سكوت ماكليلان.. نصف الحقيقة

بوش وتشيني ورايس لم يقرأوا كتابه «ماذا يحدث؟» عن أسرار البيت الأبيض.. لكنهم كالوا له السباب

TT

هناك مثل أميركي يقول «لا يوجد نصف ذكاء لأنه لا توجد امرأة نصف حامل»، وإذا أردنا إسقاط هذا المثل على المتحدث الصحافي السابق للبيت الأبيض، سكوت ماكليلان، لكانت النتيجة انه لا توجد «نصف حقيقة لأن الحقيقة دائماً كاملة». اراد ماكليلان أن يقول في كتاب أصدره أخيراً بعنوان «ماذا يحدث» كشف فيه اسرارا عايشها في البيت الابيض.. ان ما يقوله أنصاف حقائق. وفي بعض الاحيان أقل من نصف الحقيقة. الكتاب الذي صدر تحت عنوان فرعي ايضاً يقول «داخل بيت بوش الأبيض وثقافة الخداع في واشنطن»، اراد به سكوت ان يقول اشياء.. فضاعت عليه في بعض الاحيان كل الاشياء، وصدقه قليلون جداً.

مشكلة ماكليلان إنه اراد أن يسرد بكيفية ما بعض الوقائع لكنه لم يفلح، حسب ما يؤكده مراقبون. الذي حدث انه عاد الى الاضواء خلال الاسبوعين الماضيين وحظيَّ بمقابلات صحافية تقمص فيها شخصية قيل انها لا تناسبه. شخصية من يسدي النصح ويزعم انه كان الأنقى في إدارة بوش. قال ماكليلان بعد صدور كتابه «ما زلت احب وأقدر جورج بوش، انني اعتبره شخصا له مبادئ ومهذبا ولا أعتقد انه او البيت الابيض تعمدوا خداع الشعب الاميركي»، لكن ماكليلان نفسه يقول في كتابه الذي ظل يسرب اجزاءَ منه منذ نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي مستغلاً علاقاته السابقة كمتحدث صحافي باسم البيت الابيض مع وسائل الاعلام «بوش وكبار مساعديه قاموا بكيفية منهجية بخداع الرأي العام الاميركي حول الاسباب التي أدت الى الذهاب الى حرب العراق والجهود التي بذلت للتشكيك في مصداقية الانتقادات ضد تلك الحرب، مثل تلك التي وجهها السفير جوزيف ويلسون وعوقب عليها بتسريب اسم زوجته فاليري بالم العميلة السابقة لوكالة المخابرات الاميركية». يقول ماكليلان إن أصعب اللحظات بالنسبة له كانت في يوليو (تموز) عام 2005 عندما ابلغ المراسلين ان كارل روف كبير موظفي البيت الابيض ايامئذٍ، ولويس ليبي (سكوتر) مدير مكتب نائب الرئيس ديك تشيني لم يتورطا في تسريب اسم بالم الى الصحافة باعتبارها عميلة للمخابرات.

وقال ماكليلان باستياء «لم اكن اعرف أنني ابلغ الصحافيين معلومات كاذبة». لكنه قال إن ما يشفع له انه خاطب المراسلين وقتها قائلاً «اعدكم ساقول لكم يوم ما حقيقة ما أعرف»، وهو يعتقد ان هذا اليوم هو يوم صدور كتابه. قالت بالم تعليقاً على تلك التصريحات «اقوال ماكليلان مذهلة وانا مصدومة لعلمي بان الناطق الصحافي باسم البيت الابيض ماكليلان اكد أنه روج أكاذيب وسط الصحافيين». ويشكك كثيرون في ان ماكليلان كتب الكتاب لوحده، لكن مسألة «إعادة الصياغة» معروفة ومتداولة في واشنطن، حيث يتولى هذه المهمة أشخاص محترفون يتقاضون أجراً على ذلك. عندما يرسم ماكليلان صورة عن قرب لرئيسه بوش يقول إنه «شخص له جاذبية يحب النكتة وله مهارات سياسية»، لكنه يقول عن بوش ايضاً «قال بوش اثناء حملته الانتخابية عام 2000 انه لا يتذكر ما إذا كان قد تعاطى الكوكايين في شبابه، لا أعرف كيف يمكن ان يحدث هذا؟ كيف يمكن لشخص لا يستطيع ان يتذكر ما إذا كان تعاطى او لم يتعاط مادة غير مشروعة مثل الكوكايين، وتلك اول مرة كنت شاهداً على بوش، وهو يحاول اقناع نفسه بشئ غير حقيقي، وعندما عملت الى جانب الرئيس بوش وجدت انه ببعض الاوقات يقنع نفسه بما يتوافق مع رغباته في تلك اللحظة». هناك سيل من المتناقضات في حديث ماكليلان، ويعتقد كثيرون ان قلة خبرته هي وراء ذلك. وكان واضحاً عندما كان متحدثاً صحافياً انه لا يستطيع الخروج عن «النص».

