ميشال المر.. مهندس الرؤساء

من سائق «جرار» في أفريقيا إلى «بولدوزر» سياسي في لبنان

TT

دولة الرئيس، معالي الوزير المتعدد الحقائب، النائب المزمن، عراب الرؤساء، «خادم المتنين» كما كان يطيب لبطانته تسميته. تلك هي الادوار والالقاب التي حملها النائب ميشال المر على مدى نصف قرن من العمل السياسي الذي جمع بين المر والحلو، وبين الانكسارات والانتصارات، وبين هندسة التحالفات والخروج عليها، كما فعل دولته اخيراً، باشهار «استقلاله» عن تكتل «التغيير والاصلاح» الذي يرأسه العماد ميشال عون، على امل ان يكون رجل العهد المقبل مع العماد ميشال سليمان، الذي يقال ان «ابو الياس»، كما كان الرئيس الياس الهراوي يحب ان يسميه، ونجله الوزير الياس المر هما اللذان عبّدا الطريق امام التوافق على اسمه مرشحاً لرئاسة الجمهورية. حتى انه، اي المر الأب، اعلن صراحة عندما كان التحاصص في الحكومة المقبلة مطروحاً على الساحة اللبنانية، انه سيكون حتماً من حصة رئيس الجمهورية في الحكومة العتيدة وليس من حصة المعارضة، او تكتل «التغيير والاصلاح». وهو يتخذ من «استقلاليته» حالياً وسيلة للضغط ، ولاسيما على نواب تكتل «التغيير والاصلاح»، من اجل انتخاب العماد سليمان رئيساً للجمهورية من دون شروط مسبقة، وهو ما جعل حلفاءه في الانتخابات الاخيرة يصنفونه مع نجله في «خانة الاميركان وقوى 14 مارس (اذار)» بعدما كان رمز سورية الاول في «العصر السوري»، مع الاشارة هنا الى المانشيت المشهورة التي تصدرت الصفحة الاولى من صحيفة «الجمهورية» التي اصدرها المرّان (الاب والابن) بعد الانتفاضة الاولى في عهد الرئيس الجميل، والتي جاء فيها: «بدأ العصر السوري في لبنان».

ومن يتتبع سيرة «ابو الياس» السياسية على مدى نصف قرن يدرك انه صديق حتى العظم اذا صادق، ولا يتهيب كسر العظم اذا خاصم. بدأ حياته السياسية بخصومة مع ابن عم والده النائب غبريال المر، حيث ترشح ضده وهو في السابعة والعشرين من عمره على لائحة حزب الكتائب واللواء جميل لحود (والد الرئيس اميل لحود) في انتخابات العام 1960، فسقط هو وقريبه ليفوز بالمقعد الارثوذكسي في المتن الدكتور البير مخيبر بفارق 200 صوت فقط.

