كيب تاون.. قبة التناقضات العنصرية

في المدينة التي جسدت العنصرية.. وما بعد العنصرية

كيب تاون.. تعكس تطورات جنوب افريقيا سلبا وايجابا («الشرق الأوسط»)
TT

«اذا قال الله نعم من يمكنه ان يقول لا». عبارة مرفقة بصورة الزعيم الجنوب افريقي نيلسون مانديللا تطالعك في كثير من الامكنة «السوداء» في كيب تاون، العاصمة البرلمانية لدولة جنوب افريقيا. لا تملك الا مقارنتها بلائحة التعليمات الامنية تسبقك الى المدينة الرابضة عند رأس الرجاء الصالح حيث يلتقي المحيطان الهندي والاطلسي في مشهد أخاذ. النصائح المكثفة تقضي بعدم التزين بأي نوع من انواع الحلي الحقيقية او المزيفة، كذلك الاستغناء عن حقيبة اليد اذا كان ذلك ممكنا. وايضا باتخاذ اقصى درجات الحيطة والحذر ليس فقط خلال التنقل وانما كذلك خلال الاقامة في الفندق. مثلا اقفال الباب من الداخل بالمفتاح دائما والبقاء في الغرفة اثناء تنظيفها او وضع عبارة «ممنوع الازعاج» لدى المغادرة للحؤول دون دخول اي عامل او موظف الى الغرفة. قد يستغرب زائر كيب تاون هذه التعليمات المشددة، ليأتيه الجواب فورا: «الا تعرف الى اين انت ذاهب؟ هناك قد يقتلون من اجل ساعة يد او هاتف محمول». الشرطي الأسود الذي استوضحته «الشرق الأوسط» الامر، قال لنا «ان الحديث عن الخطر مبالغ به. هناك بعض الشغب. غالبا ما يرتكبه مراهقون لم يبلغوا سن الرشد. ولا نستطيع توقيفهم من دون اجراءات تفرضها بيروقراطية تنفيذ القوانين الحالية ما يسمح لهم بالتواري عن انظارنا. عندما تتم معالجة هذه البيروقراطية قد نتمكن من ضبط الوضع».

الجريمة موجودة لكن ليس بالشكل المقدم الى السائحين، وهي من بين التحديات الكبرى في جنوب أفريقيا، الا ان معظم الجرائم «محلية» وفي أماكن غير سياحية بالتأكيد. ولعل مؤسسات الأمن الخاص تؤشر الى هذه القضية والتباساتها.

فالزائر المشبع سلفا بجرعة كبيرة من الارشادات والنصائح، يحس بأن هناك سعياً الى تكبيله بالخوف من الاسود «الذي لا يملك الا العنف». لا يعرف من هو صاحب هذه النصائح، فاللائحة التحذيرية المرفقة ببرنامج المؤتمر الذي كنا نشارك فيه بدعوة من صندوق الامم المتحدة للسكان لمتابعة اعمال الصحة الانجابية، لا احد يتبناها. وعندما يخرج الزائر الى المدينة المسورة بالجبال والمفتوحة على المحيطين الهادئ والاطلسي يخلع خوفه تدريجيا ويبدأ الاستمتاع بطرازها المعماري. لوهلة يشعر بأنها بريطانية أكثر من لندن وشوارعها الكوزموبوليتكية، وأن منسوب الأمان لا يختلف على الاقل حيث تجولنا، ليس فقط في الاماكن السياحية وانما كذلك في مدينة الصفيح التي تحفظ ابشع دليل على الفصل العنصري الذي مورس بحق السود. لكن سرعان ما يتبين له ان المبالغة «مفبركة» لأسباب أخرى. قبل الاستفاضة لنضع الامور في سياقها الجغرافي والتاريخي. نحن نتحدث عن جنوب افريقيا التي يصل عدد سكانها وفق احصاء 2007 الى 48،5 مليون نسمة، منهم 79،5 % من السود و9،2% من البيض و8،2 % من المختلطين (الخلاسيين) و2،5 % من الاسيويين. وهي دولة الاثنيات الاكثر تنوعا في العالم، كما انها أكثر الدول التي تضم النسبة الاكبر من «الملونين» البيض والهنود. يسميها البعض «قوس قزح» لإظهار التناقض الحاد بين مجموعاتها السكانية التي كانت تصطدم بعقيدة الفصل العنصري. نتحدث كذلك عن أكبر قوة اقتصادية في القارة الافريقية، وهي بلاد غنية تسيطر على ربع الدخل القومي الخام في افريقيا. وتاريخيا، بالنسبة إلى العالم الخارجي، تتميز جنوب افريقيا بموقعها الجغرافي كونه أقصر طريق من أوروبا إلى آسيا، لهذا السبب الأول استقطبت الاستعمار الهولندي (1652) ثم الاستعمار البريطاني (1795). لاحقا، أدت اكتشافات الذهب والأحجار الكريمة والألماس وفلزات الكروم والفانديوم والبلاتين والفحم وفلزات الحديد والأورانيوم، الى تهافت الطامعين بالثروات اليها وباستقدام العبيد للحاجة الى اليد العاملة واستخراج الكميات الكبيرة من هذه الثروات.

