مراقبة الجينات

منظمات تحذر من العنصرية في جمع ملفات الحمض النووي.. والداخلية تردّ 78 % من البيض و7% من السود

TT

لم يتوقع كريغ، الشاب البالغ من العمر عشرين عاما، ان تكلفه انزلاقة طوبة من بين يديه، ست سنوات من عمره في السجن. ولم يتوقع مايكل، سائق شاحنة يبلغ من العمر 56 عاما، ان يقضي بسبب نوبة قلبية تسببت بها سقوط الطوبة على صدره بعد ان اخترقت زجاج شاحنته الامامي.

وفاة مايكل في أبريل (نيسان) العام 2003 كانت لتصنف على أنها حادث قضاء وقدر، ولكانت الشرطة كتبت في تقريرها ان الرجل توفي بنوبة قلبية بعد سقوط طوبة على صدره من دون ذكر ان احدا أسقط هذه الطوبة.. لولا توصل الشرطة الى اثبات ان كريغ كان في مكان الحادث وهو من تسبب بمقتل مايكل، عبر قاعدة بيانات الحمض النووي التي تملكها. كريغ هارمين الذي كان يعمل في محل تجاري في منطقة ساري، احدى ضواحي لندن، كان الرجل الاول في بريطانيا الذي يُدان بتهمة القتل غير العمد بعد إثبات صلته بالحادث عبر المطابقة بين حمضه النووي (دي إن ايه) الذي تم جمعه من الطوبة، والحمض النووي لاقارب له تحتفظ الشرطة بملفاتهم. وحينها قال المسؤول عن التحقيق في الشرطة البريطانية غراهام هيل، إنه لولا هذه التكنولوجيا، لما كانت الشرطة ادانت احدا في مقتل مايكل ليتل.

تكنولوجيا الحمض النووي أصبحت من أهم الاثباتات التي تعتمد عليها الشرطة البريطانية لتعقب الجناة ومرتكبي الجرائم، وهي تمكنت منذ العام 1995 من تأسيس قاعدة وطنية لملفات الحمض النووي لنحو أربعة ملايين ونصف مليون شخص في بريطانيا، نصف هذه الملفات أضيفت الى القاعدة منذ عامين فقط. وبذلك أصبحت قاعدة بيانات الحمض النووي الذي تملكها بريطانيا هي الاكبر في العالم. فحتى الولايات المتحدة الاميركية التي يبلغ عدد سكانها خمس مرات أكثر من عدد سكان بريطانيا، تملك ملفات لخمسة ملايين شخص، وهو عدد يوازي تقريبا تلك الموجودة في القاعدة البريطانية. ويمكن تعقب اشخاص عبر أفراد من عائلاتهم، ذلك ان الحمض النووي بين الاقارب يعطي تشابها ويمكن بالتالي العثور على شخص حتى ولو ان ملف حمضه النووي غير موجود في القاعدة، اذا كان ملف احد اقاربه موجودا. وتعتبر اليوم هذه القاعدة من أهم وسائل اكتشاف الجرائم التي تعتمد عليها شرطة سكوتلنديارد، وهي تتسع بصورة قياسية خصوصا بعد اصدار قوانين جديدة منذ العام 2004 تسمح بأخذ عينة من الحمض النووي للاشخاص الذين يعتقلون ويطلق سراحهم من دون أن يدانوا بأي تهمة، وأصبح يسمح للشرطة بإضافة ملف حمضهم النووي الى القاعدة الوطنية. فيمكن للشرطة مثلا ان تأخذ عينة من الحمض النووي لاشخاص تعتقلهم اثناء مشاركتهم في تظاهرة ما، وهو أمر غالبا ما يحصل في بريطانيا، وتضيف ملفهم الى قاعدة البيانات. وقد يستيقظ احد هؤلاء الاشخاص في يوم من الايام ليجد نفسه في مركز للشرطة متهم بجريمة سرقة او اغتيال، لانه تم العثور على حمضه النووي في مكان الجريمة ووجدت الشرطة تفاصيله التي أدخلتها بعد اعتقاله لسبب بسيط، في قاعدة بياناتها. واذا لم يكن لديه اثبات عن مكان وجوده وقت وقوع الجريمة قد يصبح متهما به أساسيا في جريمة لا علم له بها.. فقط لانه صادف مروره في المكان وترك آثاره فيه. وقبل بضعة أيام، تسبب أخذ الحمض النووي من دارين نيكسون، البالغ من العمر 28 عاما، اشتبهت الشرطة بأنه يحمل مسدسا وتبين لاحقا انه جهاز للاستماع الى الموسيقى، بصدمة لدى الشاب الذي احتفظت الشرطة ببياناته الشخصية واضافتها الى قاعدة الحمض النووي التي تملكها.

