موريتانيا: ««القاعدة في بيتنا»

الجماعات المتطرفة تمكنت من اتخاذ مواقع على الساحة بعد سنوات من الانتشار الصامت في صفوف مئات الشباب

عناصر من الشرطة الموريتانية لدى احتجازها عنصر مشتبه بانتمائه للقاعدة في ديسمبر الماضي (إ.ب.أ)
TT

شكل فرار أحد أبرز المتهمين في قتل أربعة سياح فرنسيين في ديسمبر (كانون الاول) الماضي، وما تلاه من عمليات اشتباكات مسلحة مع عناصر سلفية جهادية يعتقد أنها تابعة لتنظيم ««القاعدة» في المغرب الإسلامي»، منعطفا جديدا في موريتانيا، تلك الدولة الهادئة.. التي بدأت تثور وتنتفض.

وبعد اعتراف وزير الداخلية الموريتاني رسميا بوجود «القاعدة» في البيت الموريتاني لاول مرة، بعد نفي متكرر من الرئيس ولد الشيخ عبد الله، فان سياسيين ومثقفين هبوا لطرح مسألة التهديد الحقيقي لتنظيم «القاعدة» على أجندة البحث بوصفها أحد التحديات التي خرجت من نطاق التخمين إلى الواقع، وباتت معالجة الامر ضرورة قصوى يجب التعامل معها. وحسب هؤلاء فان الجماعات التكفيرية تمكنت من اتخاذ مواقع مكينة على الساحة الموريتانية بعد سنوات من الانتشار الصامت في صفوف مئات الشباب.

وشهد العقدان الأخيران من القرن الماضي انتشارا ملحوظا للأفكار المتطرفة التي تميل الى العنف في هذا البلد، الذي كانت تسيطر فيه مظاهر التصوف، ويتبع المسلمون المذاهب المتسامحة والتفسير الأشعري للعقيدة، وتنظر الأنظمة المتعاقبة على الحكم في هذا البلد إلى هذه الحركة من زاوية ضيقة، حيث لم يكن احتكاك المجتمع التقليدي بغيره من المجتمعات الإسلامية قويا بالدرجة التي تجعله يتأثر تأثرا شديدا بالمذهبية والطائفية، التي عرفتها أمم أخرى، لذا ظل الانطباع السائد أن الفكر التكفيري لن يجد أرضية مناسبة له في بيئة اشتهرت بالتسامح والصفح، إذ تتعايش الطوائف الإسلامية في هدوء منذ إنشاء الدولة الحديثة مطلع ستينات القرن الماضي.

يقول متخصصون، ان المشهد الديني تتجاذبه أطراف وتيارات سلفية معتدلة في مجملها وصوفية منتشرة بشكل واسع بين «الشناقطة»، الذين نشروا الإسلام في مختلف الدول الواقعة جنوب الصحراء، متكئين على المذهب الصوفي بطرقه المختلفة. وإذا كان مطلع الثمانينات من القرن الماضي قد شهد أول محاولات للتيارات الإسلامية للظهور، متشكلة من خريجي معاهد دينية درسوا في المشرق العربي، إلا أن نشاطها ظل مختصرا على الجانب العلمي الدعوي، من دون ان يفكر قادتها في تشكيل جماعات مسلحة لمواجهة السلطات الحاكمة في ذلك التاريخ، قياسا بما حصل في بلدان عربية عديدة كمصر والجزائر.

ويرصد متابعون للشأن الموريتاني، خارطة للاحتكاكات بين الأمن الموريتاني والتيارات الإسلامية، مشيرين الى ان اول احتكاك وقع في بداية التسعينات من القرن الماضي، رغم ان تلك الفترة تميزت بالتيارات الإسلامية المعتدلة والوسطية، وحاول بعض من قادتها ممارسة العمل السياسي عن طريق تشكيل أحزاب سياسية على غرار التيارات القومية والليبرالية التي تشكلت في تلك الفترة، ومع ذلك فان الساحة الموريتانية لم تخل من تجاذب بين أصحاب الفكر السلفي العلمي وشيوخ الطرق الصوفية من جهة، وبين الأنظمة السياسية التي خضعت لها البلاد من جهة أخرى، من دون أن تظهر علامات توتر خطيرة معها سوى بعض الاعتقالات المحدودة، التي غالبا ما تنتهي بإطلاق سراح من اعتقلوا، من دون أن يقدموا للمحاكمة. ومع أول إعلان عن التعددية السياسية في موريتانيا سنة 1991 تقدم عدد من رموز التيار الإسلامي (الإخواني) للحصول على ترخيص لإنشاء حزب سياسي يدعى «حزب الأمة»، وهي محاولة خرجت من رحم «الجبهة الإسلامية الموريتانية»، التي أسسها رموز حركة الإخوان المسلمين، لكن نظام ولد الطائع رفض حينها منح الاعتراف للحزب الجديد، وزج لاحقا بقادته في السجون ضمن حملة اعتقالات طالت مختلف أطياف التيارات الإسلامية، أعقبت تفكيك ما قال إنها «خلايا» كانت تستعد لتنفيذ أعمال إجرامية تؤدي لزعزعة الأمن.

