شريان «حزب الله»

الحدود اللبنانية ـ السورية 260 كيلومتراً تضم ما يقارب 72 نقطة عبور.. منها 4 فقط رسمية

شارة مرورية قرب الحدود اللبنانية ـ السورية.. على بعد كيلومترات قليلة من قرية دير العشائر اللبنانية الحدودية (أ.ف.ب)
TT

يبدو ان ملف الحدود اللبنانية ـ السورية سيبقى موضع نقاش «معمق» على جانبي هذه الحدود «غير الرسمية وغير المحددة» والتي تتقاطع من حولها الاتهامات الدولية التي تتحدث عن عمليات تهريب السلاح الى «حزب الله» الذي استطاع ـ كما يقول مسؤولوه ـ ان يعيد بناء قوته العسكرية، بل يرفعها الى حدود بعيدة على الرغم من الرقابة الدولية والمحلية على هذه الحدود التي تعتبر طريق التموين الوحيدة وشريانه الحيوي.

ويتشارك لبنان وسورية تاريخاً واحداً بسبب الواقع الجغرافي الذي جعل البلدين في ترابط مهم، لحاجة لبنان الى عمقه العربي الذي يمر عبر حدوده البرية مع سورية، وحاجة سورية الى الانفتاح على العالم عبر النافذة اللبنانية المطلة على البحر الابيض المتوسط. غير ان الجغرافيا نفسها كانت سبباً في الازمات المتنقلة بين البلدين. فمع تأسيس «لبنان الكبير» عام 1926، ومنذ ذلك التاريخ يستطيع أيا كان ان يلمس نظرة «عدم الثقة» اللبنانية حيال النيات السورية. فالبلدان لم يتبادلا السفراء قط منذ استقلالهما في الاربعينات، في خطوة فسرت بانها عدم اعتراف سوري بوجود لبنان، رغم المحاولات اللبنانية العديدة والتي تتجدد حالياً. كما انهما لم يرسّما الحدود بينهما بشكل دقيق، ما أوجد اكثر من ثغرة، ابرزها واقع مزارع شبعا التي يطالب اللبنانيون اسرائيل بالانسحاب منها ويعتبرها المجتمع الدولي سورية حتى اشعار آخر.

ويتحدث الخبير الاستراتيجي الدكتور نبيل خليفة، في كتاب نشره مطلع العام 2006، عن ثمانية هموم تحكم النظرة السورية الى وضعها في لبنان، ابرزها الاعتبارات الامنية، كون لبنان هو «الخاصرة الرخوة» لأمن سورية، موضحاً ان الاستراتيجيين السوفيات كانوا يحذرون سورية دائماً من «ان اي هجوم اسرائيلي على دمشق سيتم عبر سهل البقاع».

وكان الأمين العام للأمم بان كي مون قد أوفد فريقا جديدا لتقويم الوضع على الحدود اللبنانية ـ السورية للتحقق من مزاعم تدفق الأسلحة الى لبنان عبر هذه الحدود. وقد استنتج «الفريق المستقل لتقويم الحدود اللبنانية» في تقرير سلمه الى الأمين العام للأمم المتحدة وأحاله الاخير على مجلس الأمن، ان «وجود مخيمات فلسطينية مسلحة في منطقة الحدود (اللبنانية ـ السورية) يشكل عائقا رئيسيا لفكرة الضبط الأمني للحدود، وكذلك لتنفيذ تصور أمن حدودي متكامل». ولاحظ ان «عدم ترسيم الحدود (اللبنانية) مع سورية يشكل مصاعب اضافية في طريق ضبطها بصورة فاعلة، ويسحب من اجهزة أمن الحدود الاستعداد والرغبة في التدخل في المناطق التي لم يتم ترسيمها بصورة واضحة». وخلص الى ان «هناك حاجة فورية ماسة الى اتفاق سياسي في هذا الصدد» في إشارة الى ضرورة ترسيم الحدود بين لبنان وسورية.

وتحدث التقرير عن «السهولة القائمة حالياً في عمليات إخفاء السلاح والمواد ذات الصلة بالسلاح، والتي تخبأ داخل شحنات سرية على متن شاحنات تعبر مناطق غير نقاط العبور الاساسية على الحدود البرية». وتقدم الفريق المستقل بـ11 توصية محددة ومفصلة لضبط الحدود وتحسين القدرات على منع التسلل وتهريب السلاح والعناصر المسلحة.

