لندن: ناصر التميمي

TT

قبل نحو 33 عاما قرر لاكشمي ميتال، برفقة صديق، الذهاب لقضاء اجازة في اليابان، وقبيل سفره طلب منه والده ان يتوقف في اندونيسيا. ولم يكن يتصور الشاب القادم من الهند، والذي ترعرع في ظل اسرة فقيرة، ان تلك الرحلة ستكون بداية الطريق للتربع على عرش «امبراطورية» الحديد والصلب في العالم. في اندونيسيا أقام ميتال في احد الفنادق، وللمصادفة كان الفندق يطل على أحد مصانع الحديد القديمة والمفلسة، فبادرته فكرة شراء ذلك المصنع، وعندما حصل على موافقة والده، بدأت رحلة نجاح «الملك» مع الحديد والصلب.

يقود ميتال في الوقت الراهن امبراطورية «ارسيلور ميتال» التي تعتبر أكبر شركة حديد وصلب في العالم، وتنتج أكثر من 116 مليون طن من الحديد والصلب تمثل 10 في المائة من اجمالي الانتاج العالمي. وتوظف الشركة العملاقة نحو 310 آلاف موظف ينتشرون في اكثر من 60 دولة تمتد من رومانيا، مرورا بالبوسنة والجزائر واندونيسيا وكازاخستان واوروبا والولايات المتحدة، وصولا الى الصين. وطبقا للنتائج التي اعلنتها الشركة اخيرا فان الايرادات المالية بلغت في العام الماضي نحو 106 مليارات دولار. وتصل قيمتها السوقية الى نحو 115 مليار دولار تملك عائلة ميتال منها حصة تبلغ 43 في المائة.

كما تضاعفت أرباح الشركة باكثر من 4 أضعاف في السنوات القليلة الماضية، وهي شركة عالمية مسجلة في بورصات نيويورك وامستردام وباريس وبروكسل ولوكسمبورغ والبورصات الاسبانية، برشلونة وبلباو وفالينسيا. وبحسب تقرير اخير نشرته «ميتال بوليتان» ـ المجلة المعروفة والمتخصصة في مجال صناعة الحديد والصلب، تحتل شركة «أرسيلور ميتال» (لوكسمبورغ) المرتبة الأولى في العالم بإنتاج بلغ 116.40 مليون طن، تليها شركة نيبون ستيل (اليابان) (34.50) مليون طن. ولا يقتصر الامر عند هذا الحد، فرجل الصناعة الهندي يعتبر حاليا أغنى شخص في الهند وبريطانيا وأوروبا، وخامس أغنى شخص في العالم، ويملك بحسب لائحة صحيفة «صنداي تايمز» لعام 2008 نحو 54 مليار دولار.

مثل هذه الانجازات لم تأت من فراغ، فهو «مدمن عمل»، يتحدث بهدوء، ويملك ابتسامة النجوم ـ على حد تعبير صحيفة «الاوبزيرفر» البريطانية، ويرتدي ملابسه بتحفظ وبلا مبالغة، ويتمتع بالصفات المتواضعة والقيم التقليديه لرجل الاعمال الهندي. وهي أمور تعلمها من والده موهان، التاجر العصامي من ولاية راجستان في شمال غربي الهند. ولد ميتال في 15 يونيو (حزيران) 1950 وترعرع في اسرة فقيرة تتكون من 20 شخصا. تمت تسمية لاكشمي بهذا الاسم تيمنا بـ«آلهة الثروة» عند الهندوس. لقد كان ينام على الارضيات العارية والاسمنتية في منزل الأسرة الذي بناه جده، ويأكل من الطعام الذي تطهيه والدته على فرن الحطب. عائلته تعود جذورها الى مجموعة «مارواري» المعروفة بعشقها للتجارة ويعود اصلها الى ولاية راجستان في غرب الهند التي تتحدر منها في الوقت الراهن العديد من العائلات التجارية الهندية المعروفة. كان والده طموحا، حيث انتقل الى مدينة كلكتا الهندية عندما انفصلت باكستان عن الهند عام 1947، وحصل على عمل في شركة صلب، وفي نهاية المطاف كسب ما يكفي لإرسال لاكشمي، الابن البكر، الى كلية سانت زافيير، نخبة المدارس في المدينة. الصبي اثبت انه من الاذكياء والموهوبين، لا سيما في لغة الارقام والرياضيات، حصل ميتال على شهادة البكالوريوس في الاداب والعلوم في عام 1969. وبعدها عمل في تجارة والده، حتى قرر عام 1975 عندما كان عمره 25 عاما الانتقال إلى اندونيسيا، وبتشجيع من والده أسس هناك مصنع «إسبات اندو» للصلب. وفي عام 1979 اسس «اسبات انترناشونال» المسجلة حاليا في بورصة نيويورك. وفي عام 1995 قرر لاكشمي ميتال الانفصال عن شركة عائلته والاتجاه بطريقه الخاص، واستقر في لندن وبدأ يمارس نشاطه التجاري منها لأكثر من 23 عاما.