وانقسم أصحاب فكرة دخول العمل السياسي إلى 3 أقسام، احدها اعتزل بشكل نهائي السياسة واتجه إلى مدارس التعليم الإسلامية التقليدية «المحاظر»، حيث مارس التدريس وإمامة المساجد، وعلى يديه درس غالبية معتنقي الفكر الإسلامي (السلفي) فيما بعد. وانضم قسم آخر لحزب المعارضة الرئيس اتحاد القوى الديمقراطية، الذي كان يتزعمه مرشح رئاسيات 1992 أحمد ولد داداه، بينما اختار القسم الثالث الدوران في فلك السلطة، ومن بينهم من يوصفوا بـ«القادة التاريخيين» لتيار الإخوان المسلمين لينضموا للحزب الجمهوري، الذي كان يتزعمه الرئيس الأسبق معاوية ولد الطائع في بداية عهد التعددية السياسية، الذي بدأ بدستور 1991.

ونال «التائبون» نصيبا وافرا من التعيينات في المصالح الحكومية في محاولة لردهم عما يشتغلون به من نشر لأفكار اعتبرتها السلطات مخالفة لتعليم الدين الإسلامي الصحيح وتجافي القيم والقوانين والأعراف السائدة في المجتمع، وحظي كل من بومي ولد ابياه ومحمد فاضل ولد محمد الأمين وابوبكر ولد احمد والمختار ولد محمد موسى وعثمان ولد الشيخ ابو المعالي، وكلهم قادة في الحركة الإسلامية، بمناصب وزارية ودبلوماسية في حكومة ولد الطائع وبقوا ملتزمين في إطار تلك الإستراتيجية حتى الانتخابات الرئاسية التي عرفتها موريتانيا عام 2003، حيث عاد ولد محمد موسى الى صف المعارضة داعما مرشحا التفت حوله أطياف سياسية وقومية لمواجهة ولد الطائع. وكانت خلافات في الحركة الإسلامية، التي منعت من تشكيل حزبها، قد اختارت من دعم المعارضة الموريتانية انذاك. ويعتبر ولد محمد موسى حاليا احد ابرز قادة حزب «التجمع الوطني للإصلاح والتنمية» ذي الخلفية الاسلامية.

وحسب مصادر مطلعة فان بعضا من الإخوان أسسوا حركة عرفت اختصارا باسم «حاسم»، في موريتانيا قبل أن تلاحقها أجهزة الأمن وتعتقل ابرز قادتها، واعترف من يعتقد أنهم رموز حاسم انذاك على شاشات التلفزيون الحكومي وعبر أمواج الإذاعة بأنهم كانوا يخططون للقيام باعمال تؤدي الى زعزعة الأمن وطالبوا السلطات بالصفح معتذرين عن تصرفاتهم.

الحكومات الموريتانية ظلت تتعاطى بحذر مع رموز التيارات الإسلامية الطامحة لتأسيس كيان سياسي، ودافعت الحكومة عن فكرتها في مواجهة التيارات الاسلامية، من خلال تأكيد إسلامية موريتانيا، من دون الحاجة الى تشكيل حزب يمثل هذا التيار. وهو وتر عزف عليه مختلف القادة الذين تعاقبوا على سدة الحكم، حتى تسلم الرئيس الحالي سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله مقاليد السلطة في انتخابات جاءت بعد سنتين من المرحلة الانتقالية التي قادها المجلس العسكري. وراوحت استراتيجية حكام موريتانيا في تعاطيها مع الاسلاميين بين العصا والجزرة في حق رموزها، فتارة تعتقلهم ثم تفرج عنهم تارة أخرى، وتعمل على استمالة قادتهم عبر تعيينات حكومية ومناصب دبلوماسية لهم.