لذا تتسم جنوب أفريقيا بتنوع عرقي وثقافي واسع، وينعكس ذلك في عدد اللغات، واللهجات. فاللغة الأم لمعظم البيض كانت «الأفريكانية» التي يتحدث بها 56% منهم، والإنجليزية التي يتحدث بها 36%. أما الذين يتحدثون لغة «الزولو» فهم حوالي 7.6 مليون شخص، والذين يتحدثون «أكسوزو» حوالي 3 ملايين، والمتحدثون بلغة الـ «سوزو» حوالي 7.6 مليون، ولغة الـ «تسونجا» أكثر من 1.5 مليون من السكان، أما الـ «فيندا» فيتحدثها 200 ألف. وفي حين يقول التاريخ الحديث ان الرحالة الايطالي ماركو بولو هو الذي اكتشف منطقة رأس الرجاء الصالح، حيث تقع كيب تاون، واطلق عليها هذا الاسم الذي يدمغ كل ما يرتبط بالرأس في جنوب افريقيا، يتساءل بعض المؤرخين ما اذا كانت هذه المدينة بالنسبة للرحالة الغربي تقع في اسفل الخريطة التي استعملها للوصول الى ذلك المكان فلماذا اطلق عليها اسم «القبة» (كاب تاون)؟. يرى هؤلاء انه كان الاجدر ان يسميها «القعر». ويرجح بالتالي ان الذي اطلق عليها هذا الاسم هو رحالة مجهول كان يستعمل خريطة (مقلوبة) تشبه الخرائط التي وضعها الجغرافي العربي الادريسي او ممن هم قبله بقرون عديدة من الجغرافيين، لان الخريطة التي وضعها الادريسي انما تبرر تسمية هذه المدينة باسم (القبة) فهي في هذه الحالة تقع في اعلى الخريطة في القارة الافريقية التي تظهر في الخريطة المقلوبة وكأنها (قبة العالم). وهكذا فإن الذين اطلقوا اسم القبة على هذه المدينة هم اجداد الرحالة العرب الذين جابوا الارض منذ اقدم العصور. وربما هم «الفينيقيون الحمر» او «الحميريون» الذين كانوا يجوبون البحار والمحيطات في العالم القديم.

