لبنان.. الموارنة ورؤساء التسويات

السنة والشيعة لا يقبلون إلا بالأقوى لشغل أعلى منصب مخصص لهم في الدولة.. والموارنة يخضعون لانقساماتهم

TT

انتخب قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية اللبنانية بعد عطش الى من يملأ كرسي السلطة الاولى التي شهدت فراغاً لمدة ستة أشهر. شعارات كثيرة رافقت بقاءه رئيساً مع وقف التنفيذ. فهو «المنقذ» و«حامي السلم الاهلي» و«الرئيس القائد». لكنه ايضا وقبل ايِّ وصف آخر الرئيس الماروني التوافقي، الذي لم يصل الى قصر بعبدا حيث مقره الرسمي، إلا بعد مخاض عسير كاد يؤدي بالبلاد الى حرب أهلية. والسبب ليس شخصه وانما موازين لها مقادير حساسة في التركيبة السياسية المرتكزة على معادلات طائفية. هذه المعادلات لا تسمح لطائفة الرئيس المارونية بالتحكم في اختيار رئيسي السلطتين الثانية والثالثة، فهما يأتيان من رحم الطائفة والمذهب بمعزل عن شروط التوافق المفروضة على الرئيس الماروني.

سليمان ليس حالة فريدة في هذا السياق، ومراجعة سجل الرؤساء في لبنان منذ الاستقلال تدلنا على ان رئيس الجمهورية غالباً ما يدخل قصر الرئاسة توافقيا، ليغادر مارونيا. فالرئيس الراحل كميل شمعون دخل «فتى العروبة الأغر» وخرج زعيماً مارونياً. اما ريمون اده فقد كان زعيما من دون منازع، لكنه لم يستطع ان يكون أكثر من «العميد العنيد» على رغم وصول «لقمة الرئاسة» الى فمه مرات عديدة. وبمعزل عن الاتجاهات السياسية لكل فريق، يجمع اللبنانيون على ان الرئيس الراحل بشير الجميل، كان يتمتع بمواصفات القوة والشعبية والنجاح، لذا تم اغتياله بعد 21 يوماً من انتخابه في 14/9/1982، ليس لسبب من الاسباب الكثيرة المتوفرة، وانما لتمتعه بهذه المزايا التي لا تسمح لحلفائه او لخصومه بفرض التسويات عليه.

الاستثناء الوحيد للقاعدة عكسه الرئيس الراحل فؤاد شهاب، الذي كان قائدا للجيش. تم انتخابه بعد أحداث 1958 خلفا للرئيس كميل شمعون. قدم نفسه كمرشح توافقي بشعار «لا غالب ولا مغلوب». اجرى اصلاحات ادارية عدة وسعى إلى تحسين علاقة لبنان بالدول العربية الاخرى. سمي النهج الذي تبناه بالشهابية. ولا يزال النهج الشهابي حالة نادرة في تاريخ الرؤساء. هذا التاريخ مني بنكسة بعد اندلاع الحرب الاهلية في ابريل (نيسان) 1957. بعد اتفاق الوفاق الوطني في الطائف عام 1989 تولى النظام السوري تعيين الرئيس من دون معركة انتخابية، فتم اختيار الراحل الياس الهراوي خلفاً للرئيس رينيه معوض الذي تم اغتياله في عيد الاستقلال (22/11/1989)، ومدد له لتنتهي ولايته عام 1998، ويحل محله العماد اميل لحود الذي بقي في قصر بعبدا حتى ليل الرابع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) 2007.

