جرائم عصر العولمة

تعددت أشكالها في لبنان.. والخبراء الدوليون يحصون 43 نوعاً منها عابراً للقارات

TT

منذ محاولة اغتيال الوزير والنائب اللبناني مروان حمادة، وما تلاها من اغتيالات بدأت مع الرئيس رفيق الحريري، ولم تنته مع النقيب في قوى الامن الداخلي وسام عيد، دخلت الجريمة المنظمة، كما الجريمة الارهابية البحتة، صلب الحياة اليومية في لبنان، على غرار العديد من مناطق العالم. وتمثل هذه الجريمة غالبا جانبا خفيا يتخذ شكل التمويل المتستر، او التنظيم السري.

والحقيقة ان تبييض الاموال، الذي كان يغطي سابقاً تجارة المخدرات التقليدية او تجارة السلاح «تطور» ـ اذا امكن القول ـ ليشمل الدعم العملاني والمادي والتمويلي للاعمال الارهابية بأشكالها المختلفة. لا ندري حتى الآن اذا كان هناك رابط بين افلاس «بنك المدينة» واغتيال الرئيس الحريري. وهو ما يمكن ان تكشف عنه المحكمة الدولية التي تنظر في ملابسات هذه الجريمة. وتنصب جهود المحللين السياسيين والمحققين ورجال القانون في الوقت الراهن على كشف العلاقة بين منظمة «فتح الاسلام» وأي منظمات تمويلية سرية تتبع اساليب معقدة في تبييض الاموال.

ومنذ ان وضع لبنان على قائمة الدول المتهمة بتبييض الاموال، وهو يبذل جهودا كبيرة في هذا المجال، ولاسيما من خلال تبني قوانين حديثة وصارمة في مكافحة هذه الظاهرة، الامر الذي ادى الى شطبه من القائمة السوداء ليأخذ مكانه، في الأقل على المستوى التشريعي، بين الدول الحديثة.

وتعتبر السيدة جنان فايز الخوري، في اطروحة لها لنيل شهادة دكتوراه دولة «ان هناك نحو 43 نوعاً من الجرائم المنظمة بحسب الخبراء الدوليين.. وتنمو هذه الآفة الخطيرة، بقدر خطورة الجرائم الارهابية البحتة، مع تقدم العولمة. وهي أشد خطورة واثارة للقلق من الثغرات القانونية التي تحاول بعض الدول الاوروبية تلافيها».

ومن خلال انكبابها على هذه الجرائم «الحديثة» التي تواكب عصر العولمة، كالجرائم الالكترونية وتجارة الأطفال والأعضاء البشرية والمخدرات والسلاح والأدوية وظاهرة تبييض الاموال، ترى السيدة الخوري «ان تأثيرات هذه الجرائم ضخمة لعدم وجود مجموعة قوانين تحددها والعقوبات عليها حتى الآن، ليس في لبنان فحسب، بل على المستوى الدولي ايضا» مع انه من الصعب تقديم البراهين الحسية في حالة الجريمة الالكترونية، بصورة خاصة. غير ان بلجيكا وعدداً من الدول الاوروبية الاخرى بنسبة اقل، وضعت قوانين لمكافحة تبييض الاموال او تجارة الاشخاص. وبفعل طبيعة هذه الجرائم «العابرة للقارات»، والتي ترتكب في اكثر من ساحة وأكثر من قارة، فان تبني المعاهدات والبروتوكولات والاتفاقات الدولية بات امرا لا مناص منه، مع ضرورة انكباب الدول على وضع التشريعات المحلية المناسبة. ويشهد لبنان، مثل غيره من البلدان، طفرة في استخدام الانترنت. ولطالما «انخرط» المستخدمون من دون علمهم في مثل هذه الجرائم. وتقول الدكتورة الخوري: «كم من مرة وقع نظرنا ونحن نستخدم الانترنت على رسائل تخبرنا اننا كنا الرابحين في يانصيب خيالي. وتطلب منا رقم حسابنا المصرفي او معلومات اخرى يمكن استخدامها في اغراض اجرامية؟».

