الإعلام.. المسؤول الأول؟

الأمم المتحدة ترعى «آلية رد سريع إعلامية» لمواجهة التطرف والأزمات الثقافية

TT

عنصران جعلا الأزمات المتعلقة بالثقافات والإساءة الى بعضها ظاهرة من ظواهر القرن الحادي والعشرين. وأول عنصر يعود الى التطور التقني حول العالم الذي أصبح قرية صغيرة من خلال شاشات التلفزيون والقنوات الفضائية التي توصل أي حدث في أقصى غرب الكرة الأرضية الى اقصى شرقها خلال دقائق. اما العنصر الثاني فهو يعود الى الهجرة والسفر المتصاعد والذي جعل الثقافات تختلط في مدن وقرى حول العالم. وعلى الرغم من القيم المشتركة الكثيرة التي تجمع ثقافات حول العالم، هناك فوارق في التقاليد والمفاهيم الدينية والسياسية أدت الى أزمات عدة في تصادم بعض ابناء وبنات تلك الثقافات.

واعترافاً بوجود مثل هذه الأزمات والعمل على التصدي لها، ولدت منظومة «تحالف الحضارات» قبل 4 أعوام وتوسع عملها تحت راية الأمم المتحدة، لتخصص الكثير من جهودها على القنوات التي تسمح بتحالف الحضارات، أو انقسامها. وبرز الإعلام كأبرز هذه القنوات، مما دفع مسؤولين من مختلف الدول، مثل وزير خارجية تركيا علي بابكان الى وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد، الى تحميل الصحافيين مسؤولية تطور الازمات الثقافية، واحياناً حتى توليدها.

وتحت عنوان «المنتدى الأول لتحالف الحضارات»، عقد العشرات من المختصين بالشؤون الاعلامية والدينية والسياسية اجتماعات لبحث سبل التصدي للتعصب الثقافي الذي يسود مناطق مختلفة من العالم في منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي. ودارت النقاشات على مدار يومين في مدريد حول مسؤولية الاعلام في الازمات التي شهدها العالم أخيرا والمتعلقة بالدين والثقافة وعلى وجه الأخص الرسوم المسيئة للإسلام التي نشرت في صحف دنماركية. وخرج المنتدى، الذي استضافته الحكومة الاسبانية تحت رعاية الأمم المتحدة ، بتوصية تأسيس «آلية رد سريعة» لنشر التوعية عند نشوب مثل هذه الازمات ومساعدة الصحافيين على تناول القضايا التي قد تثار عن سوء معرفة أو فهم. واليوم يواجه العالم احتمال انتشار حالات عنف مشابهة لتلك التي اعقبت نشر الرسوم المسيئة للاسلام في فبراير (شباط) عام 2006، بعد الإعلان عن اقتراب موعد بث فيلم أنتجه النائب الهولندي المتطرف غيرت فيلدرز يسيء للإسلام مجدداً. وتجد منظمة «تحالف الحضارات» التابعة للأمم المتحدة نفسها امام ازمة جديدة قد يكون مفتاح حلها في يد الصحافيين حول العالم.

ومع رفع اصوات معارضة لعرض فيلم «فيلدرز»، تعود الانظار الى الجهات التي تعتزم تهدئة الأوضاع ومنع انتشار العنف في مواجهة القضايا الثقافية الحساسة. وأكد ايمانيول كتان، المسؤول في «تحالف الحضارات» التابع للأمم المتحدة، ان المنظمة الدولية منتبهة لقضية فيلم «فيلدرز» الذي يتناول آيات من القرآن الكريم بطريقة مسيئة، ولكنها لا تريد ان تستبق الاحداث بالحديث عنه قبل ان يعرض. وأضاف في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «الكثير من هذه القضايا تظهر بسبب سوء فهم مبني على عدم ثقة»، معتبراً ان للاعلاميين «دوراً مهماً في نشر المعرفة».

وشرح كتان ان «الرؤية وراء آلية الرد السريع مكونة من اعمدة عدة، بما فيها الموقع الالكتروني للتواصل مع الخبراء، وهي آلية تساعد الصحافيين على مقابلة أخصائيين في مجالات معينة وخاصة بالمعرفة الثقافية». وقد أطلق الموقع الالكتروني لـ«البحث عن الخبراء العالميين» (Global Expert Finder) الشهر الماضي ويوجد فيه العشرات من الخبراء من المجالات الاعلامية والسياسية والأكاديمية، على امل ان يتوسع ويضم عددا اكبر من الخبراء في الأشهر المقبلة.