وتنص التوصية الأولى على ضرورة «إنشاء قوة متحركة مشكلة من أجهزة أمنية واستخبارية لتركز على تهريب السلاح بهدف التوصل الى نتائج في فترة زمنية قصيرة. وتكون نموذجاً لأجهزة أخرى لتأمين الحدود يقدر لها ان تكون نقطة انطلاق لجهاز في المستقبل يتولى مسألة حماية الحدود».

وأوصت ايضا بـ«نشر خبراء حدود دوليين» وبـ«إنشاء جهاز مخصص لحراسة الحدود كجزء من استراتيجية بعيدة المدى، وانشاء مناطق عبور تخضع لسيطرة حازمة وكاملة، واتخاذ إجراءات للفصل بين النشاطات الشرعية عبر الحدود وتلك غير الشرعية عبر إقامة آليات تزيل الغموض». وأشار التقرير إلى جهود الاجهزة اللبنانية في محاولتها منع تهريب الاسلحة، وبالذات من خلال نشر القوات اللبنانية المسلحة في المنطقة. كما أشار الى «المستوى الجيد» في فهم الاجهزة الأمنية لمهمتها في إطار تنفيذ القرار 1701. لكنه رأى ان استراتيجية ضبط الحدود الحالية وطبيعة الأرض والوضع الراهن للمعدات المتاحة والتدريب، وكذلك الاجراءات العملية، أي المعاملات والبنية التحتية في نقاط عبور الحدود، كل ذلك يجعل تهريب السلاح عبر الحدود ممكناً من دون كشف أمره. وتناول التقرير المكوّن من 40 صفحة تفاصيل دقيقة ومفصلة لما يحدث في «المنطقة الخضراء» على الحدود اللبنانية ـ السورية، لا سيما أن هناك تداخلا في الأراضي اللبنانية والسورية، وهناك ايضا امتداد فلسطيني مسلح بين الأراضي اللبنانية والسورية.

تمتد الحدود اللبنانية ـ السورية 260 كيلومتراً. وهي تضم ما يقارب 72 نقطة عبور بين البلدين، أربع منها فقط رسمية. وهي نقطة المصنع التي تصل بيروت بدمشق، نقطة العبودية التي تصل مدينة طرابلس بمدينة طرطوس السورية، بالإضافة إلى نقطة العريضة في الشمال أيضاً، ونقطة جوسية ـ القاع التي تصل بعلبك والقاع بمدينة حمص. أما البقية فهي عبارة عن طرق غير معبدة أو طرق في الجبال أو حتى جسور صغيرة غير مجهزة وبعض هذه الطرق والمعابر غير الرسمية يستخدمها لبنانيون وسوريون لـ«التبادل التجاري» على نطاق فردي.

ويرى العميد المتقاعد من الجيش نزار عبد القادر أن هذه المشكلة مزمنة كان يعاني منها لبنان في السبعينات، كما عاناها في العام 1958، معتبرا ان «انعدام التعاون الأمني بين الدولة السورية والدولة اللبنانية يجعل المهمة معقدة جداً اذا لم تكن مستحيلة». ويشير الى ان «كل الحدود صالحة لأن تكون ممرات وبأقل كلفة ممكنة وأقل جهد ممكن» ملاحظاً ان الدولة اللبنانية «ما زالت تتساهل أيضاً من جهتها في ضبط الحدود وتهريب بعض المواد كمادة المازوت من سورية». واستغرب عدم وجود «تنسيق فعلي بين الأجهزة الأمنية اللبنانية سواء في المصنع أو في المطار أو في أي مكان آخر».

