ضمير الدب

ألكسندر سولجنيتسن المعارض الروسي.. عاد من منطقة الظل ليطلب من الصرب البقاءَ قرب مدافن الأجداد

TT

عندما سئل الكاتب الايرلندي جورج برنارد شو عن الرأسمالية، وضع يده اليسرى على رأسه الاصلع وأمسك باليد اليمنى لحيته الكثة، وقال قولته الشهيرة: «غزارة في الانتاج وسوء عدالة في التوزيع». كان ذلك تماما هو رأي الكاتب الروسي الأشهر الكسندر سولجنيتسن في الرأسمالية بعد ان عاش 20 سنة في اميركا لكنه ظل ايضاً مناوئاً للاشتراكية التي طبقت في بلاده منذ عقود من القرن الماضي. وعلى الرغم من معارضته الشديدة للنظام السوفياتي، حيث اعتبر واحداً من أهم «المنشقين الروس» في التاريخ الحديث، لم يعجبه الاسلوب الرأسمالي. ثمة أوجه شبه اخرى تربط بين سولجنيتسن وبرنارد شو، إذ ان كليهما كاتبان اهتما بالتاريخ والآداب والدراما، وتتشابه ملامحهما خاصة اللحية الكثة والرأس الاصلع، وكليهما حصلا على جائزة نوبل للآداب.

كاد سولجنيتسن ان يتوارى في ظلال الذاكرة خلال السنوات الاخيرة، لولا موقفان أثارا اهتمام وسائل الاعلام؛ الاول، وقع قبل 8 سنوات، والثاني، حدث قبل ايام. عندما زاره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل ثماني سنوات في منزله الخشبي خارج العاصمة الروسية، موسكو، صارت تلك الزيارة مادة للسخرية من وسائل الاعلام في الغرب، لانه لقاء نادر ضم بوتين رئيس جهاز الأمن السري السابق (كي جي بي) ورجلا عانى طول حياته من الشرطة السرية منذ عهد ستالين، والتي عندما ضاقت به ذرعاً رمته خارج بلاده عام 1974 ليعيش في المنفى 20 سنة ولا يعود إلا عام 1994. ولكن منذ عودته إلى بلاده.. لم ترق له الأوضاع في البلاد ووجه انتقادات لاذعة لنظام بوتين.

لكن هناك ما يجمع بين «رجل المخابرات» السابق والاديب العالمي، إذ ان كلا الرجلين يرى ضرورة عودة روسيا إلى سابق عهدها «دولة قوية محترمة تلعب دورا مهما في الأسرة الدولية». لكن الرجلين تختلف رؤيتهما حول الشعب الروسي، إذ عادة ما يخاطب سولجنيتسن «العواطف القومية للروس» وهذا يخالف رؤية بوتين الذي يريد روسيا أن تكون في تآلف وتحالف مع جيرانها والعالم. ويبدو أن سولجنيتسن لا يزال متعلقا بفكرة «روسيا العظمى». وذكر يومها ان الرجلين «أمضيا معا ثلاث ساعات ناقشا خلالها الأوضاع في البلاد».

وعلى الرغم من مضي ثماني سنوات على ذلك اللقاء النادر، فإن الكسندر سولجنيتسن، عاد الى الاضواء في الايام الماضية، بعد ان تبنى موقفاً يتطابق مع موقف بوتين حول قضية استقلال كوسوفو. إذ دعا سولجنيتسن الصرب الى البقاء في كوسوفو، في رسالة دعم نشرتها احدى الصحف الصربية. ووجه سولجنيتسن رسالته الى «الصرب الذين بقوا للعيش على ارض اقليم كوسوفو التاريخي الذي انشق ظلماً عن صربيا». وخاطب سولجنيتسن، 89 عاما، صرب كوسوفو قائلاً في الرسالة التي ارسلها عبر زوجته الى مراسل الصحيفة في موسكو «تعرضتم في السنوات العجاف الاخيرة لأعمال نهب وتدمير كنائس ارثوذكسية واحراق مدارس صربية وهجمات مباشرة تخللتها اعمال قتل». وطالبهم بالبقاء في أرضهم (كوسوفو)، ودعا الى ان «يحفظ الله شجاعتهم وتصميمهم على البقاء قرب مدافن اقربائهم».

يعتقد كثيرون داخل روسيا وخارجها ان الكسندر سولجنيتسن الذي يعد من أبرز الكتاب الروس الأحياء أنه ضمير روسيا. وما زال وهو على وشك ان يكمل عقده التاسع يتمتع بصفاء ذهني وحيوية كبيرة، لكنه لا يستقبل زوراً في منزله، كما يتجنب وسائل الاعلام، ويفضل حياة العزلة كدأبه دائماً.

