كردستان: صراع النفوذ

أجواء خوف وترقب تخيم على المثلث الحدودي بين تركيا وإيران والعراق.. وتحالفات جديدة في الأفق

عائلة نازحة من إحدى قرى قنديل يتابع افرادها تحليق الطائرات التركية (تصوير: كامران نجم)
TT

منذ بدء العمليات العسكرية البرية والجوية التركية ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني المنتشرين في مناطق المثلث الحدودي المترامي الاطراف بين تركيا وايران والعراق والشريط الحدودي الفاصل بين اقليم كردستان في اقصى الشمال العراقي مع تركيا، واجواء الخوف والترقب والذهول تخيم على مدن وقصبات اقليم كردستان، لاسيما في المناطق القريبة من الحدود التركية في محافظة دهوك، او القرى والقصبات الممتدة على طول سفوح جبال قنديل في نطاق محافظتي اربيل والسليمانية، التي لا تكف الطائرات التركية عن التحليق في سمائها. كما غدت انباء الحرب وخسائر الطرفين المتحاربين وحصيلة غارات الطائرات التركية على القرى والقصبات الحدودية، سواء المحاذية للحدود الايرانية او التركية، حديث الشارع والمقاهي وحافلات نقل الركاب والاماكن العامة في جميع مدن الاقليم.

وتتصدر هذه الاحداث عناوين الصحف والمجلات المحلية، أما آراء الناس والشارع، وكذلك آراء السياسيين والمثقفين والصحافيين والمحللين، فانها تتباين بخصوص جانب من الاحداث الجارية على الارض، وتتطابق حول جوانب عديدة اخرى، تخص الاهداف الحقيقية للاجتياح التركي وموقف الحكومة العراقية ودور العديد من دول الجوار العراقي في كل ما يجري وفي مجمل العملية السياسية الجارية في العراق.

ويعتقد البعض ممن استطلعت «الشرق الاوسط» آراءهم، ان ما يجري الان على حدود الاقليم من شأنه احداث تغيير جذري في الحسابات السياسية القائمة، سواء في كردستان او في بغداد، وستفضي بعد انتهائها الى تحالفات جديدة وحلول اخرى. يقول فريد أسسرد، رئيس مؤسسة الابحاث والدراسات الاستراتيجية في اقليم كردستان، والقيادي البارز في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الرئيس جلال طالباني، ان الاجتياح التركي خلق منذ البداية بعض المشاكل السياسية التي ضاعفت من تدهور العلاقات الفاترة أصلا بين اربيل وبغداد، ذلك ان حكومة الاقليم كانت تتوقع مواقف اكثر فاعلية وحزما من السلطات الاتحادية في العراق حيال الاجتياح التركي، على العكس تماما مما اعلنته بغداد، الامر الذي عزز من خيبة أمل الحكومة الكردية.

واضاف أسسرد في حديثه لـ«الشرق الاوسط»، ان العمليات العسكرية ستترك بلا شك اثرا سلبيا عميقا في العلاقات حتى بين الاحزاب الكردية نفسها، وقد تظهر تلك التأثيرات بعد انتهاء العمليات العسكرية، التي ستحتم على الجميع اعادة النظر في المعادلات والحسابات السياسية القائمة.

وفي ما يتعلق بالتصورات السائدة في العديد من الاوساط الكردستانية، حول وجود مخطط سري أو مؤامرة مشتركة بين بغداد وانقرة لأضعاف الدور الكردي في السلطة المركزية، قال اسسرد هذه التصورات واردة ولكن ليس بالضرورة ان تكون صائبة، لأن الاتفاق الأمني الذي ابرمته الحكومة العراقية مع انقرة قبل عدة اشهر كان علنيا، وقد اطلعت القيادة الكردية على بنوده قبل التوقيع عليه.

