قلبان يخفقان.. بكوسوفو

صربيا تحلم بالعودة إليها كما حدث مرارا عبر القرون.. وألبانيا تعتبرها قطعة من السبي التاريخي

صربية تحمل لافتة كتب فيها «كوسوفو هي صربيا» خلال مظاهرة في مدينة ميتروفسكا بكوسوفو اول من أمس (رويترز)
TT

بين بلغراد وتيرانا يخفق قلبان لا تربط بينهما أي اسلاك ولكن وشائج مرئية وملموسة. كوسوفو بالنسبة للألبان قلب تحرر من سبي القرون، ومن صراعات الامبراطوريات على صفائحه المنهكة. أو شابة مخطوفة تحررت، لكنها لم تعد إلى أحضان أمها، وإن بنت بيتا مستقلا إلى جوارها. وكوسوفو قلب صربيا وابنة بالتبني. فوق أرضها تأسست الكنيسة الصربية الارثذوكسية، وعلى أرضها تحققت أكبر الأمجاد، وأعظم الانكسارات الصربية. في كوسوفو هزم الصرب الدولة البيزنطية، وانهزموا أمام الأتراك، وخضعوا لحكمهم مدة 5 قرون، لكنهم عادوا من جديد إلى كوسوفو في بداية القرن الماضي، ليخرجوا منها في آخره، ثم تعود كوسوفو إلى وضعها الأول في الحقبة التي سبقت الاحتلال الروماني 167 قبل الميلاد. يمني الصرب أنفسهم بالعودة إلى كوسوفو كما عادوا مرارا. ويحلم الألبان بأن تكون عودة كوسوفو إليهم قطعا مع تاريخ السبي التاريخي والسياسي، وكل ما تحمل الكلمة من معنى. مأساة كوسوفو تتمثل في أنها جمعت بين التاريخ والدين والجغرافيا، التي لم تستطع الثقافة الاوروبية المشتركة أن تخفف من لهيبها أو تذيبها أو تتجاوزها، ولكنها تتفهمها وتعد بهضمها في مرحلة لاحقة.

التاريخ مهم في فهم القضايا المختلفة، لا سيما المتعلقة بالاجتماع والسياسة والثقافة. لذلك هناك تاريخان في كوسوفو، كلا الشعبين يرويان تاريخا مختلفا، ويقرآنه بشكل مختلف. يتحدث الألبان عن الأصل التاريخي، بحكم أنهم من سكان البلقان الأصليين. ويتحدث الصرب المهاجرون عن التغيرات التاريخية منذ القرن الثاني عشر، حيث أن الحقوق تسقط بالتقادم، مع قيام واقع سياسي وثقافي وديمغرافي جديد. ولذلك توجه وزير خارجية صربيا فوك يريميتش، إلى اسرائيل قبل اعلان كوسوفو، لمحاولة إفهام الاسرائيليين بأن استقلال كوسوفو بعد قرون من الهيمنة الصربية سينعكس على الوضع داخل الأراضي المحتلة عاجلا أم آجلا.

وما بين التاريخ والواقع مساحات تقترب وتبتعد، وجراحات قديمة تنكأ وجديدة تبرز للعلن. في داخل كوسوفو يصر الصرب على الصمت، وفي الشمال، كوسوفيسكا ميتروفيتسا، لا يزال الصرب مشدودين إلى صربيا، تزداد قلوبهم خفقانا كلما مر يوم جديد على استقلال كوسوفو، ويتساءل بعضهم «ترى هل سننسى أننا كنا جزءا من صربيا».