وبمعزل عن التاريخ والجغرافية و«الشائعات المغرضة» لا بد لزائر المدينة ان يستنتج ان الجحيم والنعيم يجتمعان في كيب تاون. وبعد انبهار بالنظافة والتنظيم سواء في الشوارع او الفنادق او المطاعم او حتى في مخيمات الصفيح البائسة، لا بد ان يذهل حيال التغيير الكبير الذي انجز خلال اعوام في هذه البقعة من الارض التي شهدت افظع نظام عنصري والغائي واستعماري واستكشافي لم يشهد له مثيل اي مكان آخر، وتحديدا من خلال اقناع الاكثرية السوداء والملونة في الدخول الى لعبة المواطنة والمساواة مع البيض، ومن دون عنف. فالذاكرة ستصارع العين عندما نراهم جنبا الى جنب في «لونغ ستريت» أحد اكبر شوارع كيب تاون وهم يتحادثون ويتنزهون ويتناقشون بهدوء، او يجلسون الى طاولة في احد مقاهي الرصيف في حين انه قبل 15 عاما كانوا تحت نير الفصل العنصري، كأن في الامر تحديا لكل العالم. لكن التعمق في المشهد يعطي جملة استنتاجات:

اولها ان علاقة الابيض بجنوب افريقيا كما يعكسها حضوره في كيب تاون حمالة اوجه، والحصول على الدلالات يمكن استنباطه عبر ميزان حساس. مثلا المكتبة التي يملكها ابيض لا تضم كتبا تتعلق بمعاناة السود وتوضح ما حصل لهم. تكتفي بالكتب السياحية والصور الجميلة. اما مكتبة السود ففيها ما يشبع النهم الى الاطلاع على هذه الفترة السوداء من تاريخ هذه القارة السوداء. وقد تسأل مواطنا ابيض عن أصوله، فيجيب بحزم: «انا جنوب أفريقي». تحاول معرفة البلد الذي كان ينتمي اليه في الاصل، تحاول معرفة المكان الذي جاء منه أجداده، فيقاطعك ويقول: «قبل جنوب افريقيا كنت من بطن أمي». تكتشف بعد ذلك أن بعض البيض يعتبر وجوده في هذا المكان حقه الشرعي وربما المقدس. فهم جاءوا الى هذه الرقعة الغنية من القارة الافريقية وصنعوها واستثمروا فيها وجعلوها جنة. وبالتالي لولاهم لما كانت الا ارضا فقيرة متخلفة لا حداثة فيها ولا تطور ولا نمو. هذه الفئة لم تتأقلم مع الديمقراطية الرامية الى فرض المساواة مع السود. هؤلاء يطيب لهم ان يوضحوا وبعبارات مدروسة حقهم الطبيعي في البلاد. هذا الحق الذي يتسرب شيئا فشيئا من بين ايديهم. يحرصون على اظهار سلوك رفيع نهضوي، يحاولون كسب ثقة الزائر وتعاطفه. أكثر من ذلك تأييده. ففي الفندق حيث نزلنا. سعى الموظف الاسود الى فرض تسعيرة صرف الدولار بنسبة أقل بكثير من السوق. نناقشه ويحتدم النقاش. زميلته البيضاء بقيت تتفرج علينا. ثم تدخلت عندما وصل الامر الى عقدة متوترة. سحبته الى الداخل. واوقفت النقاش الدائر. بعد قليل اتصلت بالغرفة ولبّت طلبنا بأناقة، موحية انها تتفهمنا ومعتذرة عن الخطأ الذي يمكن ان يحدث في أي مكان. لكن سرعان ما علمنا ان الاسود لا يملك حق التصرف اذا كان رب عمله ابيض. كما ان اي اخلال بالتعليمات لجهة اي حسم يسدده من جيبه. والابيض يحرص على البرهنة ان جماعته ليست كما قرأنا عنها خلال مرحلة الفصل العنصري. يرغبون في إقناعنا انهم ليسوا وحوشا بشرية وانما كائنات حضارية. وهم بالتالي يختلفون عن السود المتحدرين من ثقافة أخرى. يلوحون من دون كلام ان السود هم «الاخرون» الذين يعرفونهم ويعرفون خباياهم اكثر مما نعرف او اكثر مما يسمح لنا الاعلام الآتي من بعيد ان نعرف. وان الاسود سيطردهم فور سيطرته الكاملة على البلاد بعد فترة انتقالية تسمح له باستيعاب كل آليات الحكم. يراهنون على ان البلاد ستنهار بعد ذلك ويذهب تعبهم خلال قرون ادراج الرياح. ويمتعضون لأن الوقت لم يبرهن صدق نظريتهم ولم يحصل الانهيار المرجو. يرفضون هذا التسامح الاسود مع لجنة الحقيقة والمسامحة التي لم تطلب من الابيض الا الوقوف في حضرة محكمتها والاعتراف بالذنب ليذهب بعد ذلك لا وزر عليه.