فيما يرى الكاتب والمحلل السياسي الكردي سردار عبد الله ان تركيا تستهدف من وراء عملياتها العسكرية جملة من الامور، لعل ابرزها اضعاف الدور الكردي في مجمل العملية السياسية الجارية في العراق. وقال في حديثه لـ«الشرق الاوسط»، ان ما يجري الان على الحدود مرتبط بعوامل اقليمية، منها العامل الايراني، عليه اتوقع ان تبقى القوات التركية على اراضي الاقليم لفترة طويلة من الزمن، مشيرا الى ان انقرة تسعى للبرهنة على عجز الحكومة في الاقليم عن مواجهة القوات التركية، وبالتالي توجيه ضربة معنوية للقيادة الكردية، فضلا عن الايحاء للشارع التركي بان الجيش قادر على الوصول الى معاقل حزب العمال حتى لو كانت خارج حدود البلاد. وتابع عبد الله قائلا: «اتوقع ان تسفر الاوضاع الحالية في نهاية المطاف عن خلق ارضية مناسبة للحوار بين بغداد والاقليم من جهة، وبينه وبين انقرة من جهة ثانية»، لكنه رأى ان على القيادة الكردية ان تصمد بوجه الأزمة وتتعامل معها بمنتهى الحكمة والتبصر، وان تعمد الى اجراء اتفاقات سياسية مع شركائها وحلفائها من القوى العراقية بالشكل الذي يصب في المصلحة الوطنية العراقية واقليم كردستان، بغية قطع دابر التدخلات الخارجية.

لكن عارف قورباني رئيس تحرير صحيفة «آسو» الكردية الصادرة في السليمانية يرى عكس ذلك. يقول ان الازمة الراهنة من شأنها رأب الصدع الحاصل في العلاقة بين الاقليم وبغداد، نتيجة الخلافات حول مسألة العقود النفطية وقضية كركوك، لاسيما ان معظم الاقطاب السياسية في العراق تطالب بجلاء القوات التركية وانسحابها من اقليم كردستان، نافيا ان تؤثر الأزمة على دور الكرد في الحكومة المركزية كون الدور الكردي قائما على استحقاقات انتخابية ودستورية. لكن قورباني اشار الى ان الازمة ستعمق، حسب رأيه، من الخلافات بين تركيا واكراد العراق مستقبلا، وتسيء الى علاقاتهما المشتركة. وقال قورباني في حديثه لـ«الشرق الاوسط»، اذا تعاملت تركيا مع قضية حزب العمال بعقلانية وتبنت الحلول السلمية لها فان ذلك سيفتح امامها بابا واسعا لحل مشاكلها الداخلية الاخرى، وقد تكسب دعم اكراد العراق في ذلك.

وعلى الصعيد المتعلق بمواقف التركمان في اقليم كردستان والعراق حيال ما يجري الان، اعرب قورباني عن اعتقاده بأن الشارع التركماني منقسم على نفسه ازاء عملية الاجتياح التركي لكردستان، اذ ان القوى التركمانية المعروفة بصلاتها الوثيقة مع تركيا ترحب بما يحصل الان، في حين تقف القوى التركمانية الاخرى في صف واحد مع الكرد، بل تعلن عبر خطاباتها ومواقفها الرسمية عن شجبها للاعتداءات التركية، وهو امر يصب في صالح الكرد سياسيا، ناهيك من موقف عشائر العبيد العربية ذات النفوذ الكبير في كركوك وضواحيها، التي اعلنت استنكارها للاجتياح التركي، واكدت انها مستعدة لمواجهة القوات التركية دفاعا عن كردستان، التي هي جزء من الاراضي العراقية.

وعلى غير المعتاد يخيم صمت مطبق على الشارع الكردي في الاقليم، على الرغم من استمرار العمليات العسكرية التركية، اذ لا مظاهرات ولا مسيرات احتجاجية تندد بتركيا كما كان يحدث في المرات السابقة، الأمر الذي يفسره بعض المحللين بأنه تعبير شعبي صامت عن مدى تدهور العلاقة بين القيادات الكردية وجماهير الشعب في الاقليم، نتيجة انعدام الخدمات وتفشي الفساد الاداري وغيرها من الاسباب التي خلقت جدارا فاصلا عزل الشعب عن قيادته تماما، لكن قورباني يخالف ذلك التأويل قائلا: ان القيادة الكردية لم تطلب من جماهير الشعب لحد الان تنظيم مسيرات احتجاجية ضد الاجتياح التركي، وان المواقف الوطنية لجماهير الشعب تسمو في مثل هذه الحالات على المسائل المتعلقة بانعدام الخدمات او تفشي البطالة والفساد، مشددا على ضرورة ان تتعظ تركيا من دروس اجتياح النظام العراقي.

