قصة فلسطيني في مطار تل أبيب

الفلسطينيون ممنوعون من استعماله إلا في الحالات الطارئة والمحطات الأمنية والاستجوابات لا تنتهي

فلسطينيون ينتظرون على احد المعابر في الضفة الغربية («الشرق الاوسط»)
TT

ليس ثمة نمط معين يمكن ان يتوقعه القادم الى مطار تل ابيب في تعامل مسؤولي الامن والجوازات. وأيا كان عدد المرات التي تحط فيها في مطار تل أبيب أو تغادر إسرائيل عبره، فستكون المفاجأة في انتظارك أكان ذلك سلبا أو إيجابا. فالمفاجأة واقعة لا محالة إن لم يكن لدى الوصول فعند المغادرة. وإذا كنت من الناس «الأوفر حظا»، فبالذهاب والإياب. باختصار ما تراه في الوصول لن تلمسه في المغادرة والعكس.

في هذا المطار يتفننون في أساليب التنغيص على المسافر. وعلى وجه الخصوص إذا كان عربيا أو أجنبيا من أصول عربية. ولكن لا بد من التأكيد إن التنغيص يظل في حدود الأدب ولا يتجاوز المستجوب أو المحقق، أو بالأحرى المحققة الشابة، حدودها، بل تحتفظ بهدوئها ولا تجد غضاضة في طرح السؤال مثنى وثلاث ورباع وربما اكثر بنفس الوتيرة.

وصلت الى مطار تل ابيب او ما يسميه الاسرائيليون بمطار بن غوريون، على اسم اول رئيس وزراء لاسرائيل، اخر مرة قبل ثلاثة اسابيع حوالي الساعة الثامنة مساء، متوقعا معاملة كما باقي الركاب، خاصة انني كنت في زيارة خاصة برفقة زوجتي وابنتي.

كان المطار مزدحما بالقادمين وجلهم من اليهود، جاؤوا للاحتفال بالذكرى الستين لقيام اسرائيل على حساب الفلسطينيين، الذين كانوا هم ايضا يحيون ذكرى نكبتهم، وسط حالة من الاحتقان التي تزداد يوما بعد يوم، مع تلاشي الآمال في امكانية تحقيق وعد الرئيس الاميركي جورج بوش بالتوصل الى حل قبل نهاية العام الجاري، بقيام الدولة العتيدة القابلة للحياة كما يقولون.

وقفنا في احد الطوابير الطويلة حتى جاء دورنا مع موظفة الجوازات وجميعهن بالمناسبة من الفتيات الشابات، وليس من الضباط حملة النجوم. تقدمنا نحو الموظفة، مجتمعين كأسرة واحدة، اعتقادا منا ان وجودنا كأسرة سيسهل امرنا ويخفف معاناتنا. لكن ذلك لم يغير من واقع الامر شيئا. فلا اسرة ولا جواز اجنبي ولا عمر يشفع لك في مطار تل ابيب، ما دامت سحنتك واسمك يفضحان اصولك.. فانت متهم وستبقى متهما رغم براءتك.

تناولت الموظفة الجوازات وبدأت اسئلتها التقليدية بدءا بـ.. اسم والدك .. اسم جدك .. مكان ولادتك.. دواعي الزيارة.. اسئلة روتينية وممجوجة اجبت عليها عشرات المرات من قبل.. وهي بالتأكيد موجودة على جهاز الكومبيوتر امامها. تنهمك قليلا في التدقيق بالمعلومات المتوفرة على الجهاز. تختم جواز سفر زوجتي وتناولها اياه، بينما تحتفظ بجواز سفري وكذلك جواز سفر ابنتي المولودة بالمناسبة في بريطانيا وعاشت كل حياتها فيها، قبل ان تستخدم جهاز الهاتف الى يسارها. لحظات ويحضر رجل أمن ليرافقنا، امام عيون المئات من المنتظرين المسلطة علينا، وكأننا مجرمون او ارهابيون، الى غرفة ليست غريبة عنا. فلطالما اقتدنا اليها وقضينا فيها ساعات طويلة في انتظار المجهول.

لم يطلب منا رجل الأمن الذي رافقنا تسليم هواتفنا الجوالة. ففي مرات سابقة، حاولوا تجريدنا من هواتفنا من دون ابداء أي اسباب مقنعة. الانتظار يطول ما بين نصف ساعة وثلاث ساعات حسب الحظ والمزاج. في المرات السابقة كانوا يعيدون الي جواز السفر «ويتمنون لي قضاء وقت ممتنع في اسرائيل»، من دون توجيه أي سؤال. في هذه المرة، استدعاني على غير العادة بعد حوالي نصف ساعة من الانتظار، شاب في مقتبل العمر يرتدي قميصا ابيض وسروالا اسود، وعلى رأسه القبعة اليهودية دليل على تدينه. اقتادني الى غرفة فيها مكتب صغير مثبت فوقه جهاز كومبيوتر ولا شيء اخر. وقبل ان يوجه لي سؤالا بادرته باستفسار حول التأخير.. فرد ببرود وهدوء قاتل: «نريد ان نتأكد من انك لا تحمل هوية فلسطينية».

