«الشيوعية» تبعث من جديد.. في برلين

«اليسار» الجديد يصبح القوة الأولى في الولايات الألمانية الشرقية.. والمحافظون يحذرون

زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD) كورت بيك يتحدث في مؤتمر صحافى عن «التحديات امام حزبه» عقب اجتماع مجلس الحزب في برلين (رويترز)
TT

لم يصدق زعيم المحافظين الراحل فرانز يوزيف شتراوس عينيه وهو يشاهد ممثلة الخضر ريتا ديتفورت، تجلس معه على طاولة واحدة أمام التلفزيون فزعق فيها، وهو ثمل: ماذا تفعلين هنا، هذا ليس مكانا لك؟ كان ذلك عام 1983 حينما صعد حزب الخضر اليساري، للمرة الأولى إلى البرلمان الاتحادي (البوندستاغ) بنسبة 5,6%. وبقي حضور النواب الخضر إلى جلسات البرلمان بسراويل الجينز ولحاهم المشعثة والأحذية الرياضية مثار غضب المحافظين حتى عام 1998 حينما تخلي زعيم الخضر يوشكا فيشر لأول مرة عن حذائه الرياضي مفضلا عليه بدلة وحذاء وزير الخارجية الأنيق. أما الآن فقد تبدلت الاحوال فقد كشفت آخر استطلاعات الرأي، عن تحول حزب «اليسار» الجديد إلى قوة لا يستهان بها في الولايات الغربية (14%)، وإلى أكبر كتلة انتخابية في الولايات الشرقية، مما يؤشر لعودة «الشيوعية من جديد الى برلين.

وأرّخ عام 1983 انهيار برلمان القوى الثلاث لأول مرة في ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. إذ كان البرلمان حتى مطلع الثمانينات يتألف من القوى التقليدية الثلاث: الحزب الديمقراطي المسيحي، (وشقيقه البافاري الاتحاد الاجتماعي المسيحي)، والحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الليبرالي. وكان الحزب الليبرالي يتبادل التحالف بين الكتلتين الكبيرتين إلى حد أنه سمي حينه بـ«عاهرة» ألمانيا التي تغير سريرها كل مرة مع نتائج الانتخابات.

وأدى صعود حزب اليسار لأول مرة حاليا إلى انهيار نظام القوى الأربع وظهور برلمان القوى الخمس، الذي أدى بدوره إلى حدوث اصطفافات لم يسبق لها مثيل. وبعد نماذج تحالف المسيحي ـ الليبرالي والاشتراكي ـ الخضر، الاشتراكي والخضر والليبرالي، وبفضل صعود القوة الخامسة، ظهرت إمكانية تحالفات جديدة. فظهرت إمكانية تحالف الخضر مع المسيحي في ولاية هيسن، وظهرت إمكانية تحالف المحافظين مع الليبراليين والخضر، كما ظهرت امكانيات أخرى لم تتحقق بعد مثل تحالف الاشتراكيين مع الخضر واليسار الجديد.

ومع بلوغ مرحلة القوى البرلمانية الخمس زادت صعوبة التحالفات بين مختلف الكيانات التي يضع معظمها، عدا حزب الخضر وبعض شخصيات الحزب الاشتراكي اليسارية، حزب اليسار في خانة القوى المحظورة. وهكذا فاز الاشتراكيون في انتخابات ولاية هيسن بفارق ضئيل قبل أشهر، لكن الجميع عجزوا عن تشكيل حكومة لا تستعين بقوى اليسار في البرلمان. وبقيت هيسن بلا رئيس وزراء جديد حتى الآن، وزادت فرص المحافظ المسيحي المتشدد رولاند كوخ لإعادة الانتخابات. ولا يبقى مستقبلا، أمام الاشتراكيين والمحافظين، غير تشكيل التحالفات العريضة بينهما لحكم هذه الولاية أو تلك، أو لتكرار تجربة التحالف القائم حاليا على مستوى الاتحاد.

ويقول استطلاعات الرأي المعروفة عن تحول حزب «اليسار» الجديد إلى قوة لا يستهان بها في الولايات الغربية (14%)، وإلى أكبر كتلة انتخابية في الولايات الشرقية. علما أن حزب اليسار، الذي تأسس قبل سنتين من توحيد صفوف اليساريين في الغرب والشرق، أصبح حزبا مشاركا في حكم 3 ولايات شرقية، يشارك في حكم ولاية شرقية رابعة كحليف غير مباشر، وصعد بقوة إلى البرلمان الاتحادي وإلى معظم البرلمانات المحلية في الولايات الغربية.