ويقول نيكسون انه صدم لدى اعتقاله والتحقيق معه بتهمة حيازة مسدس، ولكن الصدمة الاكبر كانت عندما اخذت عينات من حمضه النووي واضيفت الى القاعدة على الرغم من ان الشرطة لم تعثر معه على مسدس وانها تأكدت من انه بلاغ خاطئ. ويقول دارين انه مواطن صالح وهو لم يخترق القوانين ابدا وهذا الامر كان صدمة بالنسبة له. وقد حذرت منظمة «جين ووتش» البريطانية من إبقاء ملفات الحمض النووي لاشخاص يعتقلون ولا يدانون وطالبت بإزالتها من قاعدة البيانات. ودعت المنظمة الاشخاص الذين تؤخذ عينة من حمضهم النووي ولا يدانون، أن يطالبوا بإزالتها من القاعدة كي لا يساء استعمالها، الا ان وزارة الدخلية المسؤولة عن قاعدة البيانات ترفض الامر. وقالت هيلين والاس من منظمة «جين واتش» لـ«الشرق الاوسط» ان «التخوف الاكبر» هو من سوء استعمال المعلومات واللجوء اليها لاسباب غير ملاحقة الجرائم. سوء الاستعمال الذي تتحدث عنه هيلين قد يكون مثلا رفض طلب وظيفة في القطاع العام يتقدم به احد الاشخاص الذين تحتفظ الشرطة بعينة من حمضهم النووي، بعد الاطلاع على ملفه، علما بان الملف ليس موجودا لهذه الغاية. ويمكن معرفة تفاصيل شخصية عن الافراد من خلال حمضهم النووي، تصل حتى اكتشاف معلومات شخصية تتعلق بالصحة والامراض التي يعاني منها. إلا ان منظمة «جين واتش» تعتبر ان المواطنين يؤيدون أحيانا انشاء هذه القاعدة من دون ان يدركوا العواقب التي قد تنجم عنها، ومن دون أن يعلموا أنه قد يساء استعمالها لاغراض شخصية في أماكن أخرى غير مكافحة الجريمة. وتقول والاس إن من الامثلة أيضا على سوء الاستعمال امكانية رفض طلب تأشيرة لشخص ما بعد الاطلاع على تفاصيله من قاعدة البيانات. وتقول والاس إن الامر ليس عدم ثقة بالحكومة بقدر ما هو عدم ثقة ببعض الاشخاص الذين يطلعون على العملية، بدءا بالاشخاص الذين يأخذون العينة الى الاشخاص الذين يحللونها والاخرين الذين يدخلونها الى القاعدة. وتشير الى ان اي شخص من هؤلاء قد يسيء استخدام المعلومات.

