«أوبك للغاز».. حلم أم حقيقة ؟

خبراء يرون أنها محاولة إيرانية لإزعاج أميركا.. وطهران تراها وسيلة لفك العزلة

TT

في ظل اعتماد الغرب، خصوصا في اوروبا، على الغاز القادم من عدد محدود من الدول مثل روسيا وقطر والجزائر، تسعى تلك الدول لتنسيق مواقفها من اجل الحفاظ على مصالحها في سوق الغاز الذي يتنامى بشكل مذهل. وهذا الامر جعل البعض يتساءل عن امكانية قيام منظمة، مثل «اوبك»، للغاز تدافع عن مصالح المنتجين، وأثار مخاوف في الغرب بحيث جعل القصة تتفاعل وتصل الى اعلى مراكز القرار في العواصم الاوروبية والاميركية والاسيوية.

وفي هذا الاطار اتخذ كبار منتجي الغاز في العالم خطوات باتجاه تأسيس تكتل على غرار منظمة البلدان المصدرة للبترول «اوبك» لكنهم سعوا لطمأنة الدول المستهلكة الى ان الوضع لن يتغير في الوقت الراهن. وكان عدد من المندوبين من الدول المنتجة للغاز الطبيعي قد عقدوا اجتماعا الاسبوع الماضي، لبحث تشكيل تجمع دولي او منظمة على نمط منظمة «اوبك» وهي خطوة تعارضها كل من الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي بقوة. واكد الطرفان مرارا أن انشاء كيان للغاز يشبه منظمة «اوبك» سيهدد امن الطاقة العالمي ويفسح المجال للتلاعب في الأسعار.

وسبق في هذا الإطار أن طالب مجلس النواب الأميركي سابقا وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بالتصدي بنشاط لتأسيس لما وصفه بـ«منظمة الابتزاز العالمية هذه التي ستشكل خطراً أساسياً طويل الأمد يهدد توريد الوقود عالمياً». فقد انعقد اخيرا منتدى الدول المصدرة للغاز في العاصمة الايرانية طهران، على مستوى كبار الخبراء والنواب والوزراء (المنتدى جمع 15 دولة منتجة للغاز، ومنها الدول الخمس الكبرى: ايران وروسيا وقطر والجزائر وفنزويلا، والتي تحوز 73% من احتياطي الغاز في العالم، وتعتبر مسؤولة عن تأمين 42% من اجمالي الانتاج).

وروسيا لديها اكبر احتياطيات للغاز في العالم وهي اكبر مصدر. وايران لديها ثاني اكبر احتياطيات لكنها بطيئة في تطوير الصادرات لاسباب عديدة منها العقوبات الاميركية. ولم يكن لـ«أوبك» نفوذ يذكر حتى مرت عشر سنوات على تأسيسها، والأمر قد يحتاج لوقت أطول حتى تكتسب منظمة مماثلة لكبار منتجي الغاز سطوة في السوق، لكنهم يتحركون في هذا الاتجاه. والقصة تعود الى نحو عامين عندما قرر منتدى الدول المصدرة للغاز في أول اجتماع له تشكيل مجموعة من الخبراء على مستوى رفيع، تقودها روسيا، لدراسة إمكانية تعزيز التعاون. وعارض بعض كبار منتجي الغاز فكرة إقامة تكتل عالمي، وهو اللقب الذي يطلق على «أوبك»، وقالوا انهم لا يسعون الى التحكم في الاسعار أو تقييد الامدادات للمستهلكين. لكن ارتفاع الطلب وزيادة التكاليف اللذان أديا الى إلغاء بعض المشروعات أو تأجيلها، دفعا الكثيرين للتفكير في سبل للعمل معا.

وترغب ايران، التي تمتلك ثاني أكبر احتياطيات من الغاز في العالم، أن يتحول المنتدى الى منظمة تحمل طابعا رسميا أكبر على غرار «اوبك». وهونت روسيا حتى الآن ـ وهي مصدر رئيسي للغاز في العالم ـ من شأن الفكرة. ويبدو ان استعداد روسيا لقيادة هذه الجهود أمر حيوي لتعزيز مصداقية المنتدى الذي تأسس عام 2001. وتقود روسيا الدراسة التي يعدها الخبراء قبيل الاجتماع التالي للمنتدى المقرر عقده في موسكو في يونيو (حزيران) المقبل من هذا العام (2008). ولم يورد البيان الرسمي الذي صيغ بشكل مبهم في الاسبوع الماضي الكثير عن طبيعة لجنة الخبراء التي سيشكلها المنتدى ومهامها وسبل عملها.