ولم تقعد السقطة الاولى ميشال المر عن العمل السياسي، فانصرف الى البحث عن «سلاح» يعزز موقعه السياسي في الصراع على النفوذ في المتن، وهل افضل من المال سلاحاً للوصول الى «ساحة النجمة» (مقر البرلمان اللبناني)، فقصد افريقيا حيث بدأ العمل في شركة براتب 3 آلاف دولار، لكن هذا المبلغ لم يرضِ طموح الشاب المصمم على الوصول، فلم يتوان عن العمل الاضافي سائق تراكتور (جرار) وجرافة لشق الطرق في الصحراء، مما مكنه من رفع مدخوله الى 9 الاف دولار شهرياً. ولم تمض سنوات ثلاث حتى اصبح العامل مالك شركة التزمت اشغالاً في زائير، والغابون، وساحل العاج، ونيجيريا، والجزائر، وليبيا، ثم توسعت باتجاه الدول العربية لتتوسع ثروة ابن بلدة بتغرين في المتن فصار يتنقل بين عواصم هذه الدول وبيروت بطائرته الخاصة متحيناً الفرصة لتجربة حظه في السياسة والانتخابات مرة جديدة، وكان ذلك في انتخابات 1964 النيابية، حين انضم الى اللائحة الشهابية نفسها. ولكن الحظ لم يحالفه هذه المرة ايضاً، فلم يستسلم ولم ييأس من «الكتائب» في عهد مؤسسها الشيخ بيار الجميل، فانتظر فرصة انشاء «الحلف الثلاثي» المسيحي (كميل شمعون، بيار الجميل وريمون اده) في وجه «النهج» الذي كانت تمثله الشهابية لينجح في الانضمام الى لائحته في انتخابات 1968 النيابية بدلاً من الدكتور البير مخيبر، فيحقق حلمه المزمن ويدخل الندوة النيابية. ولم تمض سنة واحدة حتى عين وزيراً للبريد والبرق والهاتف في حكومة الرئيس رشيد كرامي في آخر سنة من عهد الرئيس شارل حلو بوصفه قريباً من «الحلف» وغير بعيد عن «النهج». وابتداء من تلك الفترة بدأ يلعب الادوار ويتخذ الخيارات، وكان «الدور» الاول خلال انتخابات رئيس مجلس النواب بعد انتخابات العام 1968 وكانت المعركة محصورة بين الرئيسين صبري حمادة الذي يمثل «النهج الشهابي» وكامل الاسعد الذي يمثل مع «الحلف الثلاثي» المسيحي الجبهة المعارضة للشهابية، وكان الفوز فيها يحتاج الى صوت واحد فاختار ميشال المر مرشح الشهابية الذي فاز بالصوت الواحد، وطار في اليوم الثاني الى فرنسا. ويذكر يومها ان صحيفة «النهار» اللبنانية صدرت صفحتها الاولى بالمانشيت التالية: «طار المر فطار الاسعد». ويقال ان المر راهن يومها على استمرار الشهابية في الحكم عبر الياس سركيس الذي رشحه الشهابيون في وجه سليمان فرنجية في انتخابات الرئاسة، لكنه خسر الرهان وخسرت الشهابية وفاز سليمان فرنجية عن «كتلة الوسط» النيابية المتحالفة مع «الحلف الثلاثي».

غير ان من يخسر الرهان لا بد من ان يدفع الثمن، فانتظر معارضو الشهابية النائب ميشال المر عند منعطف انتخابات العام 1972 النيابية، فنال منه معارضو الشهابية لاسقاطه الاسعد، واقتراعه في انتخابات الرئاسة لمصلحة الياس سركيس، فاسقطوه في الانتخابات، فكان اتهم «الكتائب» بأنهم لم «يحلبوا صافياً» معه، وابعده الرئيس فرنجية طوال عهده عن الوزارات.

لكن المر لم يبلع مرارته، فطفق، في نهاية عهد فرنجية، يخطط لايصال صديقه الياس سركيس «الشهابي» الى قصر بعبدا، فتواصل مع الرئيس كميل شمعون الذي كان يرأس «الجبهة اللبنانية» المكونة من القوى والفاعليات المسيحية، الى ان وفق في رهانه هذه المرة على المستوى الرئاسي، فاوصلت انتخابات العام 1976 الرئاسية الياس سركيس الى قصر بعبدا فلازم المر الرئيس في الاوقات المرة والاوقات الحلوة، تماماً كما لازمه فؤاد بطرس وزيراً للخارجية. وكان من الطبيعي ان يرد سركيس الجميل لصديقه فاختاره وزيراً للبريد والاسكان العام 1977 في حكومة الرئيس سليم الحص حيث «ابتكر» فكرة «طابق المر» الاضافي في المباني، ثم وزيراً للبريد في حكومة الرئيس شفيق الوزان العام 1980 حيث حظي بمرسوم جمهوري لتنظيم وزارة البريد والبرق والهاتف من دون الرجوع الى اي مرجعية سياسية او رقابية.

ويبدو ان المر «استذوق» الحلو الرئاسي، فجند كل طاقاته واستنفر كل اسلحته من اجل التحضير لانتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية خلفاً للياس سركيس ليحفظ لنفسه مكاناً مميزاً في الولاية التالية. وبالفعل كان له ما اراد ولم يتوان عن التعاون في هذا المجال مع من اسقطه في انتخابات رئاسة المجلس النيابي سابقاً، كامل الاسعد، لكن القدر المشؤوم كان في انتظار بشير الجميل فاغتيل قبل ان يتسلم مهمات الرئاسة، ليخلفه شقيقه امين الجميل الذي كان على حساسية مفرطة تجاه القريبين من شقيقه الراحل. ويذكر اللبنانيون كيف خرج ميشال المر من قصر بعبدا بعد تسلم امين الجميل الرئاسة وهو مدلهم الوجه، ما كان بداية القطيعة بين الرجلين «المختلفي المزاج والمتنافسين على من يكون «ديك المتن»، على حد قول احد السياسيين المتنيين.

