التنافس على الدولار

تمويل الحملات الانتخابية الأميركية يثير التساؤلات.. كيف تجمع الأموال؟ وفيما تصرف؟.. وكيف تراقب؟

TT

جمع باراك أوباما المرشح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية في مارس (آذار) الماضي مبلغ 40 مليون دولار، حسبما ذكر مشرفو حملته الانتخابية، متفوقا على منافسته هيلاري كلينتون على الفوز بترشيح حزبهما الى انتخابات الرئاسة الاميركية، التي حصلت على 20 مليونا. فيما واصلت الحملة الديمقراطية المحتدمة تحطيم الأرقام القياسية الخاصة بجمع التبرعات. وقالت كلينتون «كلانا يجمع مبالغ طائلة. لدي ما يكفي من الاموال للمنافسة. السناتور اوباما لديه بوضوح أموال أكثر من كافية للمنافسة».

وقال مسؤولو حملة أوباما أن أكثر من 442 ألف شخص ساهموا بتبرعاتهم خلال الشهر الماضي، بينهم 215 ألف فرد تبرعوا لأول مرة، ليتجاوز بذلك عدد المتبرعين لحملة أوباما الانتخابية حتى الآن مليون شخص. ومن جانب آخر، ذكر مسؤولو الحملة الانتخابية لكلينتون ان الشهر الماضي كان «ثاني أفضل شهر في ما يخص جمع التبرعات حتى الآن». وجمعت كلينتون 35 مليون دولار في فبراير (شباط) الماضي. ومثلما يتنافس المرشحان الآن، على عدد الاصوات، فانهما ايضا يتنافسان على جمع التبرعات.

قبل اربع سنوات، اصدر بروس ايكرمان، كتاب «التصويت بالدولارات». وقبل سنتين، اصدر مارك غرين كتاب «شراء الذمم: كيف تشترى الشركات الانتخابات، وتحصل على عقودات حكومية؟». وقبل ثماني سنوات، اصدر جفري بيمبوم كتاب «رجال المال: القصة الحقيقية عن تأثير التبرعات على السياسة». وقبل خمس سنوات، اصدر هنري ماكولاكي كتاب «مقابلة وجها لوجه: الفرق بين الذي يتبرع والذي لا يتبرع». يعني هذا ان النقاش حول تأثير الأغنياء على السياسيين يظل جزءا من النقاش الأميركي. وتثير مثل هذه العلاقات بين السياسيين والأغنياء كثيرا من الشكوك، حتى اذا كانت قانونية. لكنها كانت، ولا تزال جزءا من العمل السياسي في اميركا. وتظهر خاصة خلال الحملات الانتخابية، لأن السياسيين يحتاجون الى التبرعات. ولأن الأغنياء لا يرفضون، ما داموا يستفيدون عندما يفوز السياسيون (رغم ان السياسيين ينكرون ذلك). لا يقول اي شخص ان التبرعات خطأ. لكن، يتفق كل الذين يتناقشون في الموضوع على شيئين: أولا: يجب ألا تؤثر التبرعات على نزاهة السياسيين. ثانيا: يجب ان تكون هناك شفافية سواء من جانب الأغنياء أو من جانب السياسيين.

ولكن في المقابل، لماذا يحتاج المرشحين الى التبرعات؟ والإجابة البديهية تقول: ليصرفونها على حملاتهم الانتخابية.. وتشمل أولا: تنقلاتهم، تحركاتهم، تذاكر السفر، فنادق، طائرات، حافلات، قاعات محاضرات وندوات.

ثانيا: على موظفين يخططون وينفذون، وعلى جمعيات ومنظمات تشترك معهم في الحملة الانتخابية.

ثالثا: على اعلانات في التلفزيونات، والصحف، والاذاعات، وفي لوحات، وملصقات، ومواقع في الانترنت.