اليوم اختلف مفهوم اختيار الرئيس. لم نصل الى مرحلة الانتخاب من خلال معركة ديمقراطية كما تقضي الاصول الدستورية بعد، لكن الامل بأن نصل الى هذه المرحلة يبقى بوابة دخول لبنان عهد المؤسسات. وبانتظار هذه المرحلة تتحكم عوامل عدة في وصول الرئيس الماروني الى قصر بعبدا. العامل الاول هو الجغرافيا التي تحدد قدر لبنان السياسي، كما هي الحال في الدول الصغيرة في علم الجيوبوليتيك. كذلك التوزيع الديموغرافي للمسيحيين الذين يتناقص عددهم بسبب الهجرة وتحديد النسل قياسا الى نسبة الانجاب لدى الطوائف الأخرى. وبالطبع تبقى صلاحيات الرئيس التي قلصت بعد الطائف علة العلل في القاموس السياسي المسيحي. يقول نائب رئيس حزب «الكتائب اللبنانية» الدكتور سليم الصايغ، (أكثرية) عن هذا الموضوع لـ«الشرق الاوسط»: «عندما كانت للرئيس صلاحيات أكبر في السلطة التنفيذية كان حضوره أكثر فعالية. فؤاد شهاب المحسوب على الجيش أطل من موقف حيادي. كان يمثل «حزب الدولة» اذا أردنا تصنيفه. لكن الشهابية الحيادية كانت ايجابية وفعالة في الادارة العامة. ويضيف: «علينا ألا ننسى ان طبيعة لبنان من الناحية السيوسيولوجية ترتكز على التركيبة الطائفية والطوائفية التي تجعل الزعيم المسيحي في معظم الاحيان في موقف مضاد للطوائف الاخرى. فهو يستمد قوته وزعامته من مواقفه التي تمنحه تاريخيا مكاسب في موقعه الطائفي وتضعه في أكثر الاحيان بمواجهة مع الطوائف الاخرى التي تصارع لتنتزع حقوقها. لذا الزعيم المسيحي القوي ليس مقبولا من المجموعات الاخرى في لبنان. واذا قرأنا هذا البعد السوسيولوجي لوجدنا ان طبيعة لبنان وتكوينه السياسي يتطلبان رئيسا توافقيا أكثر منه شعبيا وحاملا لمكونات الزعامة في طائفته. حينها يكون توافقيا وأكثر قبولا من الجماعات الاخرى». ويشير الى ضرورة «الفصل بين رئاسة الجمهورية قبل اتفاق الوفاق الوطني في الطائف والرئاسة بعد الاتفاق»، ويقول: «لم تعد بيد رئيس الجمهورية صلاحياته نتيجة التطبيق السيئ لاتفاق الطائف. كان لبنان بعد الطائف خاضعا لمعادلة مستحيلة هي انه محكوم بالوصاية السورية وغير مستقل ويطبق في الوقت ذاته نظاما منفتحا ديمقراطيا واقتصادا حرا. لذا لا يمكننا ان نبني على تجربة رئيس ما بعد الطائف، حيث كانت الازمات التي تهدد داخل النظام اللبناني لا تجد حلا لها الا في دمشق، مع المعرفة ان دمشق كانت تنتج هذه الأزمات وتصدرها الى داخل النظام اللبناني». ويضيف أن نظام الطائف «لم يعط الفرصة ليمارس كل الآليات التي يمكن ان يجترحها العقل البرلماني اللبناني. من هنا كانت الرئاسة عرضة للمتغيرات الاقليمية. وكان واضحاً ان اختيار سورية اداة لحفظ الاستقرار وتثبيت الحكم في لبنان كان خاطئاً لأن الأداة كانت هشة. وولدت مأزقاً لبنانياً». النائب في كتلة «التغيير والاصلاح»، نعمة الله ابي نصر (معارضة)، يشير الى أن الطائف اختزل صلاحيات الرئيس، ويقول لـ«الشرق الاوسط»: «هناك عدة عوامل تدخل في فعالية رئاسة الجمهورية. وعدا التدخلات الاجنبية هناك شخصية الرئيس وقاعدته النيابية. فشخصية الرئيس تلعب دوراً مميزاً في ظل التجاذبات والخلافات بين القوى والطوائف في لبنان. كما كانت الحال مع الرئيس فؤاد شهاب الذي جاء حسماً للخلاف بين المسلمين والمسيحيين بعد أحداث 1958. في ظل ما يجري على الساحة اللبنانية يمكن ان نستنتج ان الرئيس الحالي العماد ميشال سليمان قادر على ان يحكم بقوة». ابي نصر ينتقد فرض كل من الشيعة والسنة ممثلهم في مجلس النواب ومجلس الوزراء في حين لا يمكن للمسيحيين عموما والموارنة، خصوصا فرض ممثلهم في رئاسة الجمهورية، ليتم فرضه من قبل القوى الاخرى. ويقول: «اذا أرادت كل طائفة ان تنتخب الرئيس الذي تريد فرضه. لتكن فيدرالية طوائف، اذا بقي الوضع وفق هذه الرؤية». ويرى «ان كل طائفة تجتمع على من يمثلها، في حين ان المسيحيين يتخبطون تحت شعار التعددية. الأمر جيد اذا كانت التعددية متوفرة في كل الطوائف. لكن بمواجهة ما يحصل اليوم يجب ان تضع الطائفة المارونية برنامجا تلتزم به. اتمنى لو كان لدى الطوائف مثل الاخرى مثل هذه التعددية لتقابلها رؤية