لكن ما هو مؤكد أن من المسائل المهمة التي يتعين على اللجنة دراستها، هي مسألة التسعيرة مع تطور سوق الغاز، إذ ادى ظهور الغاز الطبيعي المسال الى تحول أسلوب تسعير الغاز، رغم أنه لم يصبح سلعة عالمية متداولة على نطاق واسع بعد (كما هو متوقع). ويقول الخبراء إن الأمر سيتطلب ما بين 10 ـ 15 عاما قبل ان تكون هناك سوق عالمية للغاز. وفي الوقت الراهن هناك أساليب مختلفة للتسعير في المناطق المختلفة. وقال العديد من وزراء الدول المنتجة للغاز إن أسعار المادة المهمة رخيصة للغاية مقارنة بأسعار النفط، إذا اخذنا بعين الاعتبار ارتفاع تكاليف استخراج الغاز الجديد، وهو أحد العوامل التي تدفع حاليا الى تعزيز منتدى الدول المصدرة للغاز وتطويره واعطائه حجما اكبر على الساحة الدولية. وقال كريستيان ستوفايس الخبير بشؤون الغاز «اعتقد أن أسلوب التفكير داخل المنتدى مكننا من تحديد مجالات الاهتمام المشترك؛ وهي التسعيرة والتكاليف والإنتاج والصادرات»، ومضى يقول «المنتدى أصبح أكثر نضجا». وقالت قطر وغيرها من أعضاء المنتدى، ومن بينهم روسيا وفنزويلا ونيجيريا والجزائر، ان منتدى الغاز يهدف لزيادة التعاون بين كبار المنتجين حتى يمكنهم فهم احتياجات السوق بشكل أفضل. ويقول خبراء إن من الصعب انشاء اتحاد او منظمة للمنتجين على غرار منظمة «اوبك»، ومن غير المحتمل أن يتمتع منتدى الغاز بنفس ما تتمتع به «أوبك» من نفوذ لأن عقود الغاز تبرم على أساس طويل الاجل وليس على نظام التداول الفوري المستخدم في تسعير النفط. ويجري التداول بالنفط في اسواق مالية مثل سوقي لندن ونيويورك مع عقود لا تتجاوز مدتها سوى بضعة اشهر على ابعد تقدير، الامر الذي يحمل على تنويع الانتاج وعلى التأثير على الاسعار.

لكن اذا ما تم التداول بالغاز الطبيعي في اسواق مالية فان ذلك لا يتعلق إلا بقسم صغير من السوق، إذ تتم غالبية المشتريات عبر عقود بالتراضي تقاس عموما باسعار النفط وتصل مدتها الى 15 سنة او عشرين سنة او حتى اكثر.

واضافة الى ذلك، هناك عوامل لوجستية وتقنية مهمة لا بد من اخذها بالاعتبار، إذ يجري التفاوض على الغاز عادة في سوق لا مركزية بشكل كبير لانه يصعب نقل الغاز خلافا للنفط. ويتم توزيع الغاز عبر انابيب خاصة به يكلف مدها مليارات اليورو او عبر ناقلات للغاز، الامر الذي يتطلب تسييله وهي عملية مكلفة للغاية تستدعي بناء مصانع للتسييل ومحطات لاعادته الى حالة الغاز بدون احتساب كلفة النقل.

من جهته قال كريستيان ستوفايس، رئيس مركز الدراسات المستقبلية والمعلومات الدولية، ان تكاليف مرتفعة جدا «تخلق تبعية قوية بين المنتجين والمستهلكين».

واذا كانت انابيب الغاز في دولة مثل قطر موجهة «نحو اوروبا وكذلك الى آسيا»، فان «القسم الاكبر من انابيب الغاز» في روسيا «يذهب الى اوروبا»، حسبما اوضح فيليب شالمين، استاذ الاقتصاد في جامعة باريس دوفين، الخبير في شؤون المواد الاولية.

ولا توجد في الوقت الحالي اي بنى تحتية لتسييل الغاز في روسيا، لكن مشروع «ساخالين ـ 2» الذي اصبحت المجموعة الروسية العملاقة الناشطة في مجال الغاز «غازبروم» ابرز مساهميه في ديسمبر (كانون الاول)، سيتيح تصدير الغاز الطبيعي المسيل بواسطة السفن اعتبارا من صيف هذا العام (2008) وخصوصا نحو اليابان. الا ان ستوفايس يرى ان علاقة القوة في السوق هي الآن «لمصلحة البائعين» ما قد يحث هؤلاء على التفاهم في ما بينهم «لتحديد الاسعار وابرام العقود المستقبلية». ويعتبر ستوفايس انه اذا كانت الولايات المتحدة تستورد الغاز من كندا والمكسيك بصورة رئيسية، وهما الدولتان المجاورتان الخاضعتان لنفوذها، فان «اوروبا لا تسيطر على مزوديها» من هذه المادة، وخصوصا دول الشرق الاوسط وروسيا، اضافة الى ان ايران والجزائر وروسيا تمثل لوحدها حوالي 30% من سوق الغاز. وبحسب ستوفايس، فان سياسة التنافس الاوروبية التي ادت خصوصا الى تفكيك شركة «رورغاز»، في حالة «من التناقض الشديد مع ضرورة تطوير سياسة استراتيجية مشتركة». لكن منوشهر تاكين، المحلل في مركز «دراسات الطاقة الشاملة»، لا يعتقد انه يمكن التنسيق الفعلي بين الاسعار «لان لكل عقد خصوصيته». الا ان سايمون فادرهيل، المحلل في «غلوبل إنسايت»، قال هو الآخر ان منتجي الغاز وبسبب «طموحهم الجامح»، قد يسرعون عملية الانتقال الى طاقات بديلة.

