الصينيون الجدد.. بعيون زرقاء

الحياة الغربية تسيطر على المجتمع.. وتمازج بين الشيوعية والرأسمالية

سائحة تستمتع بوقتها خلال احتفالات دولية اقيمت في شرق الصين التي بدأت تنفض غبار الشيوعية (إ.ب.أ)
TT

بعيدا عن التنين الصيني وتقدمه الهائج في عالم الاقتصاد العالمي.. وبعيدا أيضا عن مشكلة التبت وما يتبعها من ضغوط تهدد شيئا من أولمبياد بكين المقبل، فإن الدالف للمدن الرئيسية في الصين، لابد أنه سيدهش لهذا التحول الكبير في المجتمع المحلي. فبعد عقود طويلة من الشيوعية المسيطرة على كافة مناحي الحياة في بلد يعيش فيه أكثر من 1.3 مليار نسمة، جاء التغير المنظور في ثنايا المجتمع الصيني من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، كل هذا مع بقاء الحزب الحاكم على سياسته القمعية.. فما الذي تغير في الصين؟

فتاة تدخل إلى مقهى ستاربكس الشهير وتستمتع عبر الآي بود إلى أغاني غربية.. شاب يرتدي ملابس على الطريقة الأميركية منزويا في أحد أركان مطعم ماكدونالد.. وطلاب مدرسة ابتدائية يخرجون في رحلة مدرسية إلى نهر التاريم في شنغهاي بينما معلمتهم تحكي لهم قصة باللغة الإنجليزية، ما هذه إلا مشاهد معدودة من الحكاية الصينية الجديدة.

وعندما تتحدث مع الجيل الجديد من الصينيين فإنك لن تجد منهم تبرما من غلاء الأسعار في بلادهم، ولا عن الازدحام الذي يغلق الطرقات أحيانا لساعات، ناهيك عن السياسة المحرم الحديث عنها بتاتا، لكنهم يشعرون بأنهم جيل محظوظ لأنه شهد هذه التحولات الكبرى في بلادهم، في الوقت الذي يتحدث علماء الاجتماع عن المجتمعات المدنية لا يمكن تغييرها جذريا إلا عبر أجيال وأجيال.

جيم تنغ لي يعمل في محلات شانيل الشهيرة في مدينة شنغهاي، يرتدي ربطة عنق من ماركة شهيرة، ويتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة، ويعتز بكونه من الجيل الذي يشهد تغيرا كبيرا في بلاده، يشير إلى أن بلاده لديها من المقومات الكثير مما يمكن لها «أن تتسيد العالم وبقوة»، معتبرا أن جيله من الشباب يقع على عاتقهم مهمة كبيرة «بتعريف العالم بالصينيين الجدد».

وبالرغم من الانفتاح، على الأقل نسبيا، للصين في السنوات العشر الأخيرة، وتحديدا منذ انضمام الصين لاتفاقية التجارة العالمية في 2001، إلا أن الصورة التي تأتي من هنا تختزل صورة الصين إما بالابيض أو بالاسود، وهو ما لا ينقل الصورة الحقيقية لها، فما بين المحظورات السياسية التي يفهمها الصينيون جيدا ويتمسكون بها، وما بين الإصلاحات الاقتصادية التي تدفع بها السلطات الصينية لتغيير الفكر الشيوعي السائد، تقع منطقة وسطى استغلها الشعب الصيني للترويج لبلادهم، وكل يقوم بأسلوبه وطريقته التي يرى أنها تساعد على نهضة بلادهم.

وإذا ما كانت الصورة النمطية للصين، كونها بلادا شيوعية، تعطي انطباعا بأن الشعب الصيني يأخذ موقفا من الآخر، فإن ذلك لا يبدو واضحا بينهم، على الأقل في المدينتين الرئيسيتين بكين وشنغهاي، فعبارات الترحيب، على الطريقة الأميركية، تنطلق بمجرد دخولك محلاتهم التجارية أو مطاعمهم أو مقاهيهم، فيما بانت الصورة بشكل لافت، في طريقة تقبلهم لغرباء يرتدون اللبس الخليجي، وهو ما لايزال يعطي انطباعا سيئا للرجل العربي في الغرب الأكثر انفتاحا، غير أن الصينيين لم يبدو أن استغراب من مشاهدة أشخاص يسيرون بهذا الزي بينهم، في اسواقهم ومراكزهم التجارية وفي فنادقهم، وربما لو أن خليجيا لبس مثل هذا الزي في بلد عربي لوجد استغرابا، فكيف بأشخاص ربما لم تقرأ عن هذا الزي وتشاهده لأول مرة، إلا أنها تأقلمت معه ولم تبد أية صورة سلبية عنه.