عاش سولجنيتسن سنوات مريرة في المنافي والسجون داخل بلاده، وهو أمر جعله يركن الى الصمت والتأمل. وتبدو عيناه دائماً هاربتين، ولحيته البيضاء الكثة دائماً دون تشذيب، وشعر رأسه هو الآخر ظل يبدو وكأنه قد نهض للتو من فراش النوم.

بدأت شهرة سولجنيتسن عندما سلط الضوء على معسكرات العمل الاجبارية التي عرفت في تاريخ الاتحاد السوفياتي باسمها المرعب «غولاغ». وتناول سولجنيتسن في كتاب بهذا الاسم نفسه مرحلة مأساوية فى التاريخ السوفياتى، حيث وصف فيه عمليات التعذيب والمعاناة الشديدة في تلك المعسكرات. وقد كان رأياً نشرته صحافية تعمل في صحيفة «واشنطن بوست» بشأن التعتيم على ما ارتكب في تلك المعسكرات من جرائم مما أثار ضجة وجدلاً كبيراً في اميركا. إذ اشارت الصحافية الى انه لم يعد هناك أي اهتمام بمعسكرات «غولاغ» عكس الاحتفالات المستمرة سنوياً حول ذكرى معسكرات النازيين ضد اليهود. وقالت في مقالها الذي أثار جدلاً إن معسكرات الاعتقال والتعذيب السوفياتية سبقت من حيث التوقيت معسكرات تعذيب اليهود، وهي كذلك أكثر هولاً وفظاعة. وتناولت بالتفصيل الاساليب التي اتبعت مع الناس في عهد ستالين من أجل ان يصبحوا شيوعيين رغما منهم. وجلب كتابه عن «غولاغ» للكاتب الروسي أمرين متناقضين، فقد منح بسبب ذلك العمل الأدبي جائزة نوبل للآداب عام 1970، ثم نفيَّ بعد أربع سنوات خارج البلاد.

ولد سولجنيتسن، وهو من أصول قوقازية، في ديسمبر (كانون الاول) عام 1918 في بلدة كيسلوفودسك في روسيا. ذهبت والدته تايسيا سولجنيتسن مع بدء الحرب العالمية الاولى وكانت شابة في مقتبل العمر للدراسة في موسكو، حيث التقت هناك بالضابط الشاب آسكي سولجنيتسن، وسرعان ما حبلت الزوجة، لكن زوجها الشاب لقي مصرعه اثناء رحلة صيد. وتولت الأم وعمته تربية الطفل الكسندر في ظروف فقر مدقع، وتزامنت سنوات طفولته مع الحرب الاهلية الروسية، التي سبقت قيام الاتحاد السوفياتي وصودرت الممتلكات البسيطة للاسرة لصالح التعاونيات التي كانت تملكها الدولة وتعرف باسم «كولخوزات».

يقول سولجنيتسن عن تلك السنوات الحرجة «كانت أمي تقاتل من أجل ان نعيش واستطعنا ان نبقي سجل والدي كضابط في الجيش الامبريالي سراً دفيناً، وظلت والدتي تشجعني حتى رحيلها عام 1940، على مواصلة دراسة الآداب والعلوم».

درس سولجنيتسن الرياضيات في جامعة رستوف، في حين كان يتلقى دروساً بالمراسلة من «معهد موسكو للفلسفة والآداب والتاريخ». وخلال الحرب العالمية الثانية ومثل جميع الشبان في سنه، انضم سولجنيتسن للجيش، حيث عمل ضابطاً في «الجيش الاحمر» وقائداً لموقع للمدفعية، وأبلى بلاءً حسناً في الخطوط الامامية اثناء تلك الحرب الى درجة انه قلد أنواطاً مرتين.

بيد ان هبوب المتاعب ستتبدأ والحرب على وشك ان تضع اوزارها، حيث سيكتب سولجنيتسن رسالة، وهو في شرق روسيا الى أحد اصدقائه يتهكم فيها الى حد الازدراء على الطريقة التي يدير بها ستالين الحرب على الرغم من انه لم يذكره بالاسم، مكتفياً بالاشارة اليه «الرجل صاحب الشوارب». تلك الرسالة ستؤدي الى اعتقاله. ووجهت اليه تهمة «بث دعاية مناهضة للاتحاد السوفياتي وإنشاء منظمة معادية». واودع سولجنيتسن سجن لوبيانكا في موسكو، حيث تعرض للاستنطاق تحت التعذيب، ثم حكم عليه بتمضية ثماني سنوات في معسكر للعمل (غولاغ) على ان يتبع ذلك بالنفي داخلياً.