ولم تقتصر انتقادات المتحدث الصحافي السابق باسم البيت الأبيض على حرب العراق بل طالت كذلك طريقة تعامل إدارة بوش مع إعصار كاثرينا الذي كانت من نتائجه أن غمرت مياه لمدينة نيو أورليانز بولاية لويزيانا صيف عام 2005 واعتُبر من بين الكوارث الطبيعية الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة، حيث خلف ذلك الإعصار أكثر من 1300 قتيل موزعين على خمس ولايات. ويصف ماكليلان في كتابه موظفي البيت الأبيض، وكيف أنهم أمضوا جل وقتهم خلال الأسبوع الأول الذي أعقب إعصار كاثرينا، وهم في «حال من النفي والتكذيب» لما كان يجري. وقال «لقد أصبحت أسوأ الكوارث في تاريخ أمتنا واحدة من أكبر الكوارث في رئاسة بوش». لكن الى أي مدى كان ماكليلان صادقاً في رواياته وقصصه التي سردها في كتاب يقع في حوالي 300 صفحة. وأثار استياء بالغا وسط إدارة الرئيس بوش، حيث عبرت دانا بيرنو، المتحدثة الصحافية الحالية عن ذلك، قائلة «نحن في حيرة من أمرنا هذا شيء محزن هذا ليس هو سكوت الذي نعرفه». هذا السؤال طرحته «الشرق الاوسط» على دوق فيث الذي كان الرجل الثالث في البنتاغون قبل واثناء حرب العراق، واجاب عنه قائلاً «كتاب ماكليلان حافل بالاتهامات لكنه لم يقدم اي دليل على تلك الاتهامات» واضاف فيث «كنا نريد ان يقدم لنا أدلة تؤكد صحة رواياته، لكنه بدلاً من ذلك أصدر احكاما قيمة». يشار الى ان فيث نفسه أصدر كتاباً عن حرب العراق بعنوان «الحرب والقرار».