والطريف ان لاكشمي الذي يعيش في بريطانيا منذ عام 1995 لا يملك مصانع فيها. الا انه على الاقل يقول انه يحب ان يعيش في بريطانيا، حيث دائما ما يردد «لندن هي بيتي الان. انه امر ملائم جدا لي. استطيع ان اسافر الى اي مكان في غضون مهلة قصيرة، أنت افضل بكثير في المنطقة الزمنية من الولايات المتحدة، وهي مدينة جميلة جدا. الاسرة بكاملها هنا. جميعهم يحبون العيش في لندن». من لندن بدأ باتمام الصفقة تلو الاخرى، افضت في عام 2006 الى عملية شراء شركة «ارسيلور» الاوروبية بمبلغ 17.5 مليار جنيه استرليني (حوالي 35 مليار دولار) في وجه معارضة شرسة من قبل الحكومتين في فرنسا ولوكسمبورغ.

ورغم انه لا يترأس مجلس ادارة «ارسيلور» التي تعتبر اكبر شركة في مجالها على المستوى العالمي إلا ان ميتال يقول في هذا الصدد «لا اريد ان ادير اكبر شركة فولاذ في العالم بل الاكثر ربحية فقط».

والمفارقة ان ميتال صعد الى عالم الشهرة لاول مرة ليس من «باب التجارة» بل من «باب السياسة» بعد فضيحة سياسية في عام 2001 كان بطلاها رئيس الوزراء البريطاني آنذاك توني بلير وميتال نفسه، وعلى اثرها سلطت اضواء الاعلام على رجل الاعمال الهندي، ومن الواضح انه لم يفارقها منذ ذلك الحين حيث اصبح من «الايقونات» العالمية المعروفة.

قصة صعود ميتال سلطت الاضواء أيضا على قطاع الحديد والصلب، وهو القطاع غير المحبب من قبل المستثمرين نتيجة تاريخه المعروف في الصعود المفاجئ والهبوط المفاجئ، او بما يعرف اقتصاديا بـ«الطفرة التي تعقبها الفقاعة». فتجارة الحديد والصلب قد لا تكون من الاعمال المحبوبة، مثل شركات الطيران او الاعلام، او شركات الكومبيوتر، ومع ذلك فان تواصل عمليات التصنيع الواسعة في العالم والتدافع من اجل الحصول على المواد الخام، دفعا أسعار الحديد والصلب للصعود بطريقة صاروخية على مدى السنوات القليلة الماضية. وقال مايكل شيلاكير (محلل الصلب في بنك «كريديه سويس») لـ«الشرق الاوسط»: «ان الطلب على الصلب يعيش طفرة كبيرة نظرا لتزايد متطلبات البنية التحتية في الاسواق الناشئة خصوصا الهند والصين» وتابع: «هناك نقص في الانتاج يترافق مع ارتفاع تكاليف المواد الخام، الامر الذي سيضمن بقاء الطلب قويا والاسعار مرتفعة لعدة سنوات مقبلة، ويضمن كذلك لان تبقى الشركة التي يقودها ميتال بوضع قوي».