ويلاحظ فيليب شالمين من جهة اخرى ان أسعار الغاز الحالية اكثر ارتفاعا لانها استفادت من ارتفاع اسعار النفط كونها تقاس بها اصلا. وعلق فاردهيل «سأكون مندهشا اذا خرج امر ما مهم عن اجتماع نهاية هذا الاسبوع» في اشارة الى اجتماع طهران.

لكن الدول المنتجة ستهيئ الارضية ربما لأمر ما سيكون شبيها بـ«اوبك». ويشاطره هذا الرأي منوشهر تاكين الذي يعتقد ان تشكيل منظمة حقيقية، يكون لها انعكاس على السوق، سيتطلب وقتا وان كانوا سيسرعون في بداية الامر تعاونهم وتقاسم المعلومات.

وفي اتصال هاتفي مع «الشرق الاوسط» ابدى البروفوسور في معهد أبحاث الطاقة في جامعة اوكسفورد (OIES)، جوناثان شتيرن، استغرابه من الاجتماع الذي حصل في طهران، والمفترض ان ينعقد في موسكو حسب تأكيدات وزراء الدول المعنية العام الماضي. لكن شتيرن اكد ايضا ان روسيا تسعى الى وضع مسودة ميثاق او تعاون بين الدول المنتجة للغاز، وانه قبل معرفة الخطوط العريضة على المسودة وتفاصيلها، يصعب تقييم ما يحصل، وما هي الخطوات التي تنوي هذه الدول اتخاذها، وما إذا كان انشاء «كارتل» او منظمة على شاكلة «اوبك»، لا يزال جزءا من تفكير هذه الدول.

وتابع شتيرن بالقول «بالرغم من ان ايران اكدت العام الماضي عبر وسائل اعلامها، وخصوصا محطة تلفزيون «بارس تي في» ان وجود منظمة جديدة للدول المنتجة للغاز لا يعني ان هذه المنظمة ستتصرف كمنظمة «اوبك»، بإمكانها الاجتماع الدوري لمناقشة الأسعار واحوال السوق وتقنياته فقط ، فإن ايران الى جانب فنزيلا، هي الدولة الوحيدة بين الدول المنتجة للغاز التي تتحدث عن كارتل او مجموعة خاصة، بهدف ازعاج الادارة الاميركية واوروبا لاسباب سياسية بحتة». بأية حال فإن شتيرن، الذي وضع بحثا خاصا بالمسألة، لا يعتقد ان لاجتماع طهران أي اهمية، وانه مجرد خطوة جديدة وجيدة للتعاون بين الدول المنتجة للغاز، وانه لا يرى أي امكانية لإنشاء منظمة شبيهة بـ«اوبك» حاليا او في المستقبل، إذ ان ذلك ليس من مصلحة روسيا ويتعارض مع طبيعة عمل سوق الغاز العالمي.

* مستقبل الغاز

* من المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي على الغاز الطبيعي بين عامي 2004 إلى 2030 من 2.8 مليار متر مكعب إلى 4.7 مليار متر مكعب، وهذا يعادل نمواً بنسبة 2% سنوياً، وهو معدل أعلى من معدل الطلب على مصادر الطاقة الأخرى مثل البترول أوالفحم أو حتى الطاقة النووية. ان الغاز الطبيعي سيكون مستقبلاً هو الحصان الرابح من بين العديد من انواع الطاقة، بفضل رخص ثمنه وقلة تلويثه للبيئة (الامر الذي ستأخذه الحكومات في الاعتبار خلال رسم سياساتها حول الطاقة). ووفقا لـ«هيئة معلومات الطاقة الاميركية» فإن القطاع الصناعي يستهلك 44 في المائة من اجمالي حجم استهلاك الغاز الطبيعي على المستوى العالمي. ومن المتوقع ان يزداد هذا المعدل بنسبة 8.2 في المائة حتى عام 2030. في حين يستهلك قطاع الكهرباء 31 في المائة. ومن المتوقع ان يزداد هذا المعدل بنسبة 9.2 في المائة خلال الفترة نفسها. واظهرت دراسة اجرتها الدول العشر الاعضاء في منظمة الاقطار العربية المصدرة للبترول ان زيادة طلب الدول العربية على الغاز يتجاوز نمو الطلب على النفط بمعدل سنوي قد يصل الى 5 في المائة، وذلك حتى عام 2020، الامر الذي سيؤدي الى زيادة حصة الغاز في اسواق الطاقة العربية من 5.41 في المائة العام 2006 الى نحو 47 في المائة في عام 2020 .