تركيا وعلمانية الحزب الحاكم

أردوغان يخفي الخطط البديلة في حال حظر «العدالة والتنمية».. ويراهن على شعبية الحزب

نساء في تركيا يتظاهرن ضد منع ارتداء الحجاب («الشرق الاوسط»)
TT

فيما كان السياسي المخضرم وأب مدرسة الاسلام السياسي في تركيا نجم الدين اربكان، يودع الاصدقاء والمقربين، تمهيدا لتنفيذ عقوبة الاعتقال المنزلي لمدة 11 شهرا، في قضية لها علاقة مباشرة بقرارات حظر واغلاق حزبه، كان تلميذه رجب طيب أردوغان، الذي انفصل عنه قبل 7 سنوات تحت شعار التغيير والتحديث في اسلوب الاسلاميين، يضع اللمسات الاخيرة على خطة الدفاع والمواجهة التي أقرها حزب «العدالة والتنمية». وكان أردوغان يحاول الالتفاف على أي مفاجأة تطلقها المحكمة الدستورية التي قبلت في منتصف اذار (مارس) المنصرم طلب المدعي العام عبد الرحمن يلشن قايا اقامة دعوى ضد الحزب وطرح موضوع حظره سياسيا. والتهمة هي على العموم السعي للاطاحة بالنظام العلماني القائم في البلاد.

وفيما كان حزب العدالة يعد نفسه لمواجهة محتملة مع قيادات المؤسسة العسكرية، التي يعدنا بها الكثير من المتابعين للشأن التركي منذ سنوات، وتقود الى ضربة عسكرية لن تكون الأولى في البلاد، بهدف ايقاف المتمادين في تحديهم لشكل النظام وأسسه عند حدهم، جاءت المفاجأة من قبل القوة الثلاثية التي تجمع حماة العلمانية الأتاتوركية.

ومراكز القوى في مجلس التعليم العالي ومؤسسة القضاء والمحكمة الدستورية، تدخل على الخط مباشرة في الأشهر الأخيرة يدعمها طبعا بعض وسائل الأعلام راصدة صفوفها وموحدة جهودها في حملة مركزة للتصدي لكل الراغبين في تصفية حساباتهم مع العلمانية الأتاتوركية القائمة في البلاد منذ أكثر من 85 عاما.

وأردوغان الذي لمح في أكثر من مناسبة الى وجود رغبة عند البعض في اقتياده وكوادر العدالة الى المقصلة السياسية، انهى قبل أيام وضع اللمسات الاخيرة على خطة «الصمود والتصدي»، التي يأمل من خلالها ايقاف الحملات السياسية والاعلامية التي تشن ضد حزبه والحؤول دون صدور قرار الحظر. واستخدم لذلك كافة الاساليب والحجج والوسائل القانونية التي وصل اليها عشرات الحقوقيين العاملين على هذا الملف أو طرح البدائل والخيارات السياسية كخطوة أخيرة لا بد منها تكون كفيلة بحماية القواعد والقيادات وعدم التسليم بهذه السهولة. وما رد رئيس الحكومة على بيان رئاسة المحاكم العليا الأخير، الذي انتقد بشدة محاولات التدخل في شؤون القضاء وتسييسه والهيمنة عليه، الا تأكيد على أن أردوغان بات جاهزا للمنازلة فعلا، حيث قال: «عذرا لا يمكنني أن ابقى صامتا أمام ما يجري ويدور، فأنا لو فعلت ذلك سأخون أكثر من 16 مليون صوتا منحت لحزبنا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وحددوا خياراتهم وأعطوا قراراتهم حول الجهة التي يريدون أن يروها في الحكم والادارة، ومع ذلك فهناك من يتجاهل كل ذلك ويصر على الخروج عن التقاليد والاعراف».

الحزب الذي أغضب الكثير من العلمانيين المتشددين في البلاد، بعدما أطلق قبل عام تقريبا لحقبة ثانية من الحكم، قال إنها مرحلة التنفيذ اثر انجاز مرحلة التأسيس، لم يتردد كثيرا في اعلان مشروع التغيير والاصلاح على أكثر من صعيد وفي أكثر من مكان. وهو بدأ المناوشات عبر اقرار عشرات القوانين والتشريعات السياسية والاجتماعية والتربوية، واستبدل الكثير من كبار الموظفين بتعيين أشخاص مقربين اليه، ثم طرح في مطلع الخريف مسألة اعداد دستور جديد للبلاد، من دون الرجوع الى المعارضة السياسية.