وفي عام 1994 اشتبه نظام ولد الطائع في وجود خلايا متطرفة وشن حملة اعتقالات في صفوف التيار الإسلامي وأغلق العديد من المعاهد والجمعيات الخيرية، التي كانت تتلقى دعما من محسنين في دول خليجية تحت طائلة دور تلك المؤسسات في تعليم الشباب أفكارا متطرفة. وموازاة مع هذه التطورات كان العديد من الشاب الموريتاني قد عاد من معسكرات المجاهدين الأفغان، حيث شارك في قتال القوات السوفياتية في أفغانستان، وكان لتلك التجربة دور بارز في خلق جيل جديد من الحركة السلفية الجهادية، فقد تتلمذ على يد العائدين من أفغانستان شباب مغمورون اغلبهم فشل في الدراسة الأساسية، بينما لم يتمكن بعضهم من تغطية تكاليف الدراسة في فترة شهدت البلاد أزمة اقتصادية خانقة.

ويفسر يعقوب ولد محمد سالم، الكاتب المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية، ظاهرة التفاعل مع الأفكار السلفية الجهادية، بان شباب موريتانيا الذين تنتشر في صفوفهم البطالة يعانون من شظف العيش، اذ يرى ان الهوة بين الأغنياء والفقراء انعكست عليهم بعد ان استفاقوا على أبواب موصدة في وجوههم أمام تدني فرص التعليم والعمل. وتتفق الطبقة السياسية والمفكرون في موريتانيا على ان المنهج التكفيري غريب على المجتمع الموريتاني، ويدعو أئمة المساجد والفقهاء الى اتخاذ تدابير علمية وتثقيفية لمواجهة الظاهرة، وينأى قادة التيار الإسلامي في موريتانيا والذين سمحت لهم حكومة ولد الشيخ عبد الله بتأسيس حزبين حتى الان، هما حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية «تواصل»، الذي يرأسه الناشط الإسلامي جميل منصور. وحزب «الفضيلة» بزعامة عثمان ابو المعالي بأنفسهم عن ظاهرة الغلو والتطرف، بينما تحارب الاحزاب الليبرالية الأخرى السلفية التكفيرية بمختلف الوسائل. ويدعو حزب تكتل القوى الديمقراطية اكبر احزاب المعارضة الى تشكيل جبهة موحدة تضم الموالاة والمعارضة لمجابهة التطرف.

ويرجع أحمد ولد داداه زعيم المعارضة الديمقراطية في موريتانيا انخراط الشباب في الجماعات المسلحة الى الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها المواطنون، ويستغل مشايخ الصوفية مختلف المنابر لحث الشباب على الاعتدال والوسطية، ودعا الشيخ عبدالله بن بيه رئيس المركز العالمي للتجديد والترشيد ومقره في لندن، في ندوة احتضنتها نواكشوط أخيرا الى ضرورة استغلال وسائل الإعلام لمقارعة التكفيريين، وهو يطالب بحوارات فكرية بين أصحاب فكرة الجهادية والسلفيين السنيين، الذين يرون في الغلو والتطرف ظاهرة لا تمت للإسلام بصلة.

ويذهب فريق من الحقوقيين في موريتانيا إلى ضرورة سن قوانين عقابية رادعة للقضاء على المتطرفين. وبالفعل أدخلت تعديلات على القوانين الجنائية الموريتانة واستحدثت قوانين مكافحة الإرهاب لأول مرة خلال العام الماضي، ودعا الرئيس الموريتاني رموز التيارات السلفية العلمية إلى حوار بناء وفتح المجال أمامهم للتعبير عن آرائهم وناقش معهم السبل الكفيلة بمواجهة الغلو، وتعتمد السلطات الأمنية على استراتيجية مزدوجة عبر الإقناع «بالتي هي أحسن» والعقوبات الرادعة.

وكانت أول محاكمة للتيار الإسلامي في موريتانيا حدثت في مايو (ايار) 2007 حيث نجمت عن أحكام بتبرئة المعتقلين الإسلاميين باستثناء احد ابرز المطلوبين الآن للأمن الموريتاني الناشط السلفي الخديم ولد السمان، الذي فر لاحقا من السجن قبل سنة لتتأكد السلطات من وجوده هذه الأيام في موريتانيا، ويعتقد أن ولد السمان (24 سنة) هو العقل المدبر لعملية الهجوم ضد السفارة الإسرائيلية في نواكشوط والملهى الليلي المحاذي لها مطلع فبراير (شباط) الماضي، وكان قد تم منح سبعة من السلفيين حرية مؤقتة قبل بدء المحاكمة، من بينهم محمد سيديا ولد اجدود «النووي» ومحمد ولد أحمد زروق الشاعر وعبد الله ولد أمينو واحمد بزيد ولد عبدالحق.