وقال: «ما زالت الأجهزة الأمنية تعمل وكأنها في الواقع جزر أمنية مستقلة عن بعضها بعضا، كما ان التوظيف السياسي الموجود داخل الأجهزة اللبنانية يجعل إمكانية التنسيق الفعلي وخاصة في أماكن حساسة كالحدود ومنع عمليات التهريب المموه وخاصة على ممرات حتى تلك المراقبة من قبل الدولة مهمة شبه مستحيلة». يشار الى ان الأمين العام للأمم المتحدة اثار موضوع مراقبة الحدود مع السلطات السورية خلال زيارته الى دمشق، لكنه ووجه برفض سورية اقتراحه نشر قوات من الامم المتحدة على الحدود من اجل مراقبة تهريب الاسلحة الى لبنان. وقد اعرب، في تقريره عن تنفيذ القرار 1701، عن قلقه إزاء التقارير والإعلانات الصريحة لـ«حزب الله» التي تشير الى «خروقات لحظر السلاح» وتشكل انتهاكاً جدياً له. وقال ان «كل دول المنطقة، خصوصاً الجمهورية العربية السورية والجمهورية الاسلامية الايرانية، عليها مسؤولية رئيسية في هذا الصدد. وان مثل هذه الانتهاكات تهدد بضرب استقرار لبنان والمنطقة بكاملها». وتشكل السلسلة الشرقية لجبال لبنان حدوداً طبيعية مع سورية. وتمتد من مرتفعات شبعا وصولا الى الهرمل حيث تشهد المناطق الحدودية تداخل عدد كبير من البلدات جغرافياً، لكنها تنتمي ادارياً الى منطقة القصر اللبنانية. وهذه البلدات تمثل جغرافيا خطوط تماس مع سورية وتشهد انتشاراً واسعاً لألوية ووحدات الجيش اللبناني خصوصا فوج التدخل الاول والتدخل الثامن والفوج المجوقل. وفي اواخر ابريل (نيسان) 2005 تعزز تمركز الوحدات في قطاع ينطا وعيتا الفخار من اللواءين الثامن والمجوقل. وفي العام 2006 تعزز في منطقة البقاع الشمالي والقاع وصولاً حتى مناطق الهرمل من قبل فوج التدخل الاول. وجاءت خطوة انتشار الجيش اللبناني والقوات الدولية في الجنوب التي زارت المنطقة اكثر من مرة وجالت على المعابر غير الشرعية في البقاع، تطبيقاً للقرار الدولي 1701 الذي ينص في أحد بنوده على مراقبة الحدود اللبنانية ـ السورية ووقف عمليات التهريب عبرها، خصوصاً في ما يتعلق بتهريب الاسلحة والذخائر من سورية الى لبنان.

ويبلغ طول هذه السلسلة اكثر من 110 كلم، وتتمركز في أعلى نقاطها عند قمة حرمون (2814 متراً) قوة من المراقبين الدوليين منذ العام 1973. وتشكل تبعاً لجغرافيتها على امتداد الحدود اللبنانية ـ السورية منحدرات وأودية عميقة وممرات ضيقة وطرقاً جبلية وعرة لا يمكن عبورها إلا بواسطة سيارات الدفع الرباعي والبغال والحمير والجرارات الزراعية. وهناك نقطة المصنع اللبناني ـ جديدة يابوس ونقطة القاع ـ ساقية جوسية حيث يتمركز الأمن العام اللبناني والجمارك. وقد تم تركيب جهاز مسح (سكانر) بتمويل ومساعدة ألمانية اواخر شهر تموز (يوليو) الماضي عند نقطة المصنع لكشف أي اسلحة او ذخائر او صواريخ يمكن ان تهرب الى لبنان بواسطة الشاحنات والبرادات العابرة. وقد اصبح هذا الجهاز موضع شكوى السائقين الذين يضطرون الى انتظار دورهم في عمليات التفتيش التي تستغرق وقتاً طويلاً، إذ تحتاج الشاحنة لمدة يومين أو ثلاثة كي تستطيع الدخول الى ساحة المراقبة وعبور مسافة تقل عن 3 كيلومترات.

وزارت «الشرق الاوسط» نقطة المصنع حيث لاحظت وجود اكثر من 120 شاحنة عادية ومبردة وسيارة نقل تنتظر دورها لدخول الاراضي اللبنانية والخضوع لعملية تفتيش بواسطة الـ«سكانر». وقال احد سائقي الشاحنات، خالد محمد ابو هكل: «سننتظر يومين ليأتي دورنا بعد هذا الطابور من الشاحنات. انظر الى بيان البضائع، انه يحتوي منتجات زراعية ومع ذلك يقومون بتفتيشنا على السكانر. يا اخي، من يريد ان يهرب صواريخ غير مضطر للعبور من نقطة المصنع».

السائق الاردني عدنان سالمة قال لـ«الشرق الاوسط»: «حمولتي خضار مشكلة وقادم من الاردن. وفي الحمولة بطيخ وخس. ويلزمني يومان لقطع مسافة 3 كيلومترات. لا اعرف اذا كان فحص البضاعة على السكانر يؤذي ام لا». وخلال الاسبوعين الماضيين شهدت السلسلة الشرقية تعزيزات واسعة بالمدرعات والآليات وناقلات الجند والملالات والعناصر ومرابض المدفعية، اضافة الى توسيع الانتشار العسكري وصولاً الى مناطق متاخمة للحدود، فضلاً عن استحداث عشرات النقاط في المرتفعات والتلال والمناطق المتقدمة بهدف مراقبة ورصد اي تحركات غير مشروعة.