وهو كان أصلا انزل ضربته القاضية بخصومه السياسيين، عندما قرر التمسك بترشيح عبد الله غل لرئاسة الجمهورية وأوصله الى قصر «شنقايا» هو وزوجته المحجبة، التي تصر الصحافة اليومية المعارضة على مواصلة الحملة الانتقادية لها، وترصد أخبارها ونشاطاتها اليومية في محاولة للحصول على الصيد الثمين، كما حصل أخيرا عندما قالت انها تتحمل مسؤولية فكرة نقل عشرات التحف الاثارية والتاريخية من بعض المتاحف الى قصر الرئاسة. ظفر اوسكول، رئيس لجنة حقوق الانسان النيابية واستاذ القانون الدستوري اليساري الميول، الذي أوصله حزب العدالة الى البرلمان التركي ضمن كتلته، قال لـ«الشرق الاوسط»، ان قرار السماح بارتداء الحجاب في الجامعات لا يتعارض مع مبادئ النظام العلماني. وأضاف: «هناك من يصر على القول إن العدالة والتنمية سيتم حظره، ولكن أنا لا أوافق على هذا الرأي. فحزبنا في ذروة العطاء وهو سيمضي في تنفيذ تعهداته وسياساته. الانتخابات المحلية تقترب ونحن سنحصل على أكثر من 60 بالمائة من الأصوات، وهو ردنا الوحيد على كل السيناريوهات والطروحات التي تستهدفنا». وتجاهل اوسكول تماما استطلاعات الرأي الأخيرة التي تؤكد معظمها تراجعا ملحوظا في شعبية العدالة والتنمية، وصلت الى 35 بالمائة، بعدما كانت قد ارتفعت الى أكثر من 50 بالمائة في أعقاب الانتخابات العامة التي جرت في منتصف الصيف المنصرم.

ويعتبر الكاتب والصحافي الليبرالي المعروف سميح اديز يرى، أن موضوع الحظر يتصدر مسائل النقاش في أوروبا والولايات المتحدة اللتين تتابعان القضية بدقة وحذر. ويقول ان الناخب التركي أعطى صوته مرتين متعاقبتين للعدالة والتنمية، وهو أراده في الحكم فليس من السهولة محاربته عبر حظره وهو في ذروة العطاء.

ويتساءل اساتذة القانون الدستوري المقربين من الحزب، هل يعقل أن يكون قرار حظر حزب العدالة بهذه الطريقة هو السلاح الذي يلوح به البعض للدفاع عن الديمقراطية والعلمانية التركية؟ هل ستنتشل الديمقراطية في تركيا من أزمتها عبر قرار إبعاد قيادات الحزب عن ممارسة العمل السياسي؟ ألن يعني ذلك المغامرة والتفريط بكل الجهود التي بذلها العدالة والتنمية في الداخل والخارج على أكثر من جبهة انمائية واقتصادية ودبلوماسية؟ كيف ستدافع تركيا عن مشاريعها الأقليمية وطلب العضوية الأوروبية، ودول الاتحاد الأوروبي تنتقد القسوة في المعاملة التي يتعرض لها العدالة والتنمية؟

غالبية القيادات الحزبية في العدالة تجمع على أن المحكمة الدستورية في قرارها النهائي ستصدر أمر الحظر، لكن الحزب لن يستسلم بهذه السهولة بعد سنوات طويلة من العمل الشاق على طريق جلجلة الوصول الى السلطة. ويعتبرون أن خيار التوجه الى صناديق الاقتراع في حال صدور قرار الحظر هو الوسيلة الانجع لحماية التوجهات والمطالب والامساك بخيوط اللعبة السياسية، خصوصا أن المعارضة غير قادرة على اطلاق حملة سياسية بديلة تعطيها فرصة المنافسة. لكن ذلك لن يعني أبدا أن الحزب لن يخرج متضررا فاقدا للكثير من قواه وقواعده الشعبية التي يقلقها ما يجري.

وتتوقف القواعد الشعبية للحزب عند موضوع التوقيت حيال ما يجري، فقرار رفع حظر الحجاب في الجامعات، الذي أقره البرلمان التركي رافقه على الفور قرار طلب حظر العدالة من قبل المدعي العام التركي. اخرون في المعارضة يرون أنه لو لم يصر العدالة والتنمية على ايصال عبد الله غل الى قصر الرئاسة، ولو أن الحكومة لم تتمسك بمسألة رفع حظر الحجاب في الجامعات، ولو استخدم غل حق النقض ضد هذا القانون، لكان مسار العملية السياسية غير ما هو عليه اليوم تماما.