واضحة تسمح بأن تلعب الطائفة المارونية دور المصلح، كما كان دورها منذ عهد المتصرفية. فالموارنة يعرفون ان اي إضعاف للبنان سيقضي عليهم، وهم لا وطن آخر لهم، لذا رسالتهم هي في حفظ التوازن بين اللبنانيين». النائب ايلي عون من كتلة اللقاء الديمقراطي (أكثرية) لا يقرأ موضوع رئاسة الجمهورية خارج التركيبة اللبنانية ككل. ويقول لـ«الشرق الاوسط»: «في فترة ما بعد الطائف أصبح مجيء رئيس جمهورية مرتبطا بمخاض عسير من الاحداث والتراكمات السياسية والامنية. وهذا المخاض يؤدي الى تسوية تنتج عدة مفاعيل، من ضمنها قضية رئاسة الجمهورية. منذ ما بعد الطائف نحن لا نعيش في مناخ سياسي طبيعي حتى ننتج رئيسا قوياً، كما كان يحصل قبل الحرب الاهلية عام 1975. لم يعد هناك مناخ ملائم لأن لا وجود لحياة سياسية طبيعة وانما هناك تراكم للحروب والازمات». النائب في كتلة «التغيير والاصلاح»، نبيل نقولا (معارضة)، يعتقد ان الرئيس الماروني القوي يعود الى زمن بعيد. فالواقع الحالي لا يتغير بموجب تأثير قوة الرئيس او ضعفه. يقول لـ«الشرق الاوسط»: «لا صلاحيات دستورية لدى الرئيس، ولا اهتمام بشعبيته وحجم تمثيله على الارض. وهو لا يستطيع ان يحكم بالمعنى الحقيقي». ويضيف: «معركتنا ان نعيد الى الشعب اللبناني الصوت. علينا ان نغير القوانين الانتخابية. فما يحصل اليوم ليس انتخابا وانما تصويت». ويرى نقولا «ان الحل الوحيد يكون بأن ينتخب الرئيس بعد الانتخابات النيابية مباشرة، وأن يأتي بقوته الشخصية وليس برضا الآخرين عنه. لو كان لدينا قانون انتخابات نيابية يسمح بالتمثيل الشعبي اللبناني لاختلف الامر، بحيث يتم تعيين النواب من قبل رؤساء الكتل الموجودة ليصار الى انتخابهم تلقائياً. هذا الامر كان يحصل منذ عام 1992 حتى عام 2000، باستثناء انتخابات كسروان والمتن الشمالي وجبيل وزحلة. عدا ذلك يتم تعيين النواب». أما الصايغ، فهو لا يتوقف عند حدود تعديلات في النظام الانتخابي. ويقول: «لبنان يبقى ساحة. أرادت قوى اقليمية ودولية ان يصار الى لملمة الوضع في هذه المرحلة فكان اتفاق الدوحة. ليس لدينا خيار إلا الدولة. يجب ان تكون الدولة خيارنا الوحيد. فالخسارة في ظل الدولة ربح والربح من دون الدولة خسارة». لكن ألا يعكس ما يقوله صائغ منطق الضعيف لأن في لبنان فريقا يعتبر ان قوته الذاتية كفيلة ليس فقط بحمايته وانما لفرض قواعده؟ يجيب: «نحن لا نستطيع ان نفكر بهذه الطريقة. نحن نريد دائما الرئيس القادر والمتحرر من أي التزام. ولن يكون الرئيس قادرا الا اذا كان لديه دعم شعبي من كل الاطراف. اذا كان يريد بطريقة معينة ان يبقى اسير فريق لبناني مسلح لن نقبل. يجب ان يترجم الدعم الشعبي المطلق لسليمان عمليا من كل المواقف. منطق حزب الله نواجهه بمنطق الدولة ونريد للرئيس ان يواجهه بمنطق الدولة. وعندما يتحدث الامين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله عن التعددية والتنوع نطالبه بأن يسمح بالتنوع داخل الطائفة الشيعية». الصايغ يتوقع ان يحدث التغيير المطلوب في سدة الرئاسة، ويقول: «من الضروري ان تكون لدينا حالة جديدة في رئاسة الجمهورية. لا نريد ان نصل الى عهد يتحول فيه سلاح المقاومة الى سلاح للمعارضة، فيتم الخلط بين المفاهيم. تماما كما تحولت المقاومة الفلسطينية في لبنان الى فصيل للحركة الوطنية اللبنانية. صحيح ان لا خلاف على سلاح المقاومة. لكن ان يتحول هذا السلاح في ليلة دهماء الى سلاح للمعارضة. هذا ما يخيفنا اليوم». إلا ان النائب إيلي عون لا يجد «ان رئيس الجمهورية في ظل هذا الوضع هو اضعف من بقية الرؤساء في بقية المؤسسات الدستورية، انما هو رئيس كل المؤسسات الدستورية». ويضيف: «بمعزل عن مقولات الضعف والقوة يكفي ان نرصد الحشد الذي ترافق مع الاحتفال بانتخاب سليمان، وأهميته على مستوى التمثيل العربي والدولي. كما يكفي ان نرصد الاحتفالات الشعبية التي رافقت الانتخاب لنتمكن من تحديد هذا الاختلاف الذي يعبر بشكل واضح عن رئاسة الجمهورية. هو موقع يميل الى التوافق. وهو أكبر من موقعي رئاسة مجلس النواب ورئاسة الوزراء وبالتالي شروطه مختلفة».