فلوريان كيتلير مدير فندق شانغريلا في العاصمة بكين، وهو أوروبي عمل في دبي قبل انتقاله للصين التي يقيم فيها منذ أربع سنوات، يقول «لم أكن أتوقع أن تكون الحياة في الصين بهذه الطريقة التي وجدتها عليها، جئت من دبي وتوقعت أن أجد فارقا شاسعا بين المدينتين، لكني الآن ما أزال مندهشا من الترحيب الصيني بالغربيين عموما، وبأسلوب حياتهم المنضبط بصورة لم أتخيلها، أضف إلى ذلك الانفتاح الكبير على الآخر».

النموذج الغربي يبدو جليا في نواحي كثيرة في الصين، وبعلم السلطات، التي يبدو أنها تغض النظر كثيرا عن مثل هذا التغير في الشباب الصيني بصفة خاصة، بالنوادي الليلية تنتشر في كل زاوية، ومراكز التسوق تعج بالماركات العالمية مثل: لويس فيتون وارماني وغوتشي وفيندي وبولغاري وغيرها، فيما المصطلحات باللغة الانجليزية أخذت دورا لها في اللغة الصينية نفسها، التي لا يبدو أن الصينيين، على الأقل حتى الآن، على استعداد لوضعها على قائمة أجندتهم.

وللغة الصينية قصة تستحق أن تروى، فالسلطات لا تمنع تعلم الإنجليزية، ولكنها أيضا لا تشجع عليها في نفس الوقت، تسمح للمدارس بتعلم قسط منها، ولا تقبل أن يتم التحدث بها في أية فعالية، حكومية أو حتى تابعة للقطاع الخاص، فإما الحديث بالصينية، وإلا فإن الترجمة إلى العربية، وغيرها، حاضرة لديهم وبقوة.

وهنا يقول سامي الريامي رئيس تحرير صحيفة الإمارات اليوم «قابلت شابين في المصعد وكانا يتحدثان العربية وبطلاقة، وتبادلت التحية مع الأخوين الصينيين لوداعهما، لكني كنت أحمل الكثير من الأسئلة في خاطري، تتمركز حول إصرارهما على تعلم اللغة العربية؟ وكيفية اتقانها؟ وقبل ذلك كله.. لماذا فضلا دراسة اللغة العربية دون سائر لغات العالم؟».

ويشير الريامي أن هذين الرجلين وغيرهما الكثير من الصينيين سلكوا طريقهم نحو التميز عن طريق تعلم اللغة العربية، «طبعاً لأنهم وببساطة يملكون مؤهلاً يميزهم عن المليار ونصف المليار صيني الآخرين، وبالتالي فلقد فتحت اللغة العربية لهم أبواب الرزق، والعمل، والحصول على ميزات ورواتب عالية. ويعتقد الريامي أن الصين مقبلة على تعاون وانفتاح غير مسبوق مع الدول العربية بشكل عام ودول الخليج بشكل خاص، وهناك تبادل تجاري واستثمارات تقدر بعشرات المليارات. وفي الوقت نفسه بدأت الشركات الصينية تتجه نحو أسواق دول مجلس التعاون، وبالتالي فإن الزيارات المتبادلة تكاد تكون شبه يومية بين الصين ودولة من الدول العربية، إذن هذا النشاط كله يتطلب الاستعانة بالمترجمين الصينيين الذين درسوا اللغة العربية وأتقنوها، ليضمنوا بذلك تميّزاً عن غيرهم.    أما رجال الأعمال الصينيون فإنهم بالتأكيد أكثر المحظوظين في بلادهم، فسلطاتهم فتحت لهم باب الانفتاح الاقتصادي على مصراعيه، ووضعت لهم قدما داخل الصين وأخرى خارجها، فإن هم ارادوا جذب الاستثمارات فأهلا وسهلا، وإذا ارادوا تصدير المنتج الصيني، فالعالم متعطش للواردات الصينية التي تثبت يوما بعد الآخر أنها ليست من الدرجة الثانية بعد الغربية، كما كانت تصور دائما.