ولم يصبر ميشال المر على «الثمن» الذي اجبره الرئيس الجميل على دفعه، فكانت انتفاضة «القوات اللبنانية» الاولى التي كان يقودها سمير جعجع وايلي حبيقة وكريم بقراوني، فانضم الشهابي العتيق الى المنتفضين. ومع تصاعد النفوذ السوري في لبنان بعد اغتيال بشير الجميل وانسحاب القوات الاسرائيلية، بدأ ميشال المر ينسج علاقات مع السوريين واخصام الرئيس الجميل، فمد جسوراً بين ايلي حبيقة كقائد للقوات اللبنانية وبين القيادة السورية من جهة، وبين حبيقة ونبيه بري ووليد جنبلاط من جهة ثانية، فاسفر هذا الزواج عن ولادة ما سمي يومها «الاتفاق الثلاثي» الذي كان سبب الانتفاضة الثانية على ايلي حبيقة وعراب الاتفاق ميشال المر وابنه الياس الذي كان امين الداخلية خلال رئاسة حبيقة للقوات اللبنانية، ومن قبل عدوي الامس: الرئيس الجميل وسمير جعجع، بالتعاون مع قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون، الذي انقذ حياة الياس المر، ومهد الطريق لخروج عرابي الاتفاق الثلاثي مما كان يسمى المنطقة الشرقية، فاختار «ابو الياس» ونجله الياس باريس مربط خيلهما، فيما اختار حبيقة مدينة زحلة المسيحية، القريبة من سورية، مقرا لاقامته، وصارت دمشق ملتقى المر وحبيقة، ويقال انهما لعبا دورا اساسيا في اقناع السوريين بعدم التجديد للرئيس الجميل، الذي لم يجد بدا من اخلاء الساحة لاكثر المتشددين ضد الوجود السوري على الساحة المسيحية هما قائد الجيش العماد ميشال عون الذي عينه رئيساً للحكومة وسمير جعجع، وكان الود بين هذين الرجلين والرئيس الجميل يكاد يكون مفقوداً.

وحاول المر الاب وايلي حبيقة انقاذ من انقذهما من غضب جعجع، اي العماد ميشال عون الذي كان اصبح رئيسا للحكومة العسكرية الانتقالية، ورفض مع «الجبهة اللنبانية» والبطريرك الماروني يومها العبارة الاميركية المشهورة «مخايل الضاهر او الفوضى» وكانت تلك نتيجة التفاهم الاميركي- السوري غير البعيد عن الاسرائيلي، على انتخابات الرئاسة اللبنانية، التي انبرى المر وحبيقه لقطفها لمصلحة الياس الهراوي بعدما كانت المنطقة الشرقية تحت نيران الاشقاء لفترة غير قصيرة، وبعدما اسفرت اللعبة العربية- الدولية عن اتفاق الطائف. لكن المر وحبيقة لم ينسيا جميل العماد عون فحملا الرسائل اليه من القيادة السورية بهدف انقاذه وانقاذ ما تبقى من اجتياح سوري بات موافقاً عليه محليا وعربيا ودوليا وحتى فاتيكانيا، فردد عون يومها عبارته المشهورة: «يستطيع العالم ان يسحقني ولكنه لن يقوى على اخذ توقيعي». وكان القضاء على «التمرد» وعاد عرابا «الاتفاق الثلاثي» على صهوة «اتفاق الطائف» هذه المرة، فحاول حبيقة انقاذ ما امكن من الجيش الملتحق بالعماد عون واحتضان انصار الجيش والعونيين، فيما شمر المر عن ساعديه للبدء بتطبيق بنود اتفاق الطائف وفي مقدمتها نزع سلاح الميليشيات، «منتقما» بذلك من قائد القوات اللبنانية جعجع الذي اتهمه المر يومها بتفجير قصره في بتغرين ردا على هندسة «الاتفاق الثلاثي» و«لقاء اهدن» بين الرئيس سليمان فرنجية وقائد القوات اللنبانية آنذاك ايلي حبيقة (1985).