قد لا يستفيضون مع عربي الا اذا كان «عنصريا» في ادائه الظاهر. لكنهم يرتاحون أكثر مع «بني بشرتهم» وان بقي الحذر سيد الموقف. يشيرون الى انهم بنوا هذه البلاد ومدارسها وجعلوها منارة العالم. يسعون ومن دون كلام احيانا الى لفت نظرك الى ان الحقيقة ليست في الصحف او الكتب، وانما في «نضالهم» لبناء ما نشهده بأم العين. وفي خوفهم من الاسود الذي قد يقضي على هذا النضال من اجل التطور والحداثة بغمضة عين. بالنسبة لهم لم يكن الاسود سينجز كل ما تم انجازه. التاريخ لا يعطينا امثلة عن امكانية حصول ذلك. نسبة من هؤلاء بقيت في كيب تاون، لكنها بقيت في عزلتها ولم تختلط مع «جيرانها» ولم تسمح لأولادها بالاختلاط. وهي تربيهم، كما يقول لنا تاباني من قبيلة الزولو، بالاسلوب العنصري الذي تربت عليه. ونسبة منها غادرت وعادت الى اوروبا لأن عنصريتها تحول دون قبولها بالسود مساوين لها، ناهيك بالشعور بالخوف منهم كردة فعل حيال ما ارتكبوا بحقهم. البعض الآخر من البيض يشعر بالذنب لأن آباءه واجداده استغلوا هذه المنطقة بشكل استعماري عنصري وتسببوا بكل هذه الجرائم التاريخية. كلمة «عار» (SHAME) تتوارى خلف نظراتهم. هؤلاء سعوا الى الاختلاط بالسود وربما السكن وسط تجمعاتهم الاكثر بؤسا كأنهم يتلون فعل الندامة، او كأنهم لا يصدقون ان الاسود غفر لهم بهذه السرعة. اما البعض الثالث فهو يعلن حبه لهذا البلد. يعتبره وطنه الطوعي. ولا يريد مغادرته مهما كان الثمن. لا يهمه اذا كان جاره اسود او ابيض او ملونا. كل ما يهمه ان يبقى في الجنة. كما تقول سيدة فرنسية حملت ثقافتها وأناقتها وطوعتهما لـ«تتأفرق» وتتنعم بهذه الخصوصية التي لا مثيل له في أي مكان آخر من الكرة الارضية كما أكدت لنا.

هذا عن البيض. ماذا عن السود؟

يقول تاباني: «نحن لم نكن طيبين الى هذا الحد قبل مانديلا. اليوم نحن نريد لكل من يأتي الى بلادنا ان يكون سعيدا. كما نريد ان نواجه من اضطهدنا بالهدوء». ويضيف: «التأثير الاوروبي علينا كبير. لكن ربما بعد 20 عاما سيكون التأثير الجنوب افريقي هو الطاغي. هذا ما نعمل لأجله. اما ظواهر هذا التأثير الاول فهي موجودة في اللغة والهندسة المعمارية وفي اسلوب بناء المزارع والاشجار التي غرسوها وتحتاج الى كميات من المياه الجوفية. لذا سنقطع هذه الاشجار التي تخرب التوازن البيئي ونكثف اشجارنا من صنوبر وارز ويرها والتي لا تؤثر على المياه الجوفية».