يشار الى ان عمليات التهريب ليست جديدة وقد بلغت أوج «ازدهارها» خلال الوجود السوري بإشراف ومتابعة من ضباط المخابرات السورية وبعض الموالين في الداخل، فضلاً عن المهربين الصغار على جانبي الحدود. ويشمل التهريب كل انواع السلع والبضائع تبعاً لحاجات السوق في البلدين، من جهة، وانخفاض الاسعار التي تناسب الطبقات الفقيرة، من جهة اخرى، بدءاً من تجارة الماشية والحديد والادوات الكهربائية على انواعها الى المواد الغذائية ومن ثم المازوت والغاز والبنزين وغيرها من المواد.

* أزمات الحدود بدأت منذ الاستقلال.. ولم تنته

* بيروت: «الشرق الاوسط»

* لم تكن أزمة الحدود بين البلدين، التي نجمت عن إقفال غير رسمي للحدود من الجانب السوري بعد الانتخابات النيابية التي فاز فيها معارضو دمشق بالاكثرية البرلمانية عام 2005، الأولى من نوعها، إذ سبقتها حوادث مشابهة وصلت في بعض الاحيان الى حد الاقفال التام للحدود لفترة طويلة.

ففي العام 1949، تاريخ اول انقلاب عسكري في سورية اطاح الرئيس المدني شكري القوتلي وأوصل حسني الزعيم الى الرئاسة، وقع الخلاف بين البلدين على كيفية ادارة «المصالح المشتركة». فأقفلت سورية حدودها مع لبنان ليوم واحد. وانتهى الأمر باتفاق على اعادة فتحها لم يكن جذرياً، اذ تكرّس الاختلاف الاقتصادي بين النظامين ووصل الى حد توجيه وزير المال السوري مذكرة الى نظيره اللبناني آنذاك يخيّره فيها بين «الوحدة الاقتصادية الشاملة او انفراد سورية بما تجده يضمن مصالحها».

وأتى تسليم سورية لبنان زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي انطوان سعادة في يوليو (تموز) 1949 (المتهم بالإعداد لانقلاب في لبنان) واعدامه. وقد رد لبنان بالموافقة على اتفاقية توحيد الانظمة المالية ومعادلة قيمة الليرتين اللبنانية والسورية ليشكلا «شهر عسل» وحيداً بين البلدين. ثم أتى انقلاب سامي الحناوي على حسني الزعيم بعدها بشهر، ثم انقلاب اديب الشيشكلي على الحناوي، ليضع حداً لهذا التوافق، فأعلن رئيس الوزراء السوري خالد العظم الانفصال الجمركي بين البلدين عام 1950.

وأرفق العظم هذه الاجراءات بهجوم عنيف على السلطات اللبنانية محملاً رئيس الوزراء آنذاك رياض الصلح مسؤولية الإقدام على هذه الخطوة التي تضمنت قيوداً على التبادل بين البلدين في البضائع والاشخاص. لكنه بعدها بثلاث سنوات حل لاجئاً على لبنان بعد اقل من شهر على افتعاله أزمة حدودية بين البلدين انتهت بإقفال الحدود لبعض الوقت. اذ حصل انقلاب حزب البعث في مارس (اذار) 1963، فأقفلت السلطات السورية الحدود وتصاعد التوتر الذي تطور الى مواجهات عسكرية عندما نفذت قوة سورية في سبتمبر (ايلول) 1963 هجوماً على قرية الطفيل اللبنانية (التي لا طريق تؤدي اليها الاَّ عبر سورية) بعد اتهام سورية الاجهزة الامنية اللبنانية بالتورط في تهريب عبد الحميد السراج. كما هاجمت قوات سورية في اكتوبر (تشرين الاول) من العام نفسه مراكز رسمية لبنانية في عنجر بعد رفض وزير الداخلية اللبناني إعطاء ترخيص رسمي لحزب البعث في لبنان.

وأقفلت الحدود مجدداً بعد الانقلاب على الرئيس السوري امين الحافظ عام 1966. ثم اقفلت في يوليو (تموز) 1969 بسبب الخلاف على الرسوم الجمركية، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه بعد اشتباك الجيش اللبناني مع المسلحين الفلسطينيين. أما الازمة الحدودية الكبرى، فقد حصلت عام 1973 واستمرت ثلاثة اشهر. اذ اقفلت سورية المنافذ الحدودية مع لبنان نحو شهر بالتزامن مع هجمات نفذها جيش التحرير الفلسطيني المدعوم من سورية على مراكز حدودية لبنانية في مايو (ايار).