وفي البوسنة يتحدث بعض الصرب عما إذا كانت «صربيا ستعوض عن خسارتها كوسوفو، بانفصال صرب البوسنة». لكن الجواب الحاسم يأتي من واشنطن وبروكسل ـ مقر الاتحاد الاوروبي، وحلف شمال الأطلسي، بـ«لا» واضحة.. لن تقسم كوسوفو ولن يسمح لصرب البوسنة بالانفصال عن البوسنة. الغرب لديه مخاوفه من أمم البلقان، بالدرجة الأولى.. لا يريد ضم صربيا كبرى إلى الاتحاد الاوروبي. فقد ظلت صربيا، 9 ملايين نسمة، وفية لعلاقاتها التاريخية الاستراتيجية مع روسيا، في ظل جميع الأنظمة التي حكمتها منذ المملكة الصربية وحتى يومنا هذا. وهناك ارتباط وثيق بين الصرب والروس على المستوى الشعبي، وهناك مقولة يتندر بها أبناء الشعوب الأخرى على الصرب، ولكنها تعبر عن الحقيقة، يقولون «نحن وروسيا 300 مليون نسمة». لذلك يريد الغرب صربيا «صغيرة» داخل الاتحاد الاوروبي مستقبلا، حتى لا تمثل ثقلا سياسيا وثقافيا واقتصاديا وديمغرافيا داخل الاتحاد. لكن أغرب ما قيل حول استقلال كوسوفو هو أن «الاتحاد الاوروبي يريد صربيا ضمن الاتحاد الاوروبي، بدون مليوني مسلم في كوسوفو، ولذلك فصله عن صربيا». بيد أن جميع المؤشرات تفيد بأن الاتحاد الاوروبي يرغب في ضم مليونين ونصف المليون بوشناقي مسلم في البوسنة إلى الاتحاد الاوروبي، في إطار مسيرة بلادهم نحو بروكسل، وفق الآليات المتفق عليها. ويؤكد المراقبون أنه ليس من المنطقي أن تسمح استراتيجيات الاتحاد الاوروبي بأن يظل المسلمون الاوروبيون، ولا سيما في البوسنة مليونين ونصف المليون نسمة، وكوسوفو، أكثر من مليوني نسمة، وألبانيا، نحو 5 ملايين، خارج الاتحاد. فذلك يعني الكثير على الصعيد الأمني والسياسي، ما يجعل مقولة الفرز الجيوديني تفتقد للكثير من المصداقية وإن كانت تنطبق على تركيا، إلى أن يثبت العكس. لا ينظر الصرب والألبان إلى موضوع استقلال كوسوفو من زواية السياسة الدولية، ولا سيما الاوروبية، وهي عادة الشعوب في كل الدنيا، ولكن من منطلق «هذا لي»، وقد عبر الصرب عن ذلك بشعار «كوسوفو صربية»، بينما ترجم الألبان ذلك باعلان الاستقلال. ولو كان بامكان الصرب منع استقلال كوسوفو بالقوة لما ترددوا لحظة واحدة. وهذا ما أكده بعض ممن التقت بهم «الشرق الاوسط» سواء في كوسوفو أو البوسنة.

