إيطاليا: سباغيتي السياسة

عاد «الفارس» برلسكوني ليلتهم كل المناصب.. ولم يبق لليسار الشيوعي سوى التظاهر في الشوارع

رئيس الوزراء الايطالي المنتخب سلفيو برلسكوني (يسار) مع أحد زعماء الاحزاب الموالية له خلال مؤتمر صحافي في روما (رويترز)
TT

انجلى غبار المعركة الانتخابية في ايطاليا منذ أيام وعاد «الفارس» (كما يسمونه بالايطالية: كافالييري) سيلفيو برلسكوني الى سدة الحكم، بعد غياب سنتين على رأس ائتلاف وسط اليمين المسمى «شعب الحرية» وسدد ضربة قوية لقوى اليسار بتفوق بزيد على 9 في المائة من الأصوات أي حوال ثلاثة ونصف مليون من الناخبين لصالحه بحيث خرج اليسار الشيوعي المتطرف بقوس قزحه، الذي يضم الأحزاب الصغيرة من المعمعة ولم يحصل على أي مقعد في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، لأنهم لم يحققوا الحد الأدني من أصوات الناخبين وهو 4% ولم يبق لديهم سوى التظاهر في الشوارع أو اللجوء الى تنظيم جديد لمنظمة «الألوية الحمراء» الارهابية.

وهذا ما جرى ايضا لحزب «اتحاد الديمقراطيين المسحيين» برئاسة بيير فرناندو كاسيني شريك برلسكوني في حكومته الثانية الذي انقلب ضده في الانتخابات الأخيرة، وحتى الحزب الاشتراكي المعتدل اختفى من الساحة، وهكذا اختلطت الأمور مجددا لكن الأكيد هو أن الناخبين يريدون الاستقرار والتطور على يد اليمين الذي سيستطيع أخيرا حكم ايطاليا بأغلبية واضحة بعد الاهتزازات المستمرة صعودا ونزولا في السنتين الأخيرتين، وارتباط مستقبل الحكومة الهش بتصويت عضو أو اثنين في البرلمان كما جرى لائتلاف وسط اليسار برئاسة رومانو برودي، كما يقول رئيس غرفة الصناعيين ورئيس شركة فيراري وفيات للسيارات لوقا مونتيزيمولو. السياسة الايطالية معقدة دوما ومتداخلة بين الأحزاب التي يبلغ عددها 21 من دون حسبان التكتلات والتجمعات غير الحزبية الرسمية، وكأننا أمام السباغيتي الايطالية ألذ أنواع المعجنات المتشابكة التي لاتعرف أولها من نهايتها.