ويوضح أن «الانجليزية لم تكن لغة جنوب افريقيا لكن عندما قال مانديللا «Yes» بدأنا نتعلمها. الا ان هناك 11 لغة رسمية حاليا في جنوب افريقيا. كذلك بدأت اعادة اطلاق اسماء افريقية على المناطق التي نزعت عنها اسماؤها الاصلية واعطيت اسماء اوروبية».

يخبرنا ان قبيلة الزولو كانت تمنع بناتها من ارتداء الجينز. وانه قبل ثلاثة اشهر غامرت فتاة من الزولو بارتداء الجينز فهاجمها شباب القبيلة ومزقوه لها. ادعت عليهم وربحت الدعوى، ومنذ ذلك الحين بدأت الفتيات ارتداء الجينز ولم نعد نستطيع تفريق فتاة عن أخرى.

عن التخويف بالامن يشير تاباني الى أن «جنوب افريقيا مثل بلادكم – ليس صحيحا انها بلاد غير آمنة. الشرطة لا تلبي الشكاوى ضد الابيض. والضباط الكبار بيض وسود من جماعة القمع يتواطؤون. كل ما في الامر ان عليكم ان تكونوا في المكان المناسب وفي الوقت المناسب». ثم يسخر من التمييز العنصري فيقول: «نحن لا نختلف عنكم. كل ما في الامر ان الشمس لفحتنا لذا اصبحنا سود البشرة». ويقول: «في الظاهر انتهت العنصرية لكن في العمق الامور تختلف. مثلا هم يضيقون على عملنا في السياحة. يريدون ان نبقى سائقين على احسن تقدير. لكننا سنكلم السائحين عن معاناتنا. يريدون لنا ان نبقى في الطبقات الدنيا. وهم لا يزالون يسيطرون على مواقع معينة تسمح لهم بمنعنا من العمل. اذا تحدث احدنا عن معاناته كجنوب افريقي اسود، يقولون انه ليس من هذه البلاد وانما من زيمبابوي».

يضيف: «عندما تكتبين موضوعك. رجاءً ارسليه لي بالبريد». أسأله: «ماذا عن الانترنت؟».

يجيب: «حيث اقيم لا خطوط انترنت ولا مقاهي انترنت». يعلمني انه يقيم في «كيب شيب» وهي مدينة صفيح كان «المستعمرون البيض قد رموا فيها السود أبان الفصل العنصري».

عندما تعجز عن فهم المفردات في لغة محدثك الذي عاش المعاناة العنصرية، تكتشف انك لا تحتاجها. نبرة صوته تكفي لتفهم ما كان يحصل، كما في حكاية منطقة «دسكتريت 6» التي ارغم سكانها الاصليون على الرحيل لأن قوانين جائرة فرضت عليهم ذلك. ليتم هدم منازلهم بعد ذلك. كما يخبرنا براين وهو يقودنا الى متحف المنطقة التي ولد فيها وابعد عنها. ويشير خلال الجولة الى مسجد ليقول: «لم يوفروه. هدموه لكن اعيد بناؤه». ثم يضيف: «اقيمت كلية علوم التكنولوجيا بعد هدم منازلنا وتهجيرنا». ويتابع مهمته كدليل فيدلنا بإصبعه على مبنى مدرسة ويقول: «هنا كانت مدرستي. مع قانونهم الجائر بقيت المدرسة طوال سنوات من دون تلاميذ. اليوم عاد المكان الى تلاميذه بعد عودة العائلات».

لكن الملاحظ أن بعض المدارس لاتزال تحمل بصمات الماضي. في حين ان البعض الآخر اندمج كليا في العهد الجديد. يخبرنا بائع الكتب «الملون» ان المدارس بمعظمها لا تزال للجماعات المتعددة وليس للدولة. وبالتالي ارقاها هي تلك الاوروبية واقساطها غالية بحيث يتعذر على الناس المتوسطي الحال تسجيل اولادهم فيها. الامر الذي يسبب فجوة كبيرة بين فئات الشعب. يضيف ان المساواة على الارض لن تتحقق في ظل الفصل العرقي في المدارس.