وقال كتان ان الجانب الآخر من «آلية الرد السريع» يتضمن «عملاً ديناميكياً من تحالف الحضارات لتوليد المعرفة والمساعدة في نشر مقالات الرأي في مطبوعات حول العالم من شخصيات عالمية مرتبطة أو على علاقة بتحالف الحضارات». واضاف: «انه من المفيد توصيل افكار المعتدلين والمختصين في اوقات الازمات الثقافية». ويذكر ان «تحالف الحضارات» بدأ بمبادرة اسبانية وتركية بين عامي 2004 و2005، قبل ان تعلن الامم المتحدة عام 2005 رعايتها من اجل دعم «تحالف الحضارات» والتصدي لما سمي بـ«صراع الحضارات» على الذي شاع بعد نشر الكاتب اليميني الأميركي سامويل هانتينغتون الذي حمل العنوان نفسه. وتعتبر «آلية الرد السريع» المتعلقة بالإعلام ضمن مساعي المنظمة الدولية لمنح «فرصة لتطوير الافكار المتعلقة بالتصدي للتطرف والانقسام في العالم»، بحسب كتان.

ولكن هناك اعلاميين يعتبرون ان فض النزاعات وحل سوء التفاهم حول القضايا الحساسة ثقافياً لا تقع على عاتق الإعلامي، الذي تعتبر مهمته الاولى تغطية الحدث نفسه. ولفت الصحافي البريطاني ريتشارد بيستون، محرر الشؤون الخارجية في صحيفة «التايمز» البريطانية الواسعة الانتشار الى ان «مهمة الصحافي ليست التهدئة، كما يجب الا تكون التصعيد، بل نقل الاحداث والتطورات، واذا كانت هناك تهدئة فقلما تتم تغطية حدث التهدئة أو الركود، بل ان معنى الاخبار بحد ذاته يعني تغطية المتغيرات والاحداث الساخنة». ولكنه اضاف «ان من مسؤولية الاعلاميين اظهار الآراء المختلفة لهذه القضايا، وعدم التركيز فقط على اقليات تجلب الانظار اليها بسبب آرائها المتطرفة». وتابع في حديث مع «الشرق الاوسط»: «هناك حاجة للخبراء خاصة في ما يخص القنوات التلفزيونية الاخبارية التي تبث على مدار 24 ساعة، مما يعني انها تحتاج الى متحدثين كثيرين، ومن الأفضل ان تعطى الفرصة لمن لديه المعرفة الخاصة بالحديث بدلاً من المهتمين فقط بالاثارة». ولفت كتان الى ان «مسؤولية الصحافيين تتراوح بين قضية وأخرى ولكن الشيء المهم كيف يتعامل الصحافي مع تطور الأزمة ودوره فيها». وأضاف: «الكثير من الازمات تنشب عن سوء تفاهم مبني على عدم ثقة بين مجتمعات مختلفة، يجب الا يعززها الصحافي»، موضحاً: «هناك ادوار ايجابية ايضاً للصحافي في تخطي ازمات الثقة وتعريف المجتمعات ببعضها البعض واظهار الخصال المشتركة بدلاً من التركيز فقط على الاختلافات التي يستغلها المتطرفون». وعما اذا يجب ان يحمل الصحافي أو الاعلامي مسؤولية اثارة الحساسيات بسبب ما ينشره أو يبثه، قال مدير مركز الإعلام الالكتروني في الجامعة الأميركية في القاهرة، لولارنس بانتك: «تحميل الإعلامي المسؤولية ربما عبارة شديدة بعض الشيء، خاصة اذا نرى ما يمكن ان يعنيه ذلك في الكثير من الدول العربية وبعض اجزاء العالم، ولكن بالطبع يجب ان يكون الصحافي على وعي بما قد تؤدي اليه تغطيتهم». وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: هذا لا يعني أنهم يجب الا يغطون القصص التي قد تثير غضب الجمهور، ولكن عليهم التفكير مرتين حول الطريقة التي يغطون القضية أو الاطار التي تصاغ فيها كي لا يزيدون التهديد». ولفت الى ان ذلك يأتي ضمن «الصحافة الجيدة»، بما معنى المهنية، موضحاً: «هناك بالطبع اختلاف جذري في رأي الكثير من الصحافيين العرب والغربيين عند طرح موضوع التغطية بطريقة حساسة، ولكن نشر صور مثيرة فقط للاثارة، مثلما حصل مع الرسوم، امر غير مسؤول». وتابع: «لأن حرية التعبير تعطيني حق صرح «نار» وسط مسرح مزدحم، لا يعني انه يجب ان افعل ذلك، والأمر ينطبق على قضية نشر الرسوم». وعلى الرغم من استمرار تداعيات ازمة الرسوم المسيئة، هناك بوادر ازمة جديدة بين الدول ذات الغالبية المسلمة والدول الغربية بسبب فيلم النائب الهولندي اليميني فيلدرز، المتوقع عرضه نهاية الشهر الجاري. ورداً على مطالبة دول اسلامية عدة، بينها مصر وايران، بعدم عرض الفيلم المثير، استبعدت الحكومة الهولندية منعه. وقال رئيس الحكومة، يان بيتر بلكانندي، الاسبوع الماضي انه لا توجد رقابة مسبقة في هولندا. ويعتقد ان النائب سيعرضه على موقع على الانترنت استحدثه خصيصا لذلك، بعدما ابدت غالبية القنوات الهولندية تحفظها على نشر الفيلم. وهناك مخاوف من ان تداعيات عرض الفليم قد تشمل حالات عنف تستهدف المصالح الهولندية مثلما حصل تجاه الدنمارك في ما يخص الرسوم المسيئة للإسلام، مما جعل الحكومة الهولندية ان ترفع مستوى الحذر من الإرهاب الأسبوع الماضي. وعلى الرغم من الدور الأساسي للإعلام في نشر الأخبار وبثها، قلما تكون الوسائل الإعلامية هي المسؤولة الأولى عن حالات عنف أو أذى بعيد المدى ينشب عن الأزمات الثقافية. ولكن لفت بيستون الى ان «كيفية التعاطي مع قصة او خبر معين قد تكون جوهرية في التصدي لسوء فهم يؤدي الى صدام».