يقول ميروسلاف وهو مواطن صربي «نحن شعب صغير ليس بامكاننا خوض حرب ضد حلف شمال الأطلسي، ولكننا سنظل نعتبر كوسوفو جزءا من صربيا» ويضيف زميله ساشا «الصرب في ميتوكيا (كوسوفوفيسكا ميتروفيتسا) سيبقون في كوسوفو، ولكني لست متأكدا من أن صرب بريشتينا أو غيرهم ممن يقعون بين تجمعات ديمغرافية ألبانية كبيرة سيظلون حيث هم، سيرحلون إلى ميتوكيا أو صربيا». ومن بين الصرب الذين تحدثنا إليهم من يعتقد بأن «تقسيم كوسوفو كان هو الحل الأجدى، لا يمكن أن يحصل الألبان على كل شيء والصرب على لا شيء» لكنه قال «لو خيرونا بين كوسوفو أو الانضمام للاتحاد الاوروبي فإننا نفضل أن تبقى كوسوفو جزءا من صربيا ونحن خارج الاتحاد». ويشعر الكثير من الصرب بالمرارة لأن «كل الآمال التي علقوها على الحرب الحضارية، التي روجت لها العديد من الجهات في الغرب وفي بلغراد لم تنعكس على الوضع في كوسوفو» على حد قول هامو ميمة، الألباني، ويضيف «حاول الصرب اللعب على وتر الاختلاف الحضاري والديني، عرضوا على واشنطن المشاركة العسكرية في أفغانستان والعراق، عرضوا عليهم إقامة قواعد عسكرية فوق أراضي صربيا وكوسوفو بشرط منع الاستقلال» وتابع «وزير خارجية صربيا ذهب لايطاليا ليقول لهم إن هناك 300 مسجد بني في كوسوفو منذ تولي الامم المتحدة الاشراف على الاقليم، ودائما يتحدثون عن الارهاب وعلاقة الألبان باسامة بن لادن، وأن كوسوفو ستصبح معقلا للارهابيين إذا استقلت، وهذا غير صحيح أبدا». أما فاطمير بوكالي من كوسوفو فقال «نحن نشعر بأننا كنا محتلين وحصلنا على استقلالنا مثل بقية الشعوب الحرة في العالم». وعن الكنائس والاديرة الصربية وبقية الصرب في كوسوفو وهم حاليا نحو 130 ألف نسمة قال «هذه الكنائس والاديرة ملك لمن بقي من الصرب في كوسوفو، لن يفكر أحد في هدمها كما هدم الصرب 200 مسجد في بلغراد لوحدها بعد خروج العثمانيين من المنطقة».

كما أن الموقف من الانضمام للاتحاد الاوروبي، ودوره في تحقيق طموحات جميع الاطراف في كوسوفو وصربيا والبوسنة وكرواتيا وبقية الدول التي كانت تمثل يوغسلافيا السابقة، يختلف أيضا من جهة إلى أخرى، فصرب كوسوفو يريدون أن ينضموا إلى الاتحاد الاوروبي وهم جزء من صربيا، الأمر الذي حال الاستقلال دون تحقيقه. في حين يرغب بعض الصرب في البوسنة أن ينضموا للاتحاد ككيان خاص وهو ما يرفضه الاتحاد الاوروبي، ولذلك يشعرون بأن الفرصة لم تأت بعد لتحقيق أهدافهم المتمثلة في وطن واحد لجميع الصرب. ويؤكد ذلك علم الدين، وهو من سكان البوسنة، «نحو 50 في المائة من البوسنيين لا يشعرون بأن البوسنة وطنهم» ويستطرد «بالنسبة لنا لن نسمح لأي كان بتقسيم البوسنة، ومن لا يريد العيش فيها كدولة موحدة بامكانه المغادرة حيث يريد، نحن سنبقى هنا، فهذا وطننا وليس لدينا وطن بديل مثلهم». صرب كرواتيا عبروا من جهتهم عن رغبة مختلفة، لا يمكن التحقق من قناعتهم بها، وما إذا كانت قناعة فعلا أو موقفا أملته الظروف. ففي تعليقاتهم عما يجري في كوسوفو قال بعضهم للتلفزيون الكرواتي يوم الثلاثاء الماضي «كرواتيا بلدنا، نحن صرب عرقا، ولكننا كروات جنسية». وبين رغبة الجهات الدولية، مثل واشنطن وبروكسل، في أن يشعر الصرب في دول البلقان بأنهم صرب عرقا لكنهم بوسنيون أو كوسوفيون وطنا، وبين التحفز الصربي في انتظار أي فرصة تاريخية لتحقيق أهدافهم المتطابقة مع أهداف الألبان النهائية في العيش في دولة واحدة، يظل الشعبان قلبين ينبضان بعيدا عن الوطن الأم. صربيا بالنسبة للصرب.. وألبانيا بالنسبة للألبان. لكن يبقى ان انضمام جميع دول البلقان إلى الاتحاد الاوروبي، كما يؤكد الخبراء، سيقضي على جميع النزعات العرقية لأنها ستلتقي مجددا، ولكن تحت مظلة جديدة هي بروكسل.