يأتي ثلث التبرعات للانتخابات من افراد. ويسمى «هارد موني» (مال مباشر). ويحدد القانون الحد الأقصى لتبرعات هؤلاء بألفي دولار لأي مرشح، وثلاثين الف دولار لأي حزب، وخمسة آلاف دولار لأي جمعية سياسية (لوبي)، على الا تزيد الجملة عن مائة الف دولار كل سنتين. ويأتي الثلث الثاني من جمعيات تسمى «باك» (العمل السياسي). تتكون هذه حسب انتماءات عرقية، مثل جمعيات للسود. او مهنية، مثل شركات التأمين. او سياسية، مثل اصدقاء اسرائيل. واشهر هذه «ايباك»، جمعية العمل السياسي الأميركي ـ الاسرائيلي.   ومثلما حدث في حالة الافراد، قالت المحكمة العليا ان الدستور يسمح لأي أناس بأن يكونوا اي جمعية ليتبرعوا لأي سياسي. لكن، يحدد القانون الحد الأقصى لتبرعات هؤلاء بخمسة آلاف دولار الى كل مرشح. وخمسة عشرة ألف دولار الى كل حزب. وخمسة آلاف دولار الى جمعية أو منظمة اخرى.  ويأتي الثلث الثالث من التبرعات من شركات ونقابات العمال. ويسمي «سوفت موني»، مال غير مباشر.  والسبب هو ان القانون يمنع هؤلاء من التبرع مباشرة الى السياسيين. ومن ان يعلنوا انهم مع هذا المرشح، او  وضد ذلك المرشح.  لكن، يسمح القانون لهؤلاء بان يتبرعوا الى «موضوع» يهمهم. اي انهم يقدرون على ان يتبرعوا الى المرشح الذي يؤيد «الموضوع». وليفوز الموضوع او يسقط. ولكن، ليس المرشح. وهكذا، يظهر واضحا ان القانون لم يقدر، حتى الآن، على حل مشكلة «شراء السياسيين». ولم يقدر على وضع خط فاصل بين تأييد «موضوع» وتأييد شخص.

يختلف الحال بالنسبة لانتخابات رئاسة الجمهورية، والانتخابات التمهيدية التي تسبقها. هنا، يسمح القانون للحكومة بأن تدفع نسبة كبيرة من تكاليف هذه الحملات الانتخابية بشرطين هامين: اولا: لا يجمع المرشح اكثر من كمية محددة من التبرعات المباشرة. ثانيا: لا يصرف المرشح اكثر من مبلغ معين في الحملة الانتخابية.   لكن، مع زيادة دور المال في الانتخابات، ومع زيادة رغبة الاغنياء في كسب السياسيين، رفض كثير من المرشحين لرئاسة الجمهورية التمويل الحكومي. لأنه اقل. ولأن شروطه صعبة. ولأن إغراء المال قوي.

في هذه الحملة الانتخابية التميهدية، رفض كل من السناتور اوباما والسناتورة هيلاري كلنتون الاعتماد على التمويل الحكومي. ولهذا، يتنافسان الآن، ليس فقط على عدد الاصوات، ولكن، ايضا، على جمع التبرعات.  هذه ظاهرة جديدة، لان مرشحي الحزب الديمقراطي كانوا، دائما، يعتمدون على التمويل الحكومي، بينما كان مرشحو الحزب الجمهوري يعتمدون على التمويل الخاص لأنهم اكثر عطفا على الشركات.

مثل الرئيس بوش، في انتخابات سنة 2000، رفض التمويل الحكومي لانه كان يعرف ان الجمهوريين والشركات الكبيرة التي تعطف على الجمهوريين، تقدر على ان تموله. لكن، الغريب ان السناتور جون ماكين، مرشح الحزب الجمهوري، اعتمد على التمويل الحكومي في الانتخابات التمهيدية. وربما ما كان سيفعل ذلك اذا كان تأكد بأنه سيفوز بالترشيح. لأنه، في السنة الماضية، مع بداية الانتخابات التمهيدية، كان في مؤخرة مرشحي الحزب الجمهوري، وقلت التبرعات الخاصة له، فاضطر لأن يلجأ الى التمويل الحكومي. لكن، لا يتوقع ان يعتمد على التمويل الحكومي في انتخابات رئاسة الجمهورية. ولا يتوقع ان يفعل ذلك مرشح الحزب الديمقراطي، سواء كان اوباما او هيلاري.