وفي ما يخص موقف القوانين الدولية من الاجتياح التركي الراهن لإقليم كردستان قال رزكار محمد امين الخبير القانوني والقاضي السابق لمحكمة الجنايات العليا في بغداد، التي تحاكم رموز النظام السابق في العراق، انه طبقا للبنود والشروط الواردة في المادة الحادية والخمسين من ميثاق الامم المتحدة، فان الاجتياح التركي يعتبر عدوانا واعلانا للحرب ولو لم يتم ذلك رسميا، علاوة على كونه احتلالا صريحا لأراضي دولة عضو في الاسرة الدولية، وبالتالي فان الوضع القائم يحتم على مجلس الأمن الدولي اصدار قرار بهذا الصدد ينهي حالة الحرب القائمة.

وقال امين في حديثه لـ«الشرق الاوسط»، ان الاجتياح التركي يعد تهديدا للأمن والسلام في المنطقة، وهما جزء من الأمن والسلام في العالم، وبالتالي يتوجب على تركيا ان تحترم سيادة الدولة العراقية والسلطات التشريعية في البلاد التي تمثل ارادة الشعب العراقي، تماما كما احترمت الولايات المتحدة قرار البرلمان التركي بعدم السماح للقوات الاميركية بالمرور عبر الاراضي التركية لاجتياح العراق عام 2003.

أما الاوضاع في المناطق والقرى الحدودية، وتحديدا في القرى والقصبات الممتدة على طول سفح جبال قنديل، فانها تزداد سوءا وتدهورا يوما بعد آخر في ظل استمرار الغارات الجوية التركية. وقال صباح مينا ابراهيم المدرس في قرية بوكريسكان، التي تعرضت مع عشر قرى اخرى في سفح قنديل لدمار شبه كامل، جراء الغارات الاولى للطيران الحربي التركي قبل شهرين، ان سكان قريته والقرى المجاورة الذين نزحوا نحو بلدتي قلعة دزه وسوران المجاورتين بدأوا بالعودة تدريجيا الى قراهم المدمرة وسط مشاعر الخوف والذعر التي تخيم على المنطقة، لاسيما اثناء الليل، حيث لا تكف الطائرات التركية عن التحليق. واوضح في حديثه لـ«الشرق الاوسط»، ان مقرات مقاتلي حزب العمال التي كانت منتشرة في تلك القرى اختفت قبل حدوث الغارات التركية وان المقاتلين تلاشت حركتهم في المنطقة لكنهم مازالوا موجودين هناك، ولا احد يعرف اين يختفون مع حلول الظلام. وقال ان 50% من سكان تلك القرى عادوا الى اماكنهم، وان الامدادات الضرورية كالمؤن الغذائية والمحروقات تصل الى المنطقة بصعوبة وعسر، وان الحكومة المحلية لم تصرف لحد الان اي تعويضات مادية للقرى المنكوبة، وان المساعدات التي وصلت الى القرويين كانت عبارة عن بعض الحاجيات المنزلية والمواد الغذائية، كجزء من جهود بعض المنظمات الانسانية الاجنبية والمحلية وحسب. ونفى ابراهيم انتشار مقاتلي حزب الحياة الحرة الكردستاني «بيجاك» الجناح الايراني لحزب العمال في تلك المناطق، التي قال انها ما برحت تحت سيطرة عناصر حزب العمال، الذين يحثون القرويين بشدة على المكوث في ديارهم وعدم مغادرتها.

اما محمد كلالي، 32 عاما، من اهالي بلدة سوران الحدودية مع ايران والتابعة لمحافظة اربيل، فقد اكد لـ«الشرق الاوسط»، ان الاوضاع في تلك البلدة آمنة، وان الغارت التركية تستهدف باستمرار القرى التابعة لقصبة سيدكان الحدودية، التي يغادرها سكانها شتاء نظرا لنزول كميات هائلة من الثلوج، التي تغمر المنطقة حتى نهاية الربيع ويعودون اليها في الصيف للزراعة والرعي. واضاف ان السطات المحلية في البلدة اتخذت بعض الاستعدادت الضرورية تحسبا للحالات الطارئة في البلدة بالتعاون مع منظمة الهلال الاحمر العراقية وبعض المنظمات الانسانية الدولية لتقديم المساعدات العاجلة لسكان المنطقة عند حدوث اي طارئ، مشيرا الى ان الهلع والخوف يسيطر على نفوس سكان المنطقة حيال احتمالات ان تشن القوات الايرانية المتحشدة على الحدود عمليات عسكرية في تلك المناطق على غرار العمليات التركية.