وعلى رغم الفوائد الجمة للانترنت على صعيد «شعبنة» المعلومات والاساليب التربوية والثقافية، فانها اصبحت في الوقت نفسه الداعم بامتياز للجرائم المنظمة والجرائم الارهابية وانتشار ثقافة الموت والرعب كما نلاحظه في اغلب الاحيان على مواقع «القاعدة». وليس التسجيل الذي بثه زعيم «فتح الاسلام» على موقع «اخلاص» منذ اسابيع قليلة داعيا فيه «المؤمنين» الى «الجهاد» ضد قائد الجيش، العماد ميشال سليمان و«جنوده الكافرين» سوى خير تعبير عن استغلال وسائل الاتصال الحديثة لأغراض إجرمية. وفيما تخصص الخوري جزءاً مهماً من اطروحتها للجرائم الالكترونية، تشدد على ضرورة اعداد المحققين والقضاة الشباب اكثر فأكثر للتصدي لمثل هذه الملفات، علماً «ان هذه الجرائم شديدة الخطورة لكون انتشارِها غير محدود، ويمكن ان تصيب الملايين من مستخدمي الانترنت في العالم». وتذكر في هذا المجال «ان مسؤولية تحسين ظروف المراقبة والتحكم في هذا القطاع، الذي يتطور بسرعة هائلة، يفرض بالدرجة الاولى على المجتمع الدولي، وعلى رأسه الامم المتحدة، العمل بلا انقطاع لوضع معاهدة دولية تتعلق بمكافحة تبييض الاموال بصورة خاصة».

وتلاحظ ان مجموع النشاطات غير المشروعة والارهابية التي ترتكب في اطار ما يسمى الجرائم المنظمة اتسع نطاقها، وباتت من الخطورة بحيث لم تعد الدول قادرة على تجاهل هذه الظاهرة التي تنتشر كالطاعون. إلا انه يبقى ان نعرف ما اذا كانت الجهود المبذولة حالياً في مجال التشريع ومراقبة تبييض الاموال بصورة خاصة، لا تستند الى اعتبارات الامن الوطني، والاستراتيجية السياسية المحددة من اعلى دوائر الدولة، كما هو حاصل في الولايات المتحدة التي تقرر غالباً بعض العقوبات الاقتصادية الدولية «لأسباب سياسية اكثر منها قانونية».

وكرست جنان الخوري، بكونها متخصصة في القانون الجزائي والاقتصادي الدولي، فصلاً كاملاً للجرائم البيئية التي ادرجتها في اطار الجرائم الاقتصادية الدولية والتي تصفها بأنها «جرائم عابرة للقارات»، ولذلك «لا تكفي القوانين المحلية للتصدي لها، بل ينبغي وضع معاهدة دولية جزائية تكون لها قوة القانون في كل الدول». وتضيف انه «ينبغي عدم حصر الجرائم البيئية بالتلوث»، فهناك خطر الارهاب البيولوجي، كالاستخدام المكثف للسلاح وغير ذلك». وتدل احصاءات المنظمة العالمية للصحة ان عدد وفيات الاطفال الناتجة عن مشكلات بيئية، ارتفع الى نحو 200 الف طفل سنوياً، بصرف النظر عن ستة ملايين طفل في حالات الاصابة. وتستنتج انه لا يوجد على المستوى الدولي قانون جزائي للبيئة، وان المعاهدات الدولية القائمة خالية من المنحى الجزائي إلا ما يتعلق بالقانون البحري. وتقول: «هناك نقص في التوعية على مستوى السلطات في معظم الدول، او ان المصالح الكبرى والخاصة هي التي تحول دون ملء هذه الفجوة». ويمكن للمعاهدة الجزائية الاوروبية للبيئة ان تقود الى وضع معاهدة دولية في هذا المجال او «على الاقل، ترسيخ القناعة بأن الجرائم البيئية هي جرائم فعلية، وليست قدراً ناجماً عن نزوات الطبيعة. ويمكن لهذه المعاهدة ان تربط البيئة بالجزاء». وتكشف ان «هذه الجرائم مادية وقابلة للمحاكمة الجزائية، سواء كانت هناك نية للضرر او لا من قبل الاشخاص المرتكبين او المؤسسات المتورطة».