وفي رد على سؤال لـ«الشرق الاوسط» قال ناطق باسم الداخلية البريطانية «ان الحكومة تقدر قلق البعض من ملفات الحمض النووي التي تجمها في قاعدة بياناتها، خصوصا ان بعضا من الذين تؤخذ عينة من حمضهم النووي هم أشخاص غير مدانين بأي تهمة، الا ان الحكومة توصلت الى استنتاج ان التدخل في الحياة الشخصية للافراد هو ضروري ويوازي مصلحة الضحايا والمجتمع عموما لصالح اكتشاف الجرائم وحماية المجتمع من المجرمين». وأكد الناطق أن البيانات موجودة لاستعمال الشرطة لمكافحة الجريمة فقط وليس لاي سبب آخر، وأن ثمة أشخاصا يراقبون حسن استعمال المعلومات. وتؤكد الشرطة أنه منذ بدأ العمل بالقاعدة تمكنت من كشف الكثير من الجرائم اعتمادا على أدلة الحمض النووي، وكان آخر هذه الجرائم العثور على قاتل خمس نساء في شرق انكلترا ارتكب جرائمه العام الماضي وادانته بالسجن مدى الحياة.

وتنتقد منظمة «جين واتش» ممارسة الضغوط على المواطنين للتبرع بملف عن حمضهم النووي، وتعطي المنظمة مثالا على ما حصل في احدى مناطق جنوبي لندن بعد عملية اغتصاب فتاة، عندما عمم المحقق على سكان المنطقة بان التبرع بأخذ عينات من حمضهم النووي سيسهل ايجاد مرتكب الجريمة وان من يتخلف عن التقدم يكون كمن يخفي أمرا. واعتبرت المنظمة في تقرير لها أن في هذا الطلب تهديدا وابتزازا للمواطنين.

ويتحدث المنتقدون ايضا عن العنصرية في تجميع المعلومات ويتخوفون من أنها موجهة ضد الاقليات، وتقول والاس «إن نحو 30 بالمائة من الملفات الموجودة في قاعدة البيانات هي لرجال سود، اضافة الى ملفات لنحو مئة ألف طفل أو شخص ما دون سن الثمانية عشرة». إلا ان المتحدث باسم الداخلية البريطانية نفى الامر وأكد لـ«الشرق الاوسط» ان الاحصاءات الاخيرة تشير الى ان 78 في المائة من نسبة الملفات الموجودة في قاعدة البيانات هي لرجال بيض و7 في المائة هي لرجال سود و5 في المائة للأقليات الآسيوية، مشيرا الى أنها تتناسب مع شكل المجتمع البريطاني. وقال ان الوزراة تنبهت الى ضرورة المساواة بين ملفات الاقليات والبيض في بريطانيا وهي توجه الشرطة اليوم حرصا منها على ذلك، كما انها زادت عدد رجال الشرطة السود لكي تحقق المساواة. ولكن ثمة تخوفا أكبر تتحدث عنه «جين واتش» هو بدء انتقال هذه التكنولوجيا الى بلدان أخرى تفكر في بدء قاعدة بيانات للحمض النووي للافراد. وتقول والاس إن بلدانا مثل الصين وباكستان بدأت البحث جديا باقامة قاعدة شبيهة، وتضيف ان التخوف الاكبر الذي ينجم عن عدم وضع قوانين محددة لكيفية استعمال المعلومات، هو سوء استعمالها من قبل دول مثل باكستان والصين اللتين قد تلجآن اليها ليس فقط لمكافحة الجريمة بل لإسكات وتعقب المعارضين.

وبين قضية الحياة الخاصة للأفراد وأمن المجتمع، تواجه بريطانيا اليوم خطر إجبارها على إزالة أكثر من 500 ألف ملف من قاعدة بياناتها المتعلقة بالحمض النووي بعد ان قرر رجلان اعتقلا واضيفت ملفاتهما الى القاعدة، مواجهة الحكومة البرطانية في المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان. وتبدأ المحكمة الاسبوع المقبل جلساتها للبث في القضية التي يطالب فيها الرجلان إزالة ملفاتهما من القاعدة. وفي حال ربحا القضية، فان بريطانيا ستجبر على إزالة الملفات الشبيهة التي اضيفت بعد العام 2004. ورفضت وزارة الداخلية التعليق على الموضوع وقالت انه أمر لم يحدث بعد ولا يمكنها التنبؤ بالنتيجة، ولكنها بلا شك تواجه تحديا قد يضع حدا لتوسيع قاعدتها وطموحها بالحصول على قاعدة بيانات تضم كل البريطانيين.