وإذا كانت فكرة أن المنتج الصيني هو أقل الصناعات جودة قد سيطرت على المستهلكين في فترات طويلة، وكانت على حق حينئذ، فإن الخلطة الصينية الحديثة استفادت جيدا من تراكمات سابقة في الوصول إلى اسواق العالم بأقصر الطرق، ما يهمنا هنا أن الشعب الصيني يلفت الأنظار بحرصه على إتقان صنعته بدقة متناهية، سواء كان عامل فندق أو في مصنع أو حتى ساعي بريد.

الدكتور عبدالله المدني المتخصص في الشؤون الآسيوية يلفت إلى الصين، في سياق رغبتها في تأسيس صناعة على مستوى عالمي، قامت بجملة من الإجراءات الرقابية الهادفة إلى التزام اكبر بمعايير الجودة والسلامة العالمية، ومعاقبة المسؤولين عن الغش والفساد والتحايل مع إغلاق المصانع المسؤولة عن الإساءة إلى سمعة البلاد أو إلغاء تراخيصها، ممهدة العملية بالقول إن سرعة تنامي أسواق الصادرات الصينية وزيادة الطلب العالمي عليها جعلت بعض المصنعين يهملون أو يتساهلون مع بعض معايير الجودة والأمان. وقد تجلت هذه الإجراءات في إلغاء تراخيص نحو 300 مصنع صغير لإنتاج الألعاب، وتكثيف حملات التفتيش ولا سيما في إقليم غوانغدونغ المزدهر الذي يعتبر رئة البلاد الصناعية، وتحميل الحكومات المحلية التي تقع المصانع غير الملتزمة في نطاقها مسؤولية وقوع أخطاء أو عمليات غش بدلا من تحميل المسؤولية لأجهزة الرقابة القومية، وفتح حوار جاد مع كبار الشركاء التجاريين حول اشتراطاتهم وملاحظاتهم.

ولعل هناك ما يشير إلى أن التغير الذي يشهده المجتمع الصيني، وتحديدا الجيل الحالي، هو نتاج لخطوة السلطات بتحديد النسل بين الصينيين، وهو ما انعكس إيجابا على فكر الأسرة الصينية بالتركيز على تربية الأبناء كيفا لا كما، فقبل عشرين عاما تقريبا بدأ عدد كبير من الناس الاستجابة بأن يكون لكل زوجين طفل واحد. صحيح أن الدفعة الأولى من أجيال الطفل الواحد وجدت اهتماما كبيرا سواء داخل الصين أو خارجها، بعد اتهامهم بصفات غير محبذة ليس اقلها التكبر والتعسف والأنانية وعدم الرغبة في المشاركة والتعاون مع الآخرين، إلا أنها من الجانب الآخر فتحت آفاقا جديدة للشباب الصيني الذي بدأ يتعلم قيمة أهميته كفرد منتج داخل المجتمع. وعندما سألت النادلة في أحد المطاعم الفخمة في العاصمة بكين عن تأثيرات قرار الطفل الواحد، قالت «ابلغ من العمر 24 عاما ووالدي مزارعان لم ينجبا سوى ولد وبنت، فتربيت مع شقيقي منذ الصغر على أن اهتمام والدي بنا يجب أن ينعكس على مستقبلنا ومستقبل الأسرة، صحيح أنا أقيم حاليا لمفردي، لكني أدين بالكثير من الفضل لأسرتي التي صنعت مني مواطنة منتجة، بدلا أن أكون واحدة من عشرات الملايين من الشباب الذين لم يجدوا غير الفلاحة طريقا وحيدا لهم».

بقي أن نشير إلى تقاطع الشيوعية مع الرأسمالية لاتزال حاضرة في ثنايا المجتمع الصيني، فأمام سور الصين العظيم وقف رجل سبعيني يجر بضاعته سيرا على الأقدام على عربته، أمام مقهى ستاربكس وأخذ فنجان من القهوة، وولى أدباره ماسكا كوب القهوة في يد، بينما حبل العربة يلف حول صدره مكملا طريقه لتسويق بضاعته، هذا التمازج الشيوعي الرأسمالي لايزال في صراع مثير بين أفراد الجيل القديم من الصينيين، أما الجيل الحديث، فمن الواضح أنهم لم يفوتوا فرصة الانفتاح الاقتصادي الذي منحته لهم سلطة بلادهم، للقفز على شيوعية الفقر التي تقهقرت بالمجتمع الصيني عشرات السنين خلف أمم أقل منهم إمكانيات، فهل هذا هو عصر الصينيين الجدد؟