وعلى الرغم من استمرار العمليات العسكرية التركية على الحدود مع اقليم كردستان منذ نحو اسبوع، واحتدام المعارك بين القوات التركية ومسلحي حزب العمال الكردستاني المعارض في المناطق الجبلية الحدودية، وتحديدا على بعد نحو 10 كيلومترات من بلدة زاخو، التي تعتبر اقرب بلدة كردستانية الى الحدود التركية، الا ان البلدة وضواحيها القريبة تعيش اجواء الحياة الطبيعية، فلا فزع ولا هلع بين سكانها ولا اقبال على خزن المؤن الغذائية ولا حفر للخنادق والملاجئ في البيوت، ولا سواتر من الاكياس الترابية امام المباني الرسمية والمحال التجارية، كالتي كانت سائدة ابان الحروب التي مر بها العراق في عهد النظام السابق.

«الشرق الاوسط» رصدت الاوضاع المعيشية في بلدة زاخو وضواحيها المجاورة والتقت اولا بالمواطن عيسى بنستاني، 58 عاما، الذي اكد ان البلدة ما برحت تعيش اوضاعا هادئة ومستقرة ولم تتأثر مطلقا بالاشتباكات العنيفة التي تجري على الحدود، ولا بعمليات القصف المدفعي للقوات التركية او الغارات الجوية التي تستهدف القرى والقصبات التابعة للبلدة منذ بدء الاجتياح العسكري التركي للمنطقة، نافيا حدوث عمليات نزوح للمدنيين او توقف حركة الحياة العادية فيها.

واضاف بنستاني في حديثه ان حفلات الاعراس والمناسبات الخاصة تقام باستمرار في الفنادق الراقية والقاعات الخاصة، التي تزخر بها البلدة التي تشهد نهوضا عمرانيا وتطورا اجتماعيا غير اعتياديين وعلى نحو يختلف كثيرا عن سائر كردستان والعراق، وتستمر تلك الحفلات والسهرات عادة حتى ساعة متأخرة من الليل، وكذلك الحال بالنسبة للاسواق والمحال التجارية التي تعج بشتى اصناف البضائع المحلية والمستوردة، مؤكدا ان القصف المدفعي التركي الذي يعكر بعض الشيء صفو الحياة في المنطقة يطال غالبا بعض القرى النائية الحدودية، مثل سرات وكلي بزافا وغيرها من القصبات والقرى المهجورة والممتدة على طول الشريط الحدودي، التي نزح عنها سكانها منذ اواخر الثمانينات من القرن الماضي. اما زيرفان زاخويي، 43 عاما، فقد نفى التقارير الخبرية التي نشرتها بعض وسائل الاعلام حول مغادرة العديد من رجال الاعمال والاثرياء البلدة، بعد تصفية حساباتهم التجارية والتوجه الى المدن البعيدة عن الحدود التركية، وقال في حديثه لـ«الشرق الاوسط»، ان كبار التجار واصحاب المصالح ورجال الاعمال من اهالي زاخو المعروفين ما برحوا مستقرين في اماكنهم ويواصلون مزاولة اعمالهم وانشطتهم التجارية الاعتيادية، اما رجال الاعمال والتجار من اكراد تركيا او من الاتراك انفسهم فقد صفوا بالفعل قسما من حساباتهم وانهوا انشطتهم التجارية تحت ضغوط من السلطات التركية وعادوا الى بلادهم. في حين ان الحركة التجارية بين اقليم كردستان وتركيا مازالت مستمرة وعلى نحو طبيعي جدا، بموازاة حركة النقل والسفر بالنسبة للمواطنين المغتربين العائدين الى كردستان والعراق من اوروبا مرورا بمنطقة سلوبي التركية الحدودية، ثم معبر ابراهيم الخليل القريب من زاخو.

اما دوي القصف وهدير الطائرات التركية فانه يكاد يسمع عن بعد، خصوصا عندما تتعرض قرى منطقة سندي الحدودية مثل دشبخ وشرانش الى القصف المدفعي، أما أجواء بلدة زاخو فما زالت غير مخترقة من قبل الطائرات التركية التي تتفادى التحلق فيها.

أما الاجواء الحياتية في مدينة دهوك والعاصمة اربيل ومدينة السليمانية وضواحيها، بل وفي ابعد قرية على الحدود الايرانية فانها مستقرة وهادئة وطبيعية جدا، على الرغم من انباء التحشدات العسكرية الايرانية في قصبة نوسود المحاذية لبلدة خورمال على الجانب العراقي.