وكانت السنوات من 1991 إلى 1995 مزدحمة بالمناقشات على المستويات كافة، لإجراء تعديلات دستورية تمهد للوصول إلى مجتمع غير عنصري، وكان التعليم إحدى قضايا هذه المناقشات.

ويعتبر السود إن نظام التعليم كان قد صُمِّم «لتأهيل أبنائنا ليكونوا عمالاً فقط». فمدارسهم كانت تتلقى ميزانيات أقل كثيراً من حاجاتها، كما أن نوع التعليم الذي كان يتلقاه التلاميذ يعد فقيراً وضعيفاً. هذا عدا التشويه الايديولوجي الذي كان يتضمنه منهج التعليم خصوصاً في عرض تاريخ جنوب أفريقيا. كما أن معظم المواد التي كانت تدرّس لا علاقة لها بالتطبيق اليومي في الحياة.

التصحيح الأكبر حصل عام 1994 حينما صدر الدستور المؤقت الانتقالي الذي قرر نظاماً تعليمياً جديداً، وإن كان تطبيقه ما زال يسير ببطء، لأن القوانين والتقاليد التي سادت سنوات طويلة لا تزال ترسم ضمنيا بآثارها خطوط العلاقات بين البيض والسود والملونين والآسيويين في جنوب أفريقيا.

وقد كان الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا قد قال: «لقد أوجدت سياسة «الأبارتهايد» العنصرية جراحاً غائرة مستديمة في شعبي، وسنمضي سنوات عديدة إن لم تكن أجيالاً لنُشفى منها».

الأبارتهايد (بالأفريكانية Apartheid أي فصل) هو نظام الفصل العنصري الذي حكمت من خلاله الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من عام 1948 حتى تم إلغاء النظام في الأعوام 1990- 1993 وأعقب ذلك انتخابات ديمقراطية عام 1994. هدف نظام الأبارتهايد إلى إيجاد إطار قانوني يحافظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية للأقلية ذات الأصول الأوروبية. وقد وضع هذا النظام قوانين لتقسيم الأفراد إلى مجموعات عرقية، أهمها: السود، البيض، الملونون والآسيوون (المكونة من هنود وباكستانيين). وتم الفصل بين هذه المجموعات، فاعتبر أفراد الأغلبية السوداء مواطني بانتوستانات (أوطان) ذات سيادة اسمية لكنها كانت في الواقع أشبه بمحميات الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأميركية. عمليا، منع هذا الإجراء الأفراد غير البيض ـ حتى لو أقاموا في جنوب أفريقيا البيضاء ـ من أن يكون لهم حق الاقتراع، إذ تم حصر تلك الحقوق في «أوطانهم» البعيدة. كما تم فصل أجهزة التعليم والصحة والخدمات المختلفة.

ومع أن نشأة الفصل العنصري عادة تنسب إلى الحكومة ا?فركانية المهيمنة على الحكم في الفترة 1948-1994 إلا أنه جزئيا هو تركة الاستعمار البريطاني الذي أدخل نظام إصدار القوانين في مستعمرة الكاب ومستعمرة ناتال خلال القرن التاسع عشر. واسفر ذلك عن تنظيم حركة السود من المناطق القبلية إلى المناطق التي يحتلها البيض والملونون ، والتي كان يحكمها البريطانيون. والقوانين المقيدة لحركة السود لم تكن تحظر حركتهم في هذه المناطق فقط ولكن ايضا تقيد حركتهم من منطقة إلى اخرى بدون تصريح موقع بالمرور. ولم يسمح للسود بالتواجد في شوارع المدن في مستعمرة الكاب وناتال بعد حلول الظلام ، وعليهم ان يحملوا تصريح مرور في كل ا?وقات. كذلك كانت جنوب افريقيا محمية عملياً من التدخل الخارجي النشط من خلال انحيازها للغرب ضمن إطار سياسة الحرب الباردة. وكان من جراء تلاعبها بالقول المأثور «إن الخطر الأسود يعادل الخطر الأحمر»، إضافة إلى أن حركات تحرر السود كانت بلا شك تُدعَم وتُموَّل من قبل الكتلة الشرقية. كان من جراء ذلك أن الحكومات المحافظة في الغرب، ولا سيما في أوروبا والولايات المتحدة، كانت تعتبر بريتوريا، المدينة التي اتخذها البيض عاصمة لهم، حصناً ضد النفوذ الشيوعي. ومع انهيار الامبراطورية السوفياتية ونهاية الحرب الباردة، أتيحت فرصة انفراج لجنوب افريقيا بعد زوال الطابع الايديولوجي للصراع. هذا في الماضي. ماذا عن الحاضر؟

