعون كان قد طرأ التحوّل الخطير في السياسة الخارجية اللبنانية عندما سعى لبنان إلى أن يكون جزءاً من المحاور الإقليمية والأحلاف الدولية، من غير أن يحظى هذا الخيار بتوافق داخلي على مبرّرات الانخراط في توازن قوى، نأى لبنان بنفسه عنه لسنوات. وما أن حاول شمعون الانضمام إلى حلف بغداد في فبراير (شباط) 1955 حتى وجد نفسه أسير استقطاب إقليمي ودولي بسبب انقسام الدول العربية ـ القريبة من لبنان والبعيدة عنه ـ حيال دخولها هي الأخرى في ساحة صراع استقطاب الدول المناوئة لحلف بغداد والمعارضة له.

اقترب لبنان من العراق الذي جمعه بتركيا وإيران وباكستان وبريطانيا حلف بغداد، فاختلف مع السعودية ومصر وسورية. وفي ظل تنامي المعارضة الداخلية لهذه الخطوة، انكفأ شمعون عن مواصلة لعبة نزاع إقليمي خطر. بعد عام، تكرّرت المحاولة مع إعلان «مبدأ آيزنهاور» في يناير (كانون الثاني) 1956 القاضي بإعلان أميركا استعدادها والتزامها تقديم مساعدة عسكرية لأي بلد شرق أوسطي يجد نفسه مهدّداً بالخطر الشيوعي. انضم لبنان إلى الخطة الأميركية، وكذلك الأردن والعراق والسعودية، ومصر وسورية اللتان قررتا بعد سنة الاندماج في الجمهورية العربية المتحدة في فبراير(شباط) 1958. وردّ العراق والأردن ـ وكان يحكمهما العرش الهاشمي ـ بإعلان اتحاد عربي. وهكذا انتقل الصراع العربي والإقليمي إلى لبنان بين قطبي النزاع، الرئيس جمال عبد الناصر والعرش الهاشمي. ولم يكن ذلك إلا صورة معرّبة لتجاذب قوى دولي في المنطقة. ضاعفت الخلافات اللبنانية الداخلية المتصلة بالسياسة الخارجية، وتفرّد شمعون بحكم لبنان وتجاهله معارضيه، وإشرافه على انتخابات نيابية عام 1957 أسقطت زعماء كبارا كصائب سلام وعبد الله اليافي وأحمد الأسعد وكمال جنبلاط بسبب طموح الرئيس إلى غالبية نيابية تخوض معركة تجديد ولايته الرئاسية، حدة الانقسام الوطني. كانت الناصرية قد تغلغلت في الأوساط الإسلامية اللبنانية على نحو جارف، مما جعل الزعماء المسلمين يتطلعون في آن واحد إلى زعامة عربية استثنائية لعبد الناصر لا منازع عليها، وإلى انضمام لبنان إلى الجمهورية العربية المتحدة نجمةً ثالثة. وإذ دخل على هذه العوامل الخلاف المزمن اللبناني ـ السوري والنزاعات الحدودية بين البلدين منذ منتصف الأربعينات، أضحى انفجار حرب أهلية اتخذت بعداً طائفياً أمراً وشيكاً وحتمياً.. دعم الزعيم المصري معارضي شمعون بالمال والسلاح، فتلقى الأخير بدوره مساعدات مماثلة من حلفائه الإقليميين العراق وإيران والأردن. استمرت الحرب الأهلية خمسة أشهر واتخذت للتو طابعاً طائفياً مسيحياً ـ إسلامياً في المواجهة بين شمعون ومعارضيه الذين كانوا في غالبيتهم زعماء مسلمين أيّدهم معارضون مسيحيون لشمعون كالرئيس السابق بشارة الخوري وحميد فرنجية وبطريرك الموارنة بولس المعوشي لأسباب تتصل بمواقفهم من سياستيه الداخلية والخارجية، بينما أيد حزب الكتائب المسيحي القوي برئاسة بيار الجميل رئيس الجمهورية. انتشرت المتاريس والحواجز وأعمال الخطف على الهوّية بين المسيحيين والمسلمين. وسرعان ما أنهى هذه الحرب توازن قوى مباغت قلب أحداثها رأساً على عقب عندما سقطت الملكية في العراق في 14 يوليو (تموز) 1958 وتدخّل الجيش الأميركي في لبنان والبريطاني في الأردن، فولدت تسوية أميركية ـ مصرية قالت بتحييد لبنان عن ساحة الصراع الإقليمي، من غير أن يستمر مناوئاً لعبد الناصر وقد تضاعفت قوته بعد نشوء نظام حليف له في العراق. فانتخب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية في يوليو 1958.