ولم تثن محاولات الاغتيال الثلاي التي تعرض لها المر عن المضي في نزع سلاح الميليشيات، ما اهله لتسلم المناصب الفعالة منذ بداية عهد الرئيس الياس الهراوي كنائب معين عن المقعد الارثوذكسي في عاليه، استبعادا للمرحوم جورج حاوي الذي كان يتوقع تعيينه عن المقعد المذكور بسبب ما بين ابني البلدة الواحدة (بتغرين) من تنافس سياسي وكوزير للدفاع، ورئيس لـ 14 لجنة وزارية ونائب لرئيس مجلس الوزراء من العام 1991 وحتى العام 2000، ومن يومها بات يطلق عليه لقب «دولة الرئيس» فضلا عن لقب «ابو الياس» الذي كان الرئيس الياس الهراوي ان ينادي به، وصار شائعا في الاوساط السياسية كافة.

وفي اول انتخابات بعد «اتفاق الطائف» بات ميشال المر مالئ الفراغ المسيحي، مع نفي العماد عون ودخول جعجع الى السجن، كما بات «دولة الرئيس» فعلاً، بحيث بات هو من يؤلف لوائح المتن الانتخابية، وحتى غير المتن، ويلتقي في ديوانيته كل اسبوع بين 40 و50 نائبا في الوقت الذي كان لا يلتقي في منزل رئيس الحكومة سليم الحص في عهد الرئيس اميل لحود سوى عدد من النواب لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة. ففي انتخابات العام 1992 النيابية فازت لائحته بكامل اعضائها في ظل مقاطعة القوى المسيحية المعارضة للوجود السوري لتلك الانتخابات. وفي انتخابات 1996 حقق الفوز نفسه مع استمرار المقاطعة المسيحية وان بنسبة اقل. وفي انتخابات العام 2000، وقانونها الذي هندسه ابو الياس بالتعاون مع العميد غازي كنعان الذي بات المشرف الفعلي على السياسة اللبنانية، سجل كل من نسيب لحود و(الراحل) بيار الجميل خرقا للائحة المر.

ومن وزارة الدفاع في عهد الهراوي الى وزارة الداخلية في عهد اميل لحود، حيث كان يهندس الانتخابات، ويهندس المصالحات بين الرئيس لحود ورئيس الحكومة آنذاك المرحوم رفيق الحريري، اللذين لم يكن الانسجام بينهما كافيا لادارة شؤون البلاد والعباد.

ومع انسحاب القوات السورية من لبنان وقرب افول عهد لحود بدأت هالة الزعيم المتني الارثوذكسي تخبو حتى انكفأ الى بتغرين في انتظار آخر انتخابات نيابية خلال ولاية الرئيس لحود الممدة، حيث آثر التحالف منفردا مع اللائحة العونية لان خصميه اللدودين: امين الجميل ونسيب لحود كانا يهيئان لعزله وتدفيعه ثمن ولائه المطلق للسوريين.

ويقول النائب نعمة الله ابي نصر، عضو «تكتل التغير والاصلاح» الذي كان المر عضوا فيه حتى الامس القريب، ان النائب المر خطا خطوته الاستقلالية الاخيرة عن التكتل بعدما اتقن استحالة وصول العماد عون الى سدة الرئاسة، مع ايحاء بعض الجهات انه كان ونجله وزير الدفاع الحالي الياس المر يلعبان ورقة العماد ميشال سليمان. وبعدما قبلت الاكثرية النيابية بلعب هذه الورقة بتغطية عربية - دولية، انبرى ميشال المر كعادته الى استعادة دور العراب. فهل ينجح هذه المرة كما فعل مع الرؤساء سركيس والهراوي ولحود، ام يفشل كما فعل مع امين الجميل وسليمان فرنجية الاب؟ وهل يكون له مع الاميركيين والفرنسيين الدور الذي كان له مع السوريين؟ وهل ينجح في تمهيد الطريق لنجله الياس ليأخذ دوره كعراب للرؤساء ولاعب اساسي في المتن ووزير لا يستغنى عنه في الحكومات المقبلة؟ وحدها الايام والاسابيع المقبلة كفيلة بالاجابة عن هذه الاسئلة.