صحيح أن السود هم من يحكم في الظاهر، لكن واقعهم اليومي لا يزال بائسا. فالفقر والأمراض تطارد أغلبيتهم ومعدل الوفيات بسبب فيروس فقدان المناعة «الايدز» هي من أعلى المعدلات في العالم، فالفقر والايدز تحديان كبيران في جنوب افريقيا. يضاف اليهما الجهل الذي ساهم في انتشار هذا الفيروس بسبب غياب الوعي بين السكان السود خاصة، ورغم أن الحكومة تخصص موازنات كبيرة لمواجهته. ومن علامات الجهل معتقد مفاده ان المصاب بالسيدا يشفى اذا اغتصب طفلة صغيرة، لذا تعيش الامهات العاملات رعبا حقيقيا طوال فترة عملهن. ولمساعدتهن والحد من مخاوفن انشئت في مدينة الصفيح «كيب شيب» حضانة تستقبل الاطفال من الصباح حتى السابعة مساء لحمايتهن. دار الحضانة فيها الاهتمام اللازم ولكن عدد الاولاد الذي يقارب الخمسين يضيق بالمكان الذي لا يتجاوز الثلاثين مترا مربعا على ابعد تقدير.

الا ان الواقع اليائس الذي يكتشفه «سائح باحث» لا يلغي ايجابيات كثيرة في كيب تاون حيث تنشط مشاريع التحضير لنهائيات كأس العالم لكرة القدم 2010 والتي ينتظر أن تحصد منها جنوب افريقيا عائدات كبيرة. فالتحضيرات الجارية على قدم وساق يلاحظها الزائر بداية في مطار «كيب تاون الدولي» الذي يجري توسيعه ثم في باقي أنحاء المدينة. كما يلاحظها عند أحد المرافئ حيث يتم تشييد الملاعب الاولمبية.

لكن مظاهر الاقتصاد الحر والنهضة المرافقة له لا تخفي عمق الهوة المتفاقمة بين الأغنياء والفقراء وهم من السود والملونين والآسيويين.

فالشوارع النظيفة والدور والابنية الجميلة وكل ما يوحي أن هذا البلد يعيش رفاها اقتصاديا لا تحول دون اكتشاف أشياء كثيرة تثير الانتباه، فالسيارات الفارهة يركبها البيض والمحلات الفاخرة يرتادها البيض في حين ترى السود يعملون في النظافة أو سائقي أجرة على أحسن حال، ذلك ان المسلمين الاسيويين يشكلون غالبية سائقي سيارات الاجرة في كيب تاون. بينما يعمل الكثير من السود في الفنادق حمّالي حقائب.

ولعل مشهد نادل يترنح آخر السهرة وهو يقدم الطعام يحمل مؤشر الوضع الاقتصادي للسود في المدينة. سألناه عن سبب الارهاق الذي يسيطر على ادائه، فأجاب: «اعمل دوامين كل يوم من السابعة صباحا حتى منتصف الليل». لا لزوم للتفسير.