وتنقل بعد ذلك في عدة معسكرات للعمل، وصب تلك التجربة الصعبة في اول عمل روائي ينشر له في الغرب، وكان بعنوان «الدائرة الاولى» الذي نشر عام 1968. وفي عام 1950 ارسل الى معسكر خاص بالسجناء السياسيين حيث عمل خلال تلك الفترة عاملاً في منجم وعامل بناء القرميد. ومن تلك التجارب، استوحى عمله «ذات يوم في حياة ايفان ديسنوفيتش».

ثم بدأت بعد ذلك سنوات النفي الداخلي، حيث ابعد عام 1953 الى اقليم كازخستان، وهناك اصيب بسرطان المعدة وأوشك على الموت بسبب عدم وجود العلاج. وسمح له عام 1954 بالعلاج في مستشفى بطشقند. وفي كل مرة، ومع كل محنة كان سولجنيتسن يجد في نفسه القدرة على كتابة التجربة. وهو ما حدث بالنسبة لتجربته مع المرض حيث كتب كتابه «جناح السرطان» وظهرت آثار وايحاءات المرض ايضاً في عمله الذي صدر تحت عنوان «اليد اليمنى» وكان عبارة عن قصص قصيرة.

وخلال هذه الفترة الصعبة من المعاناة مع المنفى والمرض، سيهجر سولجنيتسن الماركسية ويتجه لتعميق رؤاه الفلسفية والدينية، وترك ذلك التحول بصماتٍ واضحةٍ على الرجل الذي عرف ايضاً باسم «صاحب اللحية الطويلة».

كان سولجنيتسن يمضى نهاره خلال سنوات النفي في التدريس بمدرسة ثانوية، وفي الليالي الباردة لم يكن يغادر منزله وظل يكتب سراً بعض الاعمال التي نشرت لاحقاً. وقال عن تلك الفترة عندما نال جائزة نوبل «كنت اعتقد انني لن ارى ولو سطراً واحداً يطبع مما كتبت، كما انني لم اسمح حتى للمقربين مني خشية من ان يتسرب للسلطات الأمنية أمر الكتابة».

وعندما بلغ عمره 42 سنة، تجرأت مجلة روسية تسمى «نوفيا مير» ان تنشر له مخطوطة من عمله الروائي «ذات يوم في حياة ايفان ديسنوفيتش» وكان ذلك عام 1962، وهو اول عمل ينشر له داخل الاتحاد السوفياتي، حيث لم ينشر له أيُّ عمل آخر حتى عام 1990.

واثار ذلك العمل انتباهَ الغرب الى وضعية «معسكرات العمل» داخل الاتحاد السوفياتي، ولم يكن الاهتمام بها من الزاوية السياسية، لكن الغرب استقبلها بحب استطلاع جارف، لان ذلك كان اول عمل أدبي يخرج من الاتحاد السوفياتي لكاتب لا ينتمي للحزب الشيوعي السوفياتي، ويؤشر على ان هناك اموراًً كثيرة تحدث خلف جدران سميكة في الدول العظمى الثانية في العالم. ويعتقد كثيرون في الغرب أن «ذات يوم في حياة ايفان ديسنوفيتش» عمل مهد لنهاية فترة نيكيتا خروتشوف الذي أجبر على مغادرة السلطة عام 1964. وكان من المفترض ان ينشر «جناح السرطان» داخل الاتحاد السوفياتي لكن بعد موافقة «اتحاد الادباء والكتاب السوفيات». وعلى الرغم من أن بعض الادباء والكتاب نوهوا به فإن الجهات المعنية رفضت نشره في نهاية المطاف، مشترطة ان تحذف منه بعض المقاطع التي تشوه «سمعة الاتحاد السوفياتي» لكن سولجنيتسن رفض تشذيب عمله أو حذف مقاطع منه.

وفي عام 1965 صادرت أجهزة المخابرات السرية السوفياتية بعض مخطوطات سولجنيتسن، لكنه بالمقابل كان قد شرع في كتابة عمله الأهم على الاطلاق والذي سيصدر لاحقاً تحت عنوان «أرخبيل غولاغ»، وهو العمل الذي سيمهد له الطريق للحصول على جائزة نوبل. وصدر ذلك العمل في ثلاثة أجزاء، وهو يتطرق الى فترة كالحة تمتد من عصر فلاديمير لينين وحتى نهايات عهد ستالين، وهذا الكتاب هو الذي أدخل كلمة «غولاغ» الى قواميس اللغات الاوروبية والإنجليزية.