وفيما يخص «آلية الرد السريع» الإعلامية لمواجهة الأزمات الثقافية، قال بينتك: «لا يمكن لنا دوماً ان نرى الازمات قادمة، ولكن كثيراً ما يحصل ذلك. وفي هذه الحالة، لدينا، نحن كصحافيين، ان نفكر بدلاً من ان نعمل فقط كرد فعل». وأضاف: «علينا ان نفكر كيف يمكن لنا ان نغطي هذه القصة بطريقة عادلة ومتزنة من دون تأجيج الامور وجعلها اسوأ ـ ولكن من دون ان نمنع انفسنا من العمل». وتابع: «عادة ما تعود المسألة الى اختيار الكلمات والصور، بالاضافة الى اختيار الشخصيات التي سنستضيفها». ولفت كتان الى ان تقنية الانترنت تعني انتشار مثل هذه القضايا بسرعة كبيرة، مما يصعب من احتواء ردود الفعل عليها. ولكنه أضاف ان «تحالف الحضارات»: «اخذ يتحرك على اصعدة عدة في هذه القضية، بما فيها دعم الأوصات المعتدلة والتي ابدت رغبتها في التعليق على الفيلم في حال تم عرضه». وتابع ان هناك «قيادات شابة مرتبطة بتحالف الحضارات ابدوا رغبتهم في التواصل مع الشباب حول هذه القضية، ولكن علينا الانتظار حالياً». وأكد كتان: «كلنا نتحمل مسؤولية لمعرفة جذور النزاعات والمشادات الثقافية ومثلما نستفيد من الاعلام العالمي، علينا المشاركة فيه ايضاً لاظهار اصوات الاعتدال وتوسيع المعرفة». وبالطبع المواضيع الشائكة والحساسة ليست ظاهرة جديدة طرأت فجأة على الساحة الدولية، كما انها ليست مختصرة فقط على العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين. ولفت كتان الى قضية «سكينة كيربان» الخاصة بالسيخ والتي ترتدى علنا بين السيخ. وقد اثارت هذه السكينة ضجة في كندا بعد رفض اوساط كندية السماح للسيخ بحملها. وشرح كتان: «نحن نعيش في قرية عالمية، حيث المعلومات تتناقل بسرعة كبيرة ومن دون الحاجة الى اوساط رسمية أو حتى وسائل اعلام واسعة الانتشار، مما يؤدي الى تضخيم بعض الامور». وفي وقت ينتظر القائمون على «آلية الرد السريع» تداعيات عرض الفليم الهولندي ويترقبون أية ازمات ثقافية اخرى قد تظهر فجأة على الساحة الدولية، يبذلون جهوداً وراء الكواليس لـ«نشر التوعية واعطاء النماذج الحسنة للتعايش»، بحسب كتان. وخلص الى القول: «يجب الا يعتمد عملنا، وجهودنا كلنا، على التعايش السلمي على نشوب ازمة ثقة أو ثقافة، بل علينا العمل يومياً على مد الجسور وبناء الثقة بين المكونات المختلفة التي تجعل العالم ثرياً بالثقافات والمعتقدات المختلفة».