لم يكن ماكليلان من الشخصيات اللامعة التي جاء بها الرئيس بوش من ولايته تكساس الى البيت الابيض، اي اولئك الذين شغلوا مواقع مفصلية في إدارته، مثل كارل روف او كارين هيوز التي عمل ماكليلان تحت امرتها قبل ان يعين في منصبه متحدثاً صحافياً. يقول كثيرون ان حديثه في اللقاءات الصحافية كان مملاً، لا يأتي بجديد الا إذا كان بياناً يعلن موقفا ما. منتفخ الاوداج. ملامحه باردة. عيون زرقاء يحملق بهما كثيراً لكنهما لا يقولان شيئاً. لغته كما يقول الفرنسيون «لغة خشبية»، اي تلك اللغة التي لا تقول شيئاً. سلم له الرئيس بوش منصباً مهماً اكبر من قدراته بتوصية من كارين هيوز. وبعد ان ترك وظيفته في البيت الابيض اصبح اسمه خامداً بلا إشعاع. ولد ماكليلان في استن بولاية تكساس عام 1968، وعين في منصبه متحدثاً صحافياً عام 2003 وعمل في هذا المنصب حتى ابريل (نيسان) 2006. تخرج ماكليلان في جامعة استن، وعمل في المجال السياسي حيث كان مديراً لمكتب أحد اعضاء الكونغرس عن ولاية تكساس، وعينته كارين هيوز نائب المتحدث الصحافي باسم حملة الرئيس بوش عام 2000. عمل ماكليلان في بداية انتقاله من تكساس نائباً للمتحدث باسم البيت الابيض، ولم يكن يحضر الاجتماعات المهمة التي تتخذ خلالها القرارات الحاسمة، خاصة في مجال السياسة الخارجية، على اساس انه لا تتوفر فيه خصائص «صانع القرار» في عاصمة تصنع فيها القرارات التي تحرك العالم، لكنه كان مكلفاً شرح تلك القرارات للرأي العام من خلال اللقاءات اليومية مع المراسلين المعتمدين لدى البيت الابيض، وعندما كان هؤلاء المراسلون يطرحون عليه اسئلة فرعية لمزيد من التوضيح كان يلوك عباراته ويجترها دون أن يقول شيئاً، وهو يحاول الآن ان يبرر هذا الموقف قائلاً «انني ألوم نفسي لقد سمحت ان أتعرض للخداع، لكن سلوك الرئيس والمستشارين الرئيسين كان مخيباً للآمال». يقول معظم المراسلين الذين عملوا في البيت الابيض بأنهم لم يكونوا يجدون في حديث ماكليلان شيئاً يغري. لكن هناك مَنْ يرى في كتاب ماكليلان أشياء مهمة، وفي هذا الصدد، يقول الصحافي الايطالي غيتو مولتيدو، الذي عمل مراسلاً في البيت الابيض وكتب كتاباً باللغة الايطالية حول المرشح الديمقراطي باراك اوباما «أخيراً عرفنا كيف تلاعبت إدارة الرئيس بوش بالمراسلين حول حرب العراق من أجل تكوين صورة متفائلة حول نجاحات غير حقيقية» وقال مولتيدو لـ«الشرق الاوسط»، «هذه اول شهادة من الدائرة الضيقة، حيث تقال لأول مرة الحقيقة من شخص اصبحت بينه وبين البيت الابيض مسافة». ويعتقد مولتيدو ان «ماكليلان عمل ضد استعمال الدعاية وضد التلاعب بالرأي العام ويتضح من كتابه ان إدارة الرئيس بوش تفتقد الى النزاهة والشفافية، والكتاب يشكل حرجاً للمرشح الجمهوري جون ماكين الذي يقدم نفسه كمساند لادارة بوش في حرب العراق». بيد ان مولتيدو يبدي ملاحظة جوهرية، وهي ان «عددا كبيرا من زملائه السابقين في البيت الابيض يعتقدون ان ماكليلان خائن، وهناك كثيرون يتساءلون لماذا لم يقدم استقالته في الوقت الذي ادرك حقيقة ما يجري داخل الادارة». هناك كثيرون مثل مولتيدو يقولون إن ماكليلان، ابلغ رسالته، ويستدلون على ذلك بما قالته كوندوليزا رايس، التي انبرت للدفاع عن سجل ادارة الرئيس بوش، في سياق ردها على انتقادات ماكليلان، حول سياسة الادارة في الحرب على العراق. وجاءت تصريحات رايس بعد تصريحات لماكليلان التي قال فيها ان الادارة الأميركية تلاعبت بالحقائق المتعلقة بالحرب عدة مرات، وأن بوش قاد الأزمة بطريقة تضمن له خيار الحرب، مشيراً الى ان «حملة تضليلية انطلقت منذ عام 2002 لهذا الغرض». وقالت رايس بدورها انها لم تقرأ كتاب ماكليلان وهو ما سيقوله ايضاً الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني. واوضحت انها لن تعلق على ما جاء في كتاب ماكليلان لانها لم تقرأه، لكنها شددت على أن الاطاحة بنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين كان امرا صحيحا. واضافت ان الاعتقاد بان العراق كان يملك او يطور اسلحة تدمير شامل كان اعتقادا منتشرا على نطاق واسع قبل الحرب. وكان ماكليلان قد قال في كتابه ان بوش «لم يكن منفتحا وصريحا ومباشرا» فيما يخص موضوع العراق، إذ «اندفع إلى شن حرب بدون داع أو ضرورة»، وتعابيره حول حرب العراق هي التي روجت في الواقع لكتابه، خاصة عندما قال إن بوش «ضل وانحرف بشكل مريع عن الطريق» في معالجته للأزمة العراقية. وكاد ماكليلان يتهم بوش بالكذب بشأن الأسباب التي حدت به لاتخاذ قرار الذهاب إلى الحرب في العراق، إلا أنه قال إن الإدارة الأميركية وقتئذ نسقت عملية الاستعداد للحرب بحيث باتت القوة هي الخيار الحقيقي الوحيد. ونسب الى ماكليلان قوله في كتابه «إن الأمر برمته كان يتعلق بالسيطرة على المصادر التي تؤثر بالرأي العام ومن ثم التلاعب بها لصالح الرئيس، بالإضافة إلى انتقاد وسائل الإعلام بسبب إخفاقها بطرح الأسئلة الكافية». وكان ماكليلان قد قال في تسريبات سابقة لمحتوى كتابه إن بوش «ضالع في تضليل الشعب الأميركي» في قضية تسريب اسم إحدى عميلات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) إلى وسائل الإعلام. وقال ماكليلان إن بوش أسهم في تضليل الناس حول دوره في قضية اثنين من المستشارين في البيت الابيض. وكانت فاليري بليم، عميلة «سي آي إيه»، قد قالت إن هويتها انكشفت بسبب معارضة زوجها الدبلوماسي للحرب على العراق. إلا أن البيت الابيض قال إن الرئيس بوش لا يمكن أن يطلب من أحد تمرير معلومات مضللة. كما قال ماكليلان إن المستشارين السابقين لبوش، وهما كارل روف ولويس (سكوتر) ليبي «لم يكونا ضالعين» في الكشف عن هوية بليم.