وتعتبر الخوري أنه في حال تبني معاهدة دولية مماثلة، ينبغي تطبيقها في الدول الموقعة عليها لأن لها الاولوية على القوانين المحلية «فهناك كثير من الجرائم يستدعي تعاوناً دولياً، وليس هناك من لزوم لمعاقبة المسؤولين محلياً». وتورد في هذا المجال مثل الشركات المتعددة الجنسية، والجدل الدائر حول معرفة ما اذا كان ينبغي اللجوء الى عمل ضد فرع في بلد معين (حيث وقعت الجريمة)، او ضد الشركة الأم. وتأكيداً لفاعلية المعاهدة الدولية المرجوة، تقترح الخوري إحداث ذراع تنفيذي لها يمكن ان يطلق عليه اسم «الشرطة الخضراء».

غير ان ابراهيم وردة، الاختصاصي في التمويل الاسلامي، والاستاذ في جامعة «تافتس» في ولاية ماساشوستس الاميركية، يرى في كتابه الجديد الذي نشر في باريس، بالتعاون مع «لوموند دبلوماتيك» تحت عنوان «ترويج استعماري وحرب مالية ضد الارهاب» عكس ما تراه الدكتورة الخوري، اذ يفصل بين تبييض الاموال وتمويل الارهاب، بعكس ما هو حاصل منذ احداث 11 سبتمبر (ايلول). ويقول: «ان تبييض الاموال يقضي بإخفاء مال الجريمة في النظام المصرفي الدولي. وهو يعتمد بصورة اساسية على الحروب المتتابعة ضد الجريمة المنظمة ومافيات المخدرات. وهكذا ينسب (التبييض) الى الجرائم القذرة، ويفترض وجود دوائر مهمة».

اما في ما يخص تمويل الارهاب، فيقول وردة: «ان الامر لا يعني مبالغ مهمة ولا جرائم قذرة، انما جرائم آيديولوجية وسياسية. والاموال المنفقة على جرائم الارهاب غالباً ما تكون قليلة، وحتى غير ذات شأن»، مشيراً الى ان احداث 11 سبتمبر لم تصل كلفتها الى 300 الف دولار. وهو المبلغ الذي ارسل لتلبية حاجات 19 انتحارياً. وهجمات مدريد وبالي (في اندونيسيا) والدار البيضاء كلفت 20 الف دولار فقط. فيما كلفت هجمات لندن في يوليو (تموز) 2005 اقل من ألف دولار. ومن هنا يرى المؤلف «ان الحملة ضد الجمعيات الخيرية الاسلامية تعطي الانطباع بانها حرب ضد الارهاب، لكنها في واقع الحال حرب ضد الاسلام». ويبدو مقتنعاً بأن التدفقات المالية يمكن ان تلعب دوراً اساسياً في الصراع ضد الارهاب بشرط استخدام ذلك بطرق ذكية وفاعلة وغير مسيسة، معطياً مثلاً على ذلك نظام «سويفت» في بلجيكا الذي يراقب كل التحويلات الدولية بين المصارف، وهو ما استخدمته الحكومة الاميركية (وزارة المال ووكالة الاستخبارات) «وهذا ما يعرفه الارهابيون، ولذلك يعرفون فعلاً ماذا عليهم ان يتجنبوا لكي لا يوقظوا انتباه «مقاتلي المال». وفي ضوء ذلك، يرى وردة ان معظم الاموال المخصصة لتمويل الارهاب تتم بواسطة «التمويل المموه والباطني».

ويستغرب الكاتب تقدير ثروة اسامة بن لادن بـ 300 مليون دولار، التي اعتمد فيها تقسيم ثروة «مجموعة بن لادن» المقدرة بـ 5 مليارات دولار على ابناء بن لادن العشرين. وعلى اساس هذه التقديرات، جمدت حسابات الكثيرين. واتخذت اجراءات ضد الجمعيات الخيرية الاسلامية. لكن بعثة اميركية رسمية عمدت عام 1999 الى التدقيق في حسابات بن لادن، فتبين لها ان اشقاءه طلبوا منه، منذ عام 1994، ان يبيعهم حصته المقدرة آنذاك بما بين 20 و30 مليون دولار، ما لبثت السلطات السعودية ان وضعت يدها عليها. ويستخلص الكاتب من ذلك ان اسامة بن لادن لم يكن ممولاً للارهاب، بقدر ما كان وعاء للاموال المرسلة اليه من شبكات دعم مهمة في العالم.