صدرت عني ابتسامة ساخرة، الحقتها بتأكيد انني لا احمل الهوية الفلسطينية والدليل على ذلك زيارتي المتواصلة عبر هذا المطار.

سأل وكأنه لم يسمع او أنني لم أقل شيئا: اسم والدك ومكان ولادته... اسم جدك... اسم والدتك ومكان ولادتها... ومتى غادرت «اسرائيل».

واستطردت بعد تزويده بالاجوبة على اسئلته، قائلا ان والدي ووالدتي ليسا من حملة الهوية الفلسطينية ايضا وهما متوفيان. وانا شخصيا غادرت الضفة الغربية بعد حرب 1967.

واصل اسئلته: اسم عائلة امك... دقائق قليلة من الصمت مرت وكأنها دهر بحاله ليؤكد لي بعدها ما كنت قد قلته... «لا تحمل الهوية الفلسطينية». ناولني جواز سفري وقال انه بإمكاني المغادرة.

وقلت وانا اهم بالخروج: «هذه المرة الـ15 التي اتعرض فيها الى مثل هذا الموقف». رد بصوت خافت: «المرات السابقة لم تكن رسمية ولم تسجل على جهاز الكومبيوتر. وهذه المرة سجلت كل المعلومات على الجهاز. ومن الان فصاعدا لن تتعرض الى مثل هذا الموقف».

قلت حسنا سنرى في المرة القادمة. وكما يقول المثل الشعبي: «المية تكذب الغطاس». فبعد عشرة ايام بالتمام والكمال، وفي طريق العودة، تعرضت للموقف نفسه. وطلب مني الانتظار جانبا للتأكد من انني لست من حملة الهوية الفلسطينية. ليس هذا وحسب، بل انه بعد الانتهاء من عملية تفتيش الحقائب على نحو غير مألوف في أي مكان في العالم، وبعد اخضاعها لاجهزة الكشف الالكتروني، يقتادك احد رجال الأمن الى الداخل، بعد ان يساعدك في حجز المقاعد على الطائرة وفي وزن الحقائب، الذي يكون دوما اضعاف المسموح به.

اما بالنسبة لابنتي، فالامر كان مختلفا تماما. الاستجواب لم يكن حول الهوية بل عن عملها واسباب زيارتها والنقود التي تحملها. وقد طال انتظارها لاكثر من ساعتين قبل اعادة جواز السفر اليها والسماح لها بالخروج، ونحن معها في الانتظار بالطبع. لم نغادر المطار قبل الساعة العاشرة والنصف ليلا.

وللهوية الفلسطينية هذه قصة. فالفلسطينيون، كل الفلسطينيين ممنوعون من استخدام مطار تل ابيب بأي حال من الحالات، الا في الحالات القصوى. وبعد الحصول على تصريح خاص توافق عليه الاجهزة الأمنية والجيش ولسفرة واحدة فقط. وهذا بالطبع ينسحب على كل فلسطيني حتى وان كان يحمل جواز سفر من بلد اخر. وهذا المنع المفروض بقرار اتخذه الكنيست الاسرائيلي قبل حوالي خمس سنوات، ضاعف من معاناة الفلسطينيين الذين يترددون حتى في التنقل بين مدنهم وقراهم جراء الحواجز الاسرائيلية التي تزيد عن 600 حاجز تقطع اوصال الضفة الغربية وتعيق حركة اهلها. فالمسافر من الضفة الغربية الذي يرغب في السفر الى الخارج يضطر اولا للسفر الى الاردن كمحطة اولى قبل التوجه الى البلد المعني. اما اهالي غزة فهم يضطرون للسفر الى القاهرة، وهذا طبعا قبل سيطرة حركة حماس على القطاع واغلاق المعابر المعروفة وهذه قصة اخرى لن ندخل في تفاصيلها. لكن لا بد من الاشارة الى ان اكثر من 170 من مرضى القطاع توفوا منذ فرض الحصار عليه قبل حوالي السنة بسبب عدم سماح اسرائيل لهم بالمغادرة للعلاج. مشكلة الهوية هذه، لم تكن موجودة في الماضي. فحتى الى ما بعد انتفاضة الاقصى في 28 سبتمبر (ايلول) 2000 بقليل، كان الفلسطينيون يستخدمون مطار تل ابيب في سفرياتهم. وكان يوفر على اهالي الضفة الغربية وغزة، عناء السفر وتكاليفه المضاعفة التي تزيد من مشاكلهم الاقتصادية المتفاقمة اصلا.