وبعد منحه جائزة نوبل للآداب ورفض سولجنيتسن الانتقال الى استوكهولم لتسلمها لأنه كان يخشى ألا يسمح له بالعودة من جديد للاتحاد السوفياتي. وعلى الرغم من معاناته المريرة داخل بلاده، فإن فكرة العيش في الغرب لم تكن تروق سولجنيتسن، حيث كان يعتقد ان خروجه من روسيا يمثل «خروج سمكة من بحيرة».

وكانت لجنة جائزة نوبل قد اقترحت ان تسلم له الجائزة داخل السفارة السويدية في موسكو، لكن الحكومة السويدية رفضت الفكرة، خشية ان يؤدي ذلك الى توتر العلاقات مع الاتحاد السوفياتي، لذلك لم يتسلم سولجنيتسن الجائزة الا بعد إبعاده من الاتحاد السوفياتي عام 1974.

في فبراير (شباط) عام 1974 تقرر طرد سولجنيتسن من الاتحاد السوفياتي الى المانيا الغربية بعد ان عثرت المخابرات (كي جي بي) على مخطوط «ارخبيل غولاغ». وبعد فترة في سويسرا، وجهت «جامعة ستانفورد» الاميركية دعوة الى سولجنيتسن. وجاء في الدعوة «يمكنك الانتقال إلى هنا رفقة اسرتك لمواصلة الكتابة». وأقام سولجنيتسن في ولاية فيرمونت، وخلال 17 سنة وبعد عزلة كاملة فرضها على نفسه، ألف كتاباً موسوعياً ضخماً صدر بعنوان «الثورة الروسية الحمراء».

بيد ان سولجنيتسن كان يأمل دائماً ان يعود الى وطنه روسيا، ولم يتسن له ذلك إلا عام 1994 حيث اعيدت له قبل ذلك باربع سنوات جنسيته، ثم عاد الى بلاده مع زوجته ناتاليا وبقي اولادهما في اميركا بعد ان حصلوا على الجنسية الاميركية. واتاحت له اقامته في الغرب توجيه انتقادات قاسية للشيوعية. وهو يرى أنها فشلت في روسيا ليس لأن البلاد سيئة، او بسبب الاوضاع الروسية، لذلك يقول «بدلا من إلقاء اللوم على الاوضاع الروسية لا بد من القاء اللوم على تعاليم كارل ماركس وفريدريك انجلز التي تدعو الى التغيير العنيف». واستنتج ان «الشيوعية ستكون دائماً شمولية وعنيفة وستؤدي الى النتائج نفسها التي حدثت في روسيا، اياً كان المكان الذي ستطبق فيه». وزاد «الفشل لم يكن روسياً على الاطلاق بل الفشل كان في الماركسية نفسها». ويرفض سولجنيتسن القول إن ستالين هو الذي جاء بالدولة الشمولية، في حين ان لينين وتروتسكي «كانا شوعييين حقيقيين». وهو يرى ان لينين هو الذي بدأ سلسلة الاعدامات الكبيرة حيث قتل آلاف الناس الابرياء، مشيراً الى انه هو الذي أسس الشرطة السرية (شيكا) التي تحولت في وقت لاحق الى «كي جي بي»، وهو الذي ابتكر فكرة معسكرات العمل التي اصبحت تعرف لاحقاً باسم «غولاغ». لم يقترب أحد من سولجنيتسن عندما عاش في الولايات المتحدة وكان ضنيناً بافكاره ورؤاه خارج كتبه. ويقول الذين عرفوه من خلال محاضراته ودروسه الجامعية إنه على المستوى الانساني كان رجلاً صعبَ المِراس يصعب فهمه، متحفظاً جداً، حذراً ومنطوياً على نفسه، قليل الانشراح. تثير نوعية مزاجه الاهتمامَ ويفرض على مخاطبه جهداً لفك ألغاز كلامه القليل جداً الذي كان يتحدث به. ومن الواضح ان سولجنيتسن ظل رجلا يحلق بفكره بعيداً. يفيض ذكاءً كما كان ذا ثقافة واسعة. وله طاقة مختزنة للبذل والعطاء. يولي كل فكرة جديدة بالغ اهتمامه. عاش منعزلاً في الأمكنة التي تنقل فيها سواء كانت مدناً أو قرى أو جامعات او معتقلات وسجوناً، لكنه خلد نفسه في الزمان الروسي، وفي ذاكرة الغرب.