حتى اوباما، الذي كان يتوقع ان يكون «المرشح الفقير»، تفوق على هيلاري كلنتون، وعلى السناتور ماكين في حجم التبرعات. في السنة الماضية، سجل رقما قياسيا عندما جمع ستين مليون دولار خلال ستة شهور فقط. وهذه السنة، وحتى الآن، جمع مائة مليون دولار. وخلال شهر واحد، شهر يناير (كانون الثاني) جمع اربعين مليون دولار. وسجل رقما قياسيا لأي تبرعات لأي سياسي خلال شهر واحد. لكن، هناك ملاحظتان على التبرعات التي يتلقاها اوباما: اولا: جاءت اغلبيتها من تبرعات افراد (في حدود ألفي دولار للشخص). ثانيا: جاءت اغلبيتها عن طريق الانترنت. وجمع عشرين مليون دولار من الذين تبرعوا بأقل من مائتي دولار من الشخص الواحد. يوضح هذا ان اوباما والانترنت فتحا عهدا جديدا في تاريخ تمويل الانتخابات. وربما ستستفيد من ذلك جهود التغلب على عيوب التمويل الحالي.

تراقب هذه المهمة المستحيلة، مهمة عدم تأثير الأغنياء على السياسيين، لجنة الانتخابات الفدرالية. وذلك حسب قانون يجبر كل حزب وكل مرشح على تقديم بيانات مستمرة ومفصلة عن تبرعات الأفراد والشركات والمؤسسات وجمعيات اللوبي لكل مرشح في كل انتخابات. في نفس الوقت، يتناقش الاميركيون في امكانية التغلب على الخلط غير الأخلاقي بين المال والسياسة. وهناك برامج، مثل برنامج «كلين الكشنز» (انتخابات نزيهة). فقد وافقت ولايات (مثل: اريزونا، ومين، ونيومكسيكو) على تغيير طريقة التبرع للانتخابات.  وقررت الا يتبرع اي شخص بأكثر من خمسة دولارات فقط لأي مرشح، مقابل ان تتحمل حكومة الولاية تكاليف حملة المرشح. طبعا، من حق المرشح ان يرفض ذلك، ويعتمد على التبرعات. واذا قبل مرشح التمويل الحكومي، لكن رفض منافسه، وجمع تبرعات اكثر، تعوض حكومة الولاية الفرق. لكن، لا تقدر حكومات هذه الولايات فرض التمويل الحكومي على كل مرشح، لان ذلك يعارض الدستور. وقبل سنتين، بدأت محاولات في الكونغرس لتطبيق «الانتخابات النظيفة» على المناصب الفدرالية، سواء انتخابات اعضاء الكونغرس، أو رئاسة الجمهورية.

وهناك مشروع قانون «كلين الكشنز، كلين موني» (انتخابات نظيفة، تبرعات نظيفة) في مجلس النواب. تقول ديباجة القانون: «لأن النظام الحالي الذي يعتمد على التبرعات الخاصة يقدر ان يؤثر على النظام الديمقراطي. ولأن كثيرا من المواطنين يعتقدون انه حقيقة يفعل ذلك. ولأنه يؤثر على مبدأ «شخص واحد، صوت واحد». ولأنه يعطي الاغنياء فرصا اكثر من الفقراء.  ولأنه يجعل النواب اقل مسؤولية نحو ناخبيهم عنهم نحو الذين تبرعوا لهم».

لكن، لا يتوقع ان يوافق الكونغرس على القانون الجديد قبل انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) القادمة. وحتى يحدث ذلك، سيقدر السياسيون على جمع اكبر كمية من التبرعات الخاصة. لكن، اسفا، وكما قالت الديباجة، «يؤثر ذلك على النظام الديمقراطي» تأثيرا واضحا، لا يليق بأكثر دولة ديمقراطية في العالم.