وكما اسلفنا، فان المعاملة لا تسير وفق نمط معين، وليست مرتبطة بوضع امني محدد، بل ليست مرتبطة اصلا بمسائل امنية انما لها علاقة بالتنغيص على الزائر من اصل فلسطيني وحمله على التفكير طويلا قبل العودة الى هذا المطار مرة اخرى. ولو كان الامر له علاقة بالأمن لما اختلفت المعاملة في أي وقت من الاوقات. ففي اكثر من مرة لم اواجه عند الوصول أي تعقيدات او استجوابات، ولم تستغرق المعاملات الرسمية (تأشيرة الدخول وختم جواز السفر) اكثر من دقائق معدودة اجد نفسي بعدها اجمع حقائبي واغادر المطار، من دون أي معوقات ومن دون ان التفت الى الوراء.

واذا كان الوصول سهلا فالمغادرة لن تكون ميسرة في أي حال من الاحوال. فالمسافر لا بد ان يعبر نقطتين امنيتين قبل الوصول الى قاعات السفر. ولا نتحدث هنا عن الحواجز العسكرية التي يضطر المسافر الى عبورها داخل الضفة الغربية قبل الوصول الى الحاجز الرئيسي على الخط الاخضر الفاصل. فهذه قصة اخرى سأتطرق اليها لاحقا.

ففي رحلة العودة، وبعد مهمة عمل لتغطية ازالة المستوطنات من قطاع غزة في اغسطس (اب) عام 2005، وصلت إلى مدخل مطار تل أبيب، بالمناسبة هو مطار جديد ضخم وواسع من الطراز الأول، أقيم استعدادا لـ«مرحلة ما بعد السلام». وصلت بسيارة أجرة قادما من مدينة الناصرة متوقعا أن انهي معاملات السفر وتفتيش الأمتعة والحقائب بسرعة، اعتقادا مني بأن البطاقة الصحافية الحكومية الاسرائيلية التي بد من حصول كل صحافي زائر عليها لمساعدته في مهمته الصحافية، ستكون المفتاح لكل الأبواب، يسهل عملية المرور عند نقاط التفتيش في المطار. لكن كما هي العادة في مطار تل أبيب تجري الرياح بعكس التوقعات دوما.

عبرنا نقطة التفتيش عند مدخل منطقة المطار من دون مشكلة أو انتظار كبير. كان هناك توقف سريع، وهذا امر طبيعي لا يقف عنده أي مسافر عربي. فأي سيارة يقودها عربي لا بد أن يطلب منه رجال الامن الوقوف جانبا وإخضاع الراكبين إلى السين والجيم، وربما يطلبون تفتيش الحقائب امعانا في التنغيض، بينما اصحاب السيارات من اليهود لا يتوقفون ابدا. تفاءلت خيرا بالتوقف السريع، وحتى عند مدخل قاعات المطار لم يعترض طريقي رجل الأمن لطرح نفس الاسئلة، كما هي العادة. فزاد ذلك من تفاؤلي.

وقفت في الطابور. ولم تمض دقائق معدودة حتى جاءتني احدى المسؤولات الامنيات، لا يتجاوز عمرها العشرين عاما، تفحصت جواز سفري وبطاقة السفر واحتفظت بهما كما هي العادة. وطلبت مني الانتظار قبل ان تغيب عن الانظار لتعود بعد قليل وتطلب مني مرافقتها.

ابلغتني خلال مشوارنا القصير الى المكان الذي اختارته لتفتيش حقائبي وتوجيه الاسئلة، بانني اعامل معاملة خاصة لانني صحافي واحمل البطاقة الصحافية الحكومية، وانها تريد تسريع عملية الاستجواب هذه. شكرتها وتجاوبت في ردي على اسئلتها الأولية، التي لم تكن سوى اسئلة روتينية تعودت عليها، واصبحت اجيب عليها عن ظهر قلب.