وفي الحقيقة فإن صعود نجم ميتال لم يكن مفاجئا، حيث برهن على مدى السنوات الماضية على حس تجاري لا يضاهى، خصوصا من ناحية توقيت شراء أصول لا يجرؤ احد على الاقتراب منها، وفي بلدان لا يعد الاستثمار فيها مجديا. ومما لا شك فيه انه رجل اعمال بارع، فهو يفهم كافة الزوايا، وخبايا صناعة الحديد والصلب المتقلبة. وهو يلمح الفرص، ويقوم بشراء الشركات بأسعار جيدة، في بعض الاحيان مباشرة من الحكومات الوطنية، وبعد ذلك يجعلها تعمل بشكل افضل. وميتال يعتبر رائدا في التنمية المتكاملة للمصانع الصغيرة والاستخدام المباشر للحديد الخام المصنع بتقنية «DRI» كبديل للخردة في صناعة الصلب وهي العملية التي ادت الى عملية التوحيد العالمي لصناعة الصلب. وفي هذا المجال برع ميتال في شراء المصانع الصغيرة الخاسرة وشركات الصلب التي تعاني من ضائقة مالية، فسارع إلى شرائها وإنقاذها وتحويل خسائرها إلى أرباح مضمونة وإعادة هيكلتها ثم القيام بتوسيعها وبعدها الاستحواذ عليها وهي الاستراتيجية التي اتبعها خلال فترة طويلة قبل ان ينقض على «ارسيلور». وتمثلت مهارة ميتال على ارض الواقع عند انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ودول المعسكر الاشتراكي حيث سارع بشكل كبير الى شراء المصانع الخاسرة في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، ففي وقت كانت الاخبار القاتمة عن المنطقة تتصدر نشرات الاخبار وكافة وسائل الاعلام، وبالتالي كان الأميركيون والأوروبيون واليابانيون يفكرون بالاستثمار في دول الاتحاد السوفياتي السابق مثل كازاخستان، كان هو يجول بالفعل في تلك الجمهوريات من اجل التوقيع على صفقات وشراء شركات.

ولكن ذلك لا يعني بأي حال من الاحوال أن ميتال شخص مقامر، بل انه رجل اعمال يحسب خطواته بدقة. صعود نجومية ميتال في السنوات الاربع الاخيرة كان مثيرا، فبعد ان كان يحتل المركز الخامس في قائمة الـ«صنداي تايمز» البريطانية لأغنى الأشخاص في بريطانيا لعام بثروة وصلت الى 6.3 مليار دولار في 2004، وجاء في المركز 62 في قائمة مجلة «فوربس» الاميركية لأغنى مليارديرات العالم لعام 2004، أهلته صفقاته الأخيرة لأن يصبح أغنى رجل في بلده الاصلي الهند، بريطانيا وأوروبا، وأن يحتل خامس أغنى شخص في العالم في قائمة «فوربس» المقبلة.

ولميتال مواقف تثير شهية صحافة الاثارة بين الحين والآخر. فقبل عدة اعوام تعرض لحملة انتقادات بسبب تبرعاته لحزب العمال الحاكم في بريطانيا، عندما اعترفت الحكومة البريطانية في عام 2002 بأنها شجعت البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية على تقديم قرض له بقيمة 70 مليون جنيه استرليني. وكان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير قد تدخل لدى الحكومة الرومانية بغية تشجيع بيع الشركة العملاقة في صناعة الحديد (سيدكس) لشركة «إل.إم.إن»، التي يملكها الملياردير الهندي.