وتشير إحصائية معهد «اللينزباخ»، حسب آخر استطلاع للرأي، إلى أن اليسار سينال في انتخابات الولايات الشرقية المقبلة نسبة 29,7% من أصوات الناخبين، ويصبح بالتالي القوة البرلمانية الأكبر في كافة الولايات شرقية الخمس.

وينال الحزب الديمقراطي المسيحي، حسب هذا الاستطلاع، نسبة 26,4% والحزب الاشتراكي نسبة 23,3%. وتوقع الاستطلاع، الذي نشرته أهم الصحف الألمانية قاطبة، وهي «فرانكفورتر الجيماينه»، إلى أن اليسار سيفرض نفسه على الغرب أيضا وبمعدل 14%، ويتجاوز بالتالي حزبا تقليديا مثل الحزب الديمقراطي الحر(الليبرالي) 10% وحزب الخضر(8,9%) الذي صعد إلى البرلمان الاتحادي مطلع الثمانينات.

تأسس «اليسار» من وحدة صفوف «حزب الاشتراكية الديمقراطية» و«الرابطة اليسارية من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية». وفي حين يعتبر حزب «الاشتراكي الديمقراطي» الوريث الشرعي للحزب الاشتراكي الألماني الموحد، الذي حكم ألمانيا الشرقية طوال 55 سنة، ضمت الرابطة اليسارية، شيوعيي الغرب والمتمردين على الحزب الاشتراكي الديمقراطي (الجناح اليساري) وعدد من زعماء النقابات العمالية. وكان خروج الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وتمردهم على الكتلة البرلمانية للحزب، من أهم عوامل فشل حكومة غيرهارد شرودر الثانية وتدهور أكثريته البرلمانية أمام المحافظين. وهو الأمر الذي مهد إلى قرار تعطيل البرلمان وإجراء الانتخابات المبكرة التي فازت بها المستشارة الحالية انجيلا ميركل في عام 2005.

ويرى المراقبون السياسيون أن قوة اليسار الجديد تكمن في تحالف زعيمين يساريين مهمين، هما المحامي جريجور جيزي من حزب الاشتراكية الديمقراطية واوسكار لافونتين، زعيم الحزب الاشتراكي السابق ورئيس الوزراء السابق في ولاية زارلاند الغربية. ومعروف أن لافونتين استقال من منصبه كوزير للمالية في حكومة شرودر الأولى عام 1999، وكرئيس للحزب أيضا، بعد خلاف مع المستشار الاشتراكي حول سياسته الاجتماعية وانحراف الحزب نحو اليمين.

ويمكن لليسار الجديد أن يجد في حزب الخضر، المحسوب على قوى اليسار، حليفا جديدا في الولايات الغربية. إذ يسجل التاريخ أن حزب الخضر، وخصوصا رموزه الكبيرة مثل وزير الخارجية السابق يوشكا فيشر والنائب كريستيان شتروبلة، نبعوا من حركة الاحتجاجات الطلابية في الستينات. وهي نفس الحركة الاحتجاجية التي ولدت التيار اليساري المتشدد الذي قاده الثنائي بادر ـ ماينهوف. وأعلن حزب الخضر أنه لا يتحفظ على التحالفات مع حزب اليسار رغم موقف الاشتراكيين السلبي من التحالف مع هذا الحزب. ويقول غيدو فيسترفيلله زعيم الحزب اليبرالي: «إذا بقي الحزب الاشتراكي يركض وراء حزب اليسار، فإنه سيؤكد الموضوعات اللاعقلانية الني يطرحها الشيوعيون، لكن كلما ضعف الحزب الاشتراكي، تعزز حزب اليسار».

وكما توقع شرودر فقد جاء صعود اليسار الجديد على حاسب ناخبي الحزب الاشتراكي بالذات، وعلى حساب ناخبي الخضر أيضا. وسرق اليسار الجديد الآلاف من أعضاء الحزب الاشتراكي والكوادر النقابية، وأعضاء الخضر الناقمين على سياسة الخضر الانبطاحية أمام الحزب الاشتراكي إبان مرحلة التحالف. وتشير التحليلات التي أجراها معهد «امنيد»، شبه الرسمي، إلى أن اليسار حقق نتائجه الانتخابية في هيسن على حساب ناخبي الحزب الاشتراكي أساسا. كما كانت نسبة ناخبي اليسار من الشباب مفاجئة للجميع، خصوصا أن منظمة الشبيبة الاشتراكية معروفة بتمردها «اليساري» على الحزب الاشتراكي الديمقراطي. والمعتقد أن «التوجه اليساري» الذي ينوي زعيم الحزب الاشتراكي الحالي كورت بيك فرضه على الحزب يرمي إلى وقف نزف الناخبين لصالح حزب اليسار، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