تواصل توجيه الاسئلة وهذه المرة دخلت في التقارير الصحافية التي كتبتها وسألت اذا كانت معي نسخ عنها.. وطلبت فتح جهاز الكومبيوتر للاطلاع عليها، عندما اجبتها بالنفي. شعرت بالدم يغلي في عروقي ورفضت ان اعطيها مفتاح السر للكومبيوتر. وعلا صوتي وقلت محتدا متعمدا اثارتها: «لا احد يستطيع ان يفعل شيئا بشأنها لانها تقارير نشرت واصبح الحديث عنها لا طائل منه كما انها مكتوبة بلغة عربية لا تستطيعين قراءتها». لم تغضب ولم تثر ولم تحتد لا بل لم يعل صوتها. انسحبت بهدوء وجواز سفري وبطاقة السفر بيدها وغابت طويلا. عادت بعد حوالي 20 دقيقة ومعها رجل طويل القامة عريض المنكبين، ملامحه عربية، طلب مني بلغة عربية سليمة، ان افتح الكومبيوتر... اعطيته نفس الجواب الكومبيوتر امامك افعل به ما شئت. وقال متسائلا باسلوب يريد ان ينهي المشكلة: «اتريد السفر؟ الرجاء افتح الكومبيوتر وستحل المشكلة بسرعة وستلحق بطائرتك التي اقترب موعد اقلاعها». استجبت لطلبه وشغلت الكومبيوتر. وفتحت له على احد التقارير فألقى عليه نظرة سريعة وطلب مني ان اغلقه. من جديد غابت مسؤولة الأمن وغاب معها الرجل «العربي» وجواز سفري وبطاقة السفر، لتعود بعد نصف ساعة لترافقني الى مدخل قاعة المسافرين. ومن يعتقد ان التفتيش الأمني انتهى عند هذا الحد فهو مخطئ. فهناك محطة أمنية اخرى تخضع فيها الحقائب اليدوية لعملية تفتيش الكترونية وكذلك المسافر. وبعد هذه النقطة يأتي التدقيق في جوازات السفر وختم المغادرة.

الرحلة بين تل ابيب ولندن لا تستغرق اكثر من 4 ساعات ونصف الساعة، ولكن المسافر من اصل فلسطيني يبدأ رحلته قبل ساعات طويلة من موعد اقلاع الطائرة. فالمعوقات لا تقتصر على المطار فحسب، بل تسبقها في الحواجز التي لا بد من عبورها قبل دخول ما يسمى بالخط الاخضر الذي يفصل الضفة الغربية عن اسرائيل، والذي لا يبعد في بعض المناطق سوى بضع مئات من الامتار. لكن الحواجز العسكرية المضروبة حول المدن تحتم عليك سلوك طرق التفافية يحتاج قطعها الى ساعات، وانت وحظك ومزاج الجندي المسؤول على الحاجز. فالمسافر من مدينة طولكرم شمال غرب الضفة الغربية، التي لا تبعد سوى اقل من 40 كيلومترا عن مطار تل ابيب، يحتاج في الظروف العادية واذا كانت مداخل المدينة ومخارجها مفتوحة، الى نصف ساعة لا اكثر لقطع هذه المسافة.

ولكن والوضع الأمني كذلك ومع تزايد الممارسات التعسفية الاسرائيلية، فان الوصول الى المطار من طولكرم يحتاج الى ساعتين او ثلاث ساعات. في الماضي كان يربط طولكرم التي تقع على محاذاة الخط الاخضر باسرائيل مدخلان اساسيان اغلقا بعد الانتفاضة. واصبحت المدينة من دون منافذ من الناحية الغربية. ولم يبق امام المسافر الى مطار تل ابيب الا منفذ واحد هو المنفذ الشرقي للمدينة التي يوصلها بمدن فلسطينية اخرى في الوسط والجنوب.

والمنفذ الشرقي ليس مفتوحا بالمطلق، بل يعترضه حاجز عسكري اسرائيلي يعرف بحاجز عناب نسبة الى مستوطنة تحمل نفس الاسم مقامة على رأس جبل مطل على الطريق.

يصل المسافر الى هذا الحاجز بسيارة فلسطينية. واذا كان الحظ حليفه لا ينتظر كثيرا، واذا لم يحاول احد الجنود الصغار المسؤولين عن الحاجز ممارسة ساديته، والا فان الانتظار قد يطول لاكثر من ساعة. وفي الطرف الاخر من الحاجز تنتظره سيارة تحمل لوحة ارقام اسرائيلية لتقطع بك الحدود.

كل هذه المسافة والوقت (حوالي ساعة الى ساعة ونصف الساعة) كان بالامكان اختصاره بخمس دقائق لو يسمح الجيش الاسرائيلي للفلسطينيين باستخدام المنفذ الجنوبي للمدينة، الذي يعرف بمنفذ الكفريات او جبارة.

ومن حاجز عناب تنطلق بك السيارة في اتجاه الخط الاخضر، وبعد حوالي 20- 25 دقيقة تصل بك السيارة الى حاجز الكفريات الذي يشبه معبرا دوليا، وهو حاجز يقع على ارض الضفة الغربية قرب الخط الاخضر وهو الحاجز الاخير، الذي يواجهك قبل قطع الخط الاخضر في اتجاه المطار.