حتى ذلك الوقت لم يؤتَ على ذكر معادلة «لا غالب ولا مغلوب». لم تكن في صلب التسوية الأميركية ـ المصرية، ولا وجد اللبنانيون أنفسهم معنيين بابتكارها. لاحظوا أن انتخاب شهاب كفيل إخراجهم من الحرب الأهلية التي أنهكت طرفي النزاع، من غير أن تصيب الجيش أو تفقده وحدته ـ على غرار انقسام المجتمع السياسي والشارع ـ أو تحسبه منحازاً إلى فريق دون آخر. كان اللبنانيون، في الحكم والموالاة والمعارضة والشارع، لا يتكلمون إلا عن الوحدة الوطنية والميثاق الوطني والابتعاد عن صراعات المحاور العربية والإقليمية، ورفض التدخّل في شؤونهم الداخلية، واحترام علاقات متكافئة مع سورية من غير أن تتحرّش بالحدود والقرى اللبنانية المتاخمة لها، والتفاهم مع عبد الناصر على تجاوز الخلافات التي شهدتها علاقاته بعهد شمعون، ولكن دونما تدخّله هو الآخر في الشؤون اللبنانية. كانت تلك أيضاً مهمة الرئيس الجديد للجمهورية.

بذلك استعاد لبنان بعده الداخلي في محاولة طيّ صفحة الحرب الأهلية التي عُرفت بـ«ثورة 1958». إلى أن انفجر مجدّداً بسبب زلة لسان قيل إنها مقصودة، وقيل إنها خطأ جسيم، وقيل إنها اختبار قوة غير محسوب النتائج. أولى مهمات شهاب كانت تأليف أولى حكومات العهد الجديد ومباشرة خطة إزالة المظاهر المسلحة والمتاريس والخنادق، وبسط الأمن وهيبة السلطة وترميم الوحدة الوطنية. تزامن ذلك مع حادث أمني في سبتمبر (أيلول) 1958، عندما خطف مسلحون صحافياً بارزاً في جريدة «العمل»، الناطقة بلسان حزب الكتائب، هو فؤاد حداد، من أحد الأحياء الإسلامية في طريقه إلى عمله. كان الرجل يوقع زاوية يومية باسم «أبو الحن» ينتقد فيها بعنف عبد الناصر. ولم يُعثَر له بعد ذلك اليوم على أثر. دعا الحزب إلى إضراب عام ليوم واحد قبل 24 ساعة من أداء الرئيس المنتخب اليمين الدستورية، تعبيراً عن غضب واحتجاج على خطف حداد. اليوم التالي، 23 سبتمبر، كلّف شهاب الرئيس رشيد كرامي تأليف الحكومة الجديدة. فإذا به ـ وهو أحد أبرز رموز المقاومة الشعبية لشمعون ـ في نشوة ما بدا للمعارضة انتصاراً كبيراً، يُطلق عبارة استفزّت رئيس حزب الكتائب، هي أن حكومته أتت «تقطف ثمار الثورة». تصوّر كرامي أن فريقه انتصر أكثر من مرة: عندما انتخب شهاب بقرار من عبد الناصر مكرّساً نفوذ الناصرية في لبنان، وعندما وصلت المعارضة من خلاله إلى رئاسة الحكومة، وعندما أُبعد حلفاء شمعون عن العهد الجديد. زها بنفسه، وتصرّف على أنه غالب.