وأجرت صحيفة «دي فيلت» الواسعة الانتشار استفتاء بين قرائها، ومعظمهم من المحافظين، عن مستقبل اليسار في البرلمان فقال 60% بأن الحزب سيواصل عضويته في البرلمان، مقابل 10% فقط قالوا إن فوزهم في يسن ونيدرزاكسن ليس أكثر من موجة عابرة. وذكرت نسبة 60% أن اليسار سيفرض نفسه كقوة فاعلة في الولايات الغربية أيضا مقابل 27% قالوا إنه سيعجز عن ذلك. أسباب التحول اليساري في الشرق وعد المستشار الأسبق هيلموت كول، في أول خطاب له شرق الجدار بعد الوحدة، بالارتفاع بمستوى الشرق الاقتصادي إلى مستوى الغرب خلال سنوات. ولم يحقق كول وعوده الانتخابية للشرقين حتى لحظة خسارته النزال الانتخابي أمام شرودر عام 1998. بل ان الظروف الاقتصادية الصعبة دفعت ملايين الشرقيين إلى الرحيل عن مدن الشرق صوب الولايات الغنية مثل بافاريا وبادن فورتمبيرغ ونورد راين فيستفالن. وأدى التدهور الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة إلى صعود المد اليساري وعودة الحنين إلى النظام القديم في الشرق، وصعد معه المد اليمني الذي حمل العديد من نواب النازية الجديدة إلى ولايات الشرق الألماني.

ويشي آخر تقارير دائرة العمل إلى أن نسبة البطالة في الولايات الألمانية الشرقية يرتفع إلى 19,3%، مقارنة بنسبة 8,7% في الغرب. وهذا يعني أن البطالة في الشرق أكثر من ضعف البطالة في الغرب رغم أن سكان الشرق يشكلون أقل من ربع مجموع السكان. وإذ حذرت الدائرة من زيادة أعداد المتقاعدين في الغرب، فإنها حذرت من «جيل متقاعدين من المعدمين» في الشرق. وأثارت القناة التلفزيونية الثانية (زد دي ايف) الكثير من قلق عندما بثت تقريرا يتوقع حدوث «ثورة المتقاعدين» في ألمانيا بسبب ارتفع نسبتهم عام 2030 إلى 60% من السكان وتدهور أوضاعهم المعاشية في ذات الوقت.

وهذا ليس كل شيء لأن أكثر من 70% نمنن الشرقيين يشعرون بالقلق تجاه مستقبلهم الاقتصادي والمعاشي. ما زال مقص الأحوال المعيشية واسعا، رغم مرور 17 سنة على الوحدة الألمانية. وينال الشرقيون، من نفس العمر والكفاءة والخدمة، رواتب تقل بنسبة 20% عن رواتب الغربيين. وتبدو الصورة قاتمة بالنسبة للنساء الشرقيات لأنهن يتلقين 30% أقل. وإذ تنخفض رواتب الأطباء الشرقيين 18% عن رواتب الغربيين يرتفع الفرق كثيرا في المهن الأخرى، ويبلغ الفرق 41% في مجال المصممين الفنيين على الكومبيوتر.

وأدت هجرة الشرقيين من مدن لايبزج ودريسدن وهالة وغيرها إلى انخفاض أسعار العقارات وإيجارات البيوت بشدة، وترافق ذلك مع حدوث أزمة سكن في معظم المدن الغربية. ويراقب الشرقيون اليوم الأثرياء الغربيين وهم ينتقلون، بعد التقاعد، إلى الشرق لشراء البيوت والشقق بأقل الأسعار.

يعرف الجميع بأن الشيوعية، على طريقة الزعيم الاشتراكي السابق ايريش هونيكر، لن تعود مرة أخرى إلى شرق ألمانيا، لكن النتائج الانتخابية التي حققها حزب «اليسار» على صعيد الولايات الألمانية دفعت الصحافة المحافظة إلى التحذير من عودة جهاز الأمن السابق «شتازي» لحكم ألمانيا الشرقية. وإذ يعتقد المحافظون أن «الزواج» بين اوسكار لافونتين سينهار قريبا ويفقد ثقة الناخبين، عبر 88% من ناخبي حزب اليسار، في استفتاء «دي فيلت»، عن قناعتهم بأن الحزب سيكرس نشاطه من أجل تحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية في ألمانيا. واعتبرت نسبة 85% منهم أن الحزب سيدعم مواقف الفقراء والمساكين، ووصفت نسبة 77% منهم حزب اليسار بأنه «محامي» الضعفاء.