التفاؤل سمة مشتركة بين النائب ايلي عون والمستشار سليم الصايغ الذي يقول: «العلة ليست في الرئيس، وانما في البلد الذي ينطلق بربع قدراته. هناك تسلط على جميع المؤسسات. صودرت الرئاسة لمدة ستة اشهر، ورئاسة الوزارة قمعت. هناك ضغط المعارضة المسلحة. هذه حركة انقلابية من خارج النظام. الحل اما انقلاب مضاد، او ان نتفق كمسيحيين على ثوابت اساسية، فلا نشرّع اي مجموعة تخرج عن الدولة ان نساعدها. يجب ان نتخذ موقفا تاريخيا ونتفق على ضرورة عدم تسييس موقع الرئاسة بالمعنى المبتذل، بمعنى ان يعتمد الرئيس على نظام مخابراتي ليحمي مصالحه الضيقة أو يفرض نفسه على التركيبة السياسية بقوة خارجية». ويضيف: «أثبتت التجربة ان من يرهن نفسه لا يستطيع الإفلات من رهانه وستبقى الدولة رهينة الوضع الامني».

أما عون فيقول: «الرئيس ميشال سليمان هو رجل المرحلة. يستطيع ان يكون همزة وصل بين الجميع نظراً لما يتمتع به من خصائص انطلاقا من موقعه كقائد للجيش، فهو ملم بتحديات المرحلة المقبلة، ولديه بالتأكيد هامش للأمن فيها. ولا أعتقد انه سيكون مكبلا من قبل أي طرف. التسرع غير دقيق. لا نزال في مرحلة رواسب ما حصل قبل اتفاق الدوحة وذيوله. إطلاق النار والمظاهرات ستختفي مع استتباب الوضع الامني وبسط الدولة سلطتها تدريجيا على الارض». ويعتبر عون «أن التعددية ظاهرة سليمة وديمقراطية. لكن الامر لا يتعلق بضعف الموارنة او قوتهم. كذلك لا يتعلق بأكثرية او أقلية، بحيث تتولى الاكثرية الحكم كما هي الحال في الانظمة الديمقراطية». ويقول: «هناك بدعة لبنانية اسمها الديمقراطية التوافقية وهي فريدة من نوعها. لها حسناتها ولها سيئاتها، لكننا محكومون بها». اما النائب نقولا فيحدد العلة من موقع آخر، ويقول: «انه طالما لا يأتي رئيس الجمهورية من خلال كتلة نيابية حصل عليها بقوته، سنبقى نشهد وصول رئيس يرتب بعد توليه الرئاسة كتلة على قياسه، ويكون بالتالي اسير الكتلة التي رتبت على قياسه. أي رئيس للجمهورية بالشكل الذي يتبع حاليا لن يترك بصمة على تاريخ الرئاسات بالتأكيد. ما لم تكن له شعبية تمنحه قوة عبر قانون انتخابات صحيح، سيبقى الرئيس صورة معلقة على الحائط، ولن يتمكن من حماية الدستور. ما حدث منذ ايام في منطقة الطريق الجديدة وفي دوحة عرمون بعد انتخاب العماد ميشال سليمان خير دليل. ما الذي يمنع تكراره؟». لكنه لا يربط تأثير الديموغرافيا بالحضور السياسي. فالمعروف ان عدد المسيحيين الى تناقص مقارنة مع عدد المسلمين، سنة وشيعة، وبالتالي فإن المساواة في الحصص وإن حفظت في المجلس النواب، الا انها تهتز في عملية توزيع هذه الحصص. ويقول نقولا: «اذا كان كل لبناني غادر بلده الى الشتات يصنف خارج الوطن ويحكم عليه بقطع التواصل مع الداخل اللبناني، يمكن ان نعتبر ان المسيحيين الى تناقص. لكن يكفي ان نذكر بأن عدد المسيحيين الذين غادروا لبنان منذ اتفاق القاهرة عام 1970 يبلغ مليونا ونصف المليون. وبالتالي بدأ الانحدار في قوة التمثيل لأسباب سياسية واقتصادية ومعيشية. كان يصعب على المسيحي ان يتعايش مع اعتداءات الفلسطينيين والحركات الاصولية لهذا السبب هاجر ولم يعد. اما الحل فيكون بالعلمنة التي تحمي الرئيس، ويجب ان يتم العمل عليها، لنصل الى يوم يشعر فيه اللبناني ان القانون هو الذي يحميه وليس طائفته».