ظهر برلسكوني الذي يبلغ 71 عاما أكثر نشاطا وحيوية من زعيم المعارضة الجديد والتر فلتروني رئيس الحزب الديمقراطي اليساري وريث الجناح الشيوعي المعتدل منذ نهاية الحرب الباردة، والذي يصغره بثماني عشرة سنة، لكن هل يستطيع برلسكوني حل مشاكل ايطاليا كما يعد؟ يقول الكاتب الشهير والمعلق السياسي المخضرم روبرتو جيرفاسو في تصريح خاص لـ«الشرق الأوسط» ان انحدار ايطاليا التدريجي خلال السنوات السبع الأخيرة «يشبه سيارة فيراري الرياضية الفخمة، لكن حتى السائق المتميز شوماخر لن يتمكن من قيادتها بنجاح لسبب بسيط هو أن محركها معطل منذ فترة». أجاب برلسكوني على سؤال احدى الصحافيات أمس، حول المناصب العليا في الدولة وهو يشير الى جيينه على طريقة أهل ميلانو مسقط رأسه في الشمال، حين يصفون شخصا بالغباء «هل يعقل لأي حزب فاز بثقة الناخبين بهذا الشكل الواضح وبملايين الأصوات أن يتخلى عن رئاسة الوزارة ورئاسة مجلسي النواب والشيوخ للمعارضة الخاسرة. ألا يكفي اليسار رئاسة الجمهورية التي وصل اليها قبل سنتين بل حصد كافة المناصب العليا آنذاك بتفوق لايزيد عن ثلاثة وعشرين ألف صوت فقط؟ «الظاهر أن وزارة الخارجية ستسند الى أحد المقربين من برلسكوني وهو وزير الخارجية الأسبق فرانكو فراتيني الذي سينتقل الان من الاتحاد الاوروبي الى قصر الفارنيزينا مقر الخارجية الايطالية الذي بناه موسوليني في عهد الفاشية. والمرشح الأقوى لوزارة الداخلية هو روبرتو ماروني من حزب «رابطة الشمال» المعادية للهجرة والمحبذة للفيدرالية وكان يحتل نفس المنصب في وزارة برلسكوني الأولى عام 1994 والمرشح لوزارة الثقافة هو باولو بنايوتي الناطق الرسمي باسم برلسكوني أما وزارة الدفاع فالأرجح أنها ستسند لأول مرة الى اغنازيو لاروسا من حزب «الاتحاد الوطني» بزعامة جان فرانكو فيني الذي اندمج مع برلسكوني في ائتلاف «شعب الحرية» والذي قد يترشح لمنصب رئيس مجلس النواب المؤلف من 630 عضوا يتمتع فيه برلسكوني بأغلبية تزيد 99 صوتا عن المطلوب لتمرير القوانين أما رئاسة مجلس الشيوخ بأعضائه البلغ عددهم 315 بما فيهم الأعضاء السبعة مدى الحياة فهناك ثلاثة مرشحين من جماعة برلسكوني يتنافسون عليها وله ايضا أغلبية مريحة في هذا المجلس أيضا.من المتوقع أيضا أن تعود السياسة الخارجية الايطالية الى تعاون أوثق مع السياسة الاميركية خاصة في مجال قوات حفظ السلام ومكافحة الإرهاب، وبرلسكوني اختار اسرائيل للزيارة الاولى التي سيقوم بها خارج ايطاليا لأنها، كما قال «الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط». كما سيعقد الجلسة الأولى لمجلس الوزراء الجديد المكون من 12 وزيرا ثلثهم من النساء في الاسبوع المقبل في مدينة نابولي كاشارة رمزية الى رغبته في انهاء مشكلة جمع النفايات بشكل جذري لكن التعقيدات المحلية قد تحول دون تحقيق حل سريع كما يتمنى. أول قرار لحكومة برلسكوني الجديدة سيكون الغاء ضريبة التملك على العقار الأول كمسكن لمشاكل للغلاء المتصاعد الذي يلتهم دخل الطبقات الفقيرة والوسطى، أما احتمال قيام حكومة وطنية تشارك فيها المعارضة فيبدو بعيدا للغاية بعد انتصار اليمين بجلاء مما دعا فلتروني الى القول «انها بداية سيئة وسنعمد الى اقامة حكومة ظل مثلما هي الحال في انكلترا». المعركة القادمة ستفتتح بعد اسبوعين اثر فشل مرشح اليسار فرانشسكو روتيللي ومرشح اليمين جاني اليمانو من الفوز برئاسة بلدية روما واضطرار كليهما الى اعادة الانتخابات لأنهما لم يحصلا على نصف الأصوات المطلوبة رغم تفوق روتيللي عمدة روما سابقا بعدة نقاط على خصمه وزير الزراعة في حكومة برلسكوني الثانية التي استقالت عام 2006، وصرح روتيللي أمس بأن «نجاحه المرتقب سيمثل ردة فعل مناسبة على فوز اليمين بالانتخابات التشريعية». يذكر أحد المقربين من برلسكوني وهو ارنستو ديلا لوجيا «ان عهد السيطرة اليسارية الذي استمر 15 سنة قد انتهى الى غير رجعة، بعد هذا الزلزال السياسي»، لكن هل سيضمحل اليسار التاريخي في هذا البلد المليء بالآراء والاحزاب والتناقضات والكلام المنمق المعسول وكذلك الشتائم الى حد تبادل البصقات في مجلس النواب المنحل والتشابك بالأيدي واجبار الخصم على أكل سجق المورتاديلا علنا أمام كاميرات المصورين؟ يبدو أن الانحدار وصل الى عالم السياسة ولم يقتصر على الاقتصاد الذي سيعود اليه وزير قديم من المقربين الى برلسكوني وهو جوليو تريمونتي، الذي يدعو الى حماية الاقتصاد في عهد العولمة الذي أفقد ايطاليا ميزاتها التقليدية أمام الانتاج الرخيص القادم من الصين أو رومانيا. هل تكفي هذه النظريات العتيقة لوقف الانحدار أم ستصبح ايطاليا مكانا للبيع والشراء بما في ذلك مدرجها القديم الأثري الكولوسيوم وتنضم الى مجموعة «دول الموز» من دون أن تنتج الموز فعلا؟ هل سيتمكن الملياردير برلسكوني رجل الأعمال الناجح من القدرة على ضمان حصة ايطاليا بانتصارها في حقل المنافسة العالمية أم ستبقى بلدا جميلا ذا تراث فني رائع يحتوي على ثلثي التراث العالمي، ويجذب السياح الذين سيتضاعف عددهم بعد عقد من الزمان وأغلبهم من آسيا والصين كما سيبرز مصممو الأزياء الايطاليون، وكأنهم ذوات البلد ووجهاؤه رغم أن منتوجاتهم تصنع في تونس أو بلغاريا، وتباع بأسعار ايطاليا الخيالية؟ وهل سينجح في ضبط الأمن بعد زيادة السرقات والجرائم في السنوات الأخيرة بعد نشاط الجريمة المنظمة القادمة من اوروبا الشرقية ومنافسة المافيا الايطالية في عقر دارها أو ربما بالتواطؤ معها؟ التحدي كبير وعالمي وعهد انتصارات الرومان ولى منذ ألفي سنة، لم تربح ايطاليا بعدها أية معركة. برلسكوني متفائل دوما ويحب الايجابية والمزاح وآخر ما قاله عن التلفزيون الخاص الذي يملكه ويتكون ربحه من الدعايات التجارية «الجميع يتابع قناتنا، فالفتيات فيها أجمل من القنوات الاخرى».