ورد في إطار التحقيق مع ولد عبد الحق انه عمل في افغانستان مدرسا، وقال انه قدم الى افغانستان مطلع 1998، حيث تلقى دعوة من القيادي في «القاعدة» أبوحفص الموريتاني محفوظ ولد الوالد المقرب من زعيم تنظيم «القاعدة» في افغانستان وظل ولد عبد الحق يدرس بن لادن علوم اللغة العربية وأصول الفقه، واتهم ولد عبد الحق بإعداد محاضرات ودروس القاها بن لادن على انصاره في خطب مختلفة في افغانستان.

وورد في محاضر اتهام ولد عبد الحق، أنه عمل مدرسا في معهد إسلامي مقابل 2000 دولار مرتب شهري. وخلال محاكمة الدفعة الأكثر تشددا من السلفيين في يوليو (تموز) 2007 على رأسها سيدي الطاهر ولد بي الملقب المثنى والطيب والد السالك الملقب صهيب واعل الشيخ ولد الخوماني، اتهمت المجموعة بالتزوير كما اتهموا بالمشاركة في عماية لمغيطي العسكرية التي راح ضحيتها سبعة عشر جنديا موريتانيا عام 2005 في حامية لمغيطي العسكرية على الحدود الشمالية الشرقية للبلاد، وادينوا بالتزوير، فيما برئت ساحتهم من المشاركة في الهجوم على الحامية الذي تبنته الجماعة السلفية للدعوة والقتال التي تحولت أخيرا إلى تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».

وكان بين المتهمين كل من سيدي ولد سيدينا الذي شارك لاحقا في مقتل السياح الفرنسيين واحمد ولد الراظي، الذي قتل في الاشتباكات التي دارت الأسبوع المنصرم بين الأمن الموريتاني وعناصر مسلحة من الجماعة السلفية في نواكشوط في عملية الاثنين الماضي، والمصطفى ولد عبد القادر، الذي اعتقل بعد الهجوم على السياح بتهمة المشاركة في التخطيط للعملية، ومحمد سالم الملقب المجلسي، الذي اعتقل مرة ثانية بعد إطلاق سراحه في يوليو الماضي، وتبين أن المتهمين المفرج عنهم في يوليو 2007 هم الذين يشكلون إحدى اخطر خلايا تنظيم «القاعدة» في موريتانيا، حيث كشفت التحقيقات الأخيرة عن ارتباط المجموعة بالجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية، وانهم تلقوا تدريبات في معسكرات الجماعة، ومن بينهم من نفذوا الهجوم ضد السياح الفرنسيين والهجوم على السفارة الإسرائيلية، وكانوا يخططون لشن هجمات ضد مصالح غربية وحكومية في موريتانيا، وهو ما وضع السلطات الحالية بحسب المراقبين في وضع محرج إزاء وجود شبكة إرهابية مسلحة لا يزال خمسة من أفرادها هاربين، مما استدعى دعوة المواطنين للمساهمة في إلقاء القبض عليهم. وحذرت النيابة العامة السكان من التغطية على العناصر المطلوبة وعلقت صورهم في مختلف نقاط العاصمة.

وتؤكد الحكومة الموريتانية أن الدين الإسلامي دين تسامح، وان المجتمع سيبقى محتفظا بأريحيته وانفتاحه، لكنه سيضرب من حديد على كل من تسول له نفسه التشويش على التسامح والمسالمة.

وفيما تعتقد السلطات الموريتانية أنها نجحت في كسب أول معركة لها مع الجماعات السلفية بإحباطها إحدى أخطر العمليات التي كان يخطط لها تنظيم «القاعدة» واعتقال أهم المطلوبين امنيا، رأى المراقبون في الأحداث الأخيرة مجرد إرهاصات أولية لهذا التنظيم إذ يتوقع أن تفضي إلى مواجهات اكثر دموية، قد تؤدي لعمليات انتحارية تستهدف سفارات أجنبية ومباني حكومية وفق ما أعلن عنه النائب العام الموريتاني في آخر تصريحات، التي اعترف فيها رسميا بوجود تنظيم «القاعدة» على الساحة، بعد استبعاد الرئيس الموريتاني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله أن تكون هذه الحركة قد أخذت مكانها في موريتانيا. واعتبر العمليات الدموية الأخيرة أحداثا معزولة لا تعكس انتماء بعض أفراد المجتمع لهذا التنظيم، وفق ما روجت له وسائل الإعلام المحلية والدولية.. ولكن الشرارة انطلقت، في بلد طالما عرف الهدوء.. فهل تنطفئ أم تشعل نارا تطال الاخضر واليابس؟