فئة اخرى تتساءل عما اذا كان خطأ العدالة هو مهاجمة أوكار الدبابير في أعشاش منظمة «ارغن اكون» السرية التي حددت لنفسها مسؤولية الدفاع عن الدولة، عبر بناء تشكيلة سرية داخل مؤسسات الدولة نفسها، فسهل اعتقال عشرات الاكاديميين والسياسيين والمفكرين ورجال الاعمال والضباط المتقاعدين. فجاء الرد قاسيا على مغامرة حزب اردوغان هذه.

كبار الاعلاميين الاتراك الذين يتابعون تحركات حزب العدالة عن قرب، يتوقفون تحديدا عند سيناريوهين متداخلين. الأول، يقول إن الحزب يعد نفسه لانتخابات جزئية قد تتم في شهر اكتوبر (تشرين الاول) المقبل، في حال جرت السفن بعكس ما تشتهي قيادات الحزب. فالقرار الصادر عن المحكمة الدستورية يعني منع حوالي 30 نائبا من ممارسة العمل السياسي واسقاط عضويتهم في البرلمان. وهذا يعني الاستعداد لانتخاب اخرين جدد أو طرح اسمائهم كنواب مستقلين سيكون أردوغان نفسه بينهم، والحزب هنا مصر على ايصال مرشحيه من دون اية اختراقات تحققها المعارضة السياسية. أما السيناريو الثاني، فهو يشير الى أن الحزب سيقدم موعد الانتخابات البلدية المقررة في مارس (اذار) المقبل الى مطلع الخريف ـ اذا لم يعرقل تاريخ صدور قرار المحكمة الدستورية ذلك ـ منزلا ضربته الحاسمة بكل المراهنين على تفتيته واضعافه، تحت شعار حماية العلمانية الأتاتوركية بتحقيق انتصار سياسي جديد داخل البرلمان وعلى مستوى البلديات. وفي نفس الوقت يقطع الطريق على محاولات مستقبلية لتقييد تحركاته وخططه وبرامجه السياسية والانمائية. الا ان الثمن الأهم الذي سيدفعه أردوغان، هو تسليم موقع رئاسة الحكومة لفترة قصيرة الى بديل لم يحدد اسمه بعد في هذا السيناريو، الى جانب تخليه لمدة 5 سنوات عن موقع رئاسة الحزب تنفيذا لقرار الحظر.

تنتظر تركيا على أحر من الجمر اجتماع المحكمة الدستورية الذي قد يعقد الاسبوع المقبل، لمناقشة طلب حزب الشعب الجمهوري ابطال التعديلات الدستورية الاخيرة التي اقرها البرلمان لناحية الغاء حظر الحجاب في الجامعات. وأي قرار يصدر عن هذه المحكمة التي عين الرئيس التركي الاسبق احمد نجدت سيزر معظم قضاتها لناحية رفض طلب المعارضة، سيعتبر من قبل انصار الحزب وقواعدها انتصارا كبيرا على طريق الانتصار الأكبر في الحؤول دون اغلاق الحزب.

واردوغان الذي نجح حتى الساعة في اخفاء السيناريوهات البديلة التي اعد لها للرد على قرار المحكمة الدستورية بحظر حزبه، لا يخفي اطلاقا مطالبته العلنية بأن يصدر الحكم بأسرع ما يمكن حتى لا تتحمل تركيا المزيد من الخسائر المادية والمعنوية في الداخل والخارج. ويشير الى أن حزبه يركز على عملية الدمج بين موضوعي التعددية السياسية وحماية قرار ورغبة الاكثرية الشعبية، ليلتقيان معا عند نقطة الوصول التي تمثل النظام العلماني القائم في البلاد. ويتمسك الحزب بانه يتبنى العلمانية ويدافع عنها وأن خطوات الاصلاح السياسي والدستوري الاخيرة لا تهدف اطلاقا الى المساس بهذه القيم أو اضعافها، بل انها على علاقة مباشرة بالنظام العلماني الذي تعتمده وتتبناه الدول الاوروبية، وذلك انطلاقا من الرغبة التركية في الالتحاق بهذا النادي وغير ذلك من تفسيرات وتأويلات مرفوضة كليا.