أشعر ذلك الجميل بحقبة جديدة تُبنى فيها السلطة على رابحين وخاسرين بروح تشّف وانتقام. بعد ساعات، أعلن كرامي حكومته الجديدة من ثمانية وزراء لا انتماء حزبياً أو عقائدياً لهم، وعكست أسماؤهم صفتهم المستقلة ما خلا رئيسها الزعيم الطرابلسي. غير أنهم لم يكونوا بعيدين عن علاقات متفاوتة الأهمية تربطهم بزعماء «ثورة 1958» والمعارضة. فكان أن أطلق الجميل الثورة المضادة التي انفجر معها الشارع المسيحي. ورأى في الحكومة الجديدة خللاً بتوازنها السياسي، وخلواً من تمثيل مسيحي متكافئ مع وجود كرامي على رأسها. بدا الأخير، منتشياً، الرابح الأكبر في الانتقال الجديد للسلطة من عهد إلى آخر. لكن الجميل شعر أيضاً بأن كرامي تحدّث عن مسلمين منتصرين ومسيحيين خاسرين. أعادت الثورة المضادة المخاوف من تكرار تجربة «ثورة 1958» والنزاع الطائفي، وجاهرت بعصيان مسيحي على طريقة إعادة بناء السلطة. نشر أنصار الحزب الحواجز والمتاريس والخنادق في الأحياء المسيحية، ولاسيما منها الأشرفية والجميزة والمتن وكسروان. قُطِعت الطرق وأُقفِرت وأقفلت المحال التجارية، واندلعت اشتباكات مسلحة من جراء تشنّج طائفي تولّد مجدّداً بين مسلحين مسيحيين من الحزب وحلفائه من «قبضايات» الأحياء، وآخرين مسلمين مماثلين منضوين في «المقاومة الشعبية» في البسطة. تلاحقت أيضاً حوادث قتل واعتداء وخطف متبادلة أوقعت قتلى وجرحى وفوضى، سرعان ما توسّعت إلى مناطق أخرى، فاضطر شهاب بعد 20 يوماً، إلى التراجع وقد تنبه إلى أن حكمه يكاد ينهار قبل أن يبدأ. وضع أمامه أحد خيارين؛ حكومة وحدة وطنية برئاسة كرامي تجمع الأفرقاء الرئيسيين لتحقيق المصالحة الوطنية المتكافئة، أو أخرى عسكرية يترأسها ناظم عكاري تعلن حال الطوارئ.

في اليوم الـ12 لتأليف الحكومة الجديدة، في 6 اكتوبر (تشرين الأول) 1958، دعا أركان المعارضة، الرؤساء كرامي وصائب سلام وعبد الله اليافي وحسين العويني، وكذلك كمال جنبلاط ورنيه معوّض ونسيم مجدلاني، إلى اجتماع طويل في منزله في جونيه طَرَحَ فيه الخيارين. أطلقوا يده، فمال إلى الأول.

استقالت الحكومة الأولى في 14 اكتوبر قبل أن تمثل أمام مجلس النواب لنيل الثقة، وخلفتها حكومة رباعية ترأسها كرامي شاركه فيها مارونيان هما بيار الجميّل وريمون إده، وسنّي هو حسين العويني. وخلت من تمثيل شيعي ودرزي وكاثوليكي وأرثوذكسي. وازَنَ توزير الجميل خصميه في المعارضة وفي «ثورة 1958» كرامي والعويني. فكان أن رفعت الحكومة الجديدة شعار «حكومة إنقاذ وطني». كانت كذلك حكومة مواجهة الواقع الذي نشأ عن الثورة المضادة، بعدما بدا الرئيس أنه كان يرغب في حكومة خبراء واختصاصيين كالتي أسقطها عصيان بيار الجميل لمباشرة إعادة بناء الدولة. هكذا أمست حكومة كرامي فاتحة عهد جديد بشعار «لا غالب ولا مغلوب» الذي سيحفظه اللبنانيون سنوات طويلة على أنه خشبة خلاصهم، كلما وطأوا أزمة كيانية، أو حرباً أهلية تهدّد بتفتيت الوحدة الوطنية بعد انهيار النظام والكيان على رؤوسهم، أو صوّرت لفريق دون آخر أنه يستطيع أن ينتشي بانتصار وهمي حققه توازن قوى خارجي لا يلبث أن يعيد الجميع إلى العنف ونزاع الذات مع الذات.

أطلق صائب سلام تلك المعادلة البسيطة، غير المنطقية في حساب الحروب والصراعات، والغامضة في منطق الطوائف والمذاهب، والضرورية في وطن يتأثر سياسيوه وسكانه بـ«آلهتهم». شاع في أكتوبر 1958، في الحقبة الفاصلة بين حكومة الثمانية غير المتوازنة وحكومة الأربعة المتوازنة. بذلك رمى الشعار إلى توازن مغزاه أن في نزاعات اللبنانيين في الشارع لا أحد يغلب آخر، وفي السلطة يرسى حكم متوازن بين شطري البلاد طائفياً والقوى الرئيسية التمثيلية الفعلية سياسياً. وقد تكون هذه المعادلة هي ما يريد أن يذهب إليه الأمين العام للجامعة العربية.

* كاتب لبناني