في عام 2004 قام شراء «إنترناشيونال ستيل غروب كوربوريشن» بصفقة تقدر قيمتها بـ 17.8 مليار دولار أميركي، مشكلاً بذلك أكبر شركة للصلب في العالم، هي «ميتال ستيل كومباني». التي اصبح رئيس مجلس الإدارة فيها ومدير عام الشركة بايرادات أولية في ذلك العام تقدر بـ 30 مليار دولار، وبطاقة إنتاجية سنوية تقدر بـ 70 مليون طن. في شهر ابريل (نيسان) من عام 2004 عاد لاكشمي الى الاضواء بقوة، عندما دفع 129 مليون دولار لمنزل فخم ذي 12 غرفة نوم في منطقة كينزنغتون بالاس بغرب لندن، والتي كانت أغلى صفقة من نوعها تسجل في بريطانيا والعالم انذاك، فمن نافذته يستطيع رؤية طبقة لا يمكن تسميتها الا بنخبة النخبة. فمن جانب واحد هناك سلطان بروناي، ومن الجانب الاخر يعيش الملياردير الروسي ليونارد بلافاتنيك، وفي الجهة المقابلة هناك قصر كينزنغتون، القصر السابق الذي كانت تعيش فيه اميرة ويلز الراحلة الاميرة ديانا، ومن الشرق تقع حديقة هايد بارك، ومن وراء تلك المناطق تطل منطقة ماي فير المعروفة في العاصمة البريطانية حيث يدير ميتال اعماله.

في يونيو (حزيران) 2004 احتفل في باريس لعدة أيام بحفل زواج ابنته الوحيدة فانيشا، حيث حول المناسبة الى ما يشبه الف ليلة وليلة، فقد بلغت تكاليف الحفل نحو 55 مليون دولار. عاد ميتال إلى الأضواء بقوة بعد ان استحوذ في عام 2006 عبر شركة «ميتال ستيل» على شركة «أرسيلور ميتال» الفرنسية بصفقة تعد الاكبر في تاريخ صناعة الحديد والصلب في العالم. ميتال، الذي حصل على جائزة رجل عام 2006 من الـ«فايننشال تايمز» ومن «صنداي تايمز»، واختارته عام 2007 مجلة «تايم» الاميركية من ضمن «المائة شخص الاكثر نفوذا»، اتهمته الصحافة البريطانية بانه يمارس «العبودية» بحق العمال. وتعرض ميتال لهجوم بعد مقتل العديد من الاشخاص في مناجم يملكها في كازاخستان وانه يعرض حياة العمال للخطر من خلال استخدام معدات قديمة. وعلى اثرها قالت الشركة التي يملكها ميتال ان «شروط الامن والسلامة تمثل اولوية قصوى للشركة» وانها ستستثمر عشرات الملايين من الدولار لتحسين تلك الشروط، وكانت تلك من اللحظات المحرجة والداكنة في مسيرته. يتوقع ميتال انه في العشر سنوات المقبلة ستصبح صناعة الحديد والصلب خاضعة لسيطرة مجموعة محدودة من الشركات، مقارنة بوقتنا الراهن، حيث تسيطر 6 شركات على 18% من انتاج الصلب، وتلك النسبة ستصعد الى 23% وفقا لما جاء في تقرير نشرته مؤسسة «سي.آر.يو» المختصة في مجال الاستشارات المعدنية أخيرا. ولا يتوقف طموح ميتال عند هذا الحد، فهو يسعى الى اقتحام السوق في الصين، حيث عقد هناك شراكات استراتيجية انتظارا للوقت الذي ستسمح فيه الصين للمستثمرين الاجانب تملك شركات الصلب والحديد هناك، من أجل أن «ينقض» على «الفريسة» المقبلة التي ستؤهله لأن يتصدر الأخبار مرة أخرى.

السؤال الذي يتبادر دائما الى الاذهان ما الذي يدفع ميتال، أو شخصا ما، لبناء امبراطورية على مدى 33 عاما، والعمل بدون توقف؟. ميتال يرد «لم اشعر بأي اختلاف عندما امتلكت أول مليون دولار، على كل حال، ماذا يريد الانسان؟ انها لا تقدم أي فرق. صحيح انه يمكنك الحصول على تسهيلات افضل، ولكن الامر لا يغير حياتك. لا تغيير في التفكير.. ما يجعلني سعيدا حقا هو ان كنت قادرا على انشاء شركة عالمية وفريدة في نوعها. هذا من دواعي الفخر والسعادة لي. اذا كان لديك مال او لا، فالسعادة هي مفتاح النجاح».