وعقب صدور كتابه ظهر ماكليلان في أكثر من لقاء صحافي تلفزيوني كما حاورته أكثر من صحيفة. وفي جميع هذه اللقاءات بدا «مهزوزاً» يتبنى الفكرة ونقيضها في الوقت نفسه. ولعل ذلك ما جعل كلا من بوش ونائبه تشيني يتعاملان بقليل من الاستخفاف مع ما قاله ماكليلان في كتابه أو في تصريحاته. وخلال لقاء جرى في الاسبوع الاول من الشهر الحالي في «نادي الصحافة الوطني» بواشنطن وجهت «الشرق الاوسط» سؤالاً الى تشيني حول ما إذا كان قرأ كتاب ماكليلان، فقال بعبارات لا تخلو من الاستهزاء «لم أقرأه ولا اعتقد انني سأقرأه.. واظن ان بوب دول كان معه الحق»، وكان بوب دول المرشح السابق للرئاسة وصف سكوت بأنه «انتهازي جشع». وقال دول ايضاً «هناك مخلوقات بائسة مثل ماكليلان». أما تعليق الرئيس بوش حول كتاب المتحدث السابق باسمه، فقد كان ينضح بالاستياء «ليس لدي اي اهتمام بقراءة كتاب ماكليلان.. لانه كتاب»، واضاف مستهزئاً «انني مندهش انه كتب كتاباً ينتقدني فيه.. لو أردت انتقادي فإن الكتاب هو آخر وسيلة يمكن ان تستعمل من أجل ذلك وهو لن يضيف لي سوى صفر.. وإذا كنت لم أقرأ تقرير مجموعة دراسة العراق لا اعتقد انني سأقرأ هذا الكتاب الصغير». وقال بوش ايضاً إنه ربما يطلب من زوجته لورا، ان تقرأ الكتاب وتلخصه له. يذكر ان لورا في الاساس هي موظفة مكتبة. ويعتقد كثيرون في العاصمة الاميركية ان ماكليلان كان يسابق الوقت ليصدر كتابه قبل رحيل إدارة الرئيس بوش في يناير (كانون الثاني) من العام المقبل. على اساس ان القفز من سفينة بوش، وفي هذا الوقت هي أفضل وسيلة من أجل الحصول على مكان في قادم الايام في واشنطن. بيد ان المشكلة الاساسية مع ماكليلان إن قدراته محدودة، ثم ان «عرابه» الحقيقي وهي كارين هيوز تركت إدارة بوش قبل فترة قبل ان تجنح سفينة هذه الادارة نحو الصخور.

والمشكلة ان ماكليلان صغير السن، 40 سنة، وهو يريد ان يكون كتابه بمثابة انطلاقة جديدة له في عالم الصحافة والسياسة، لكن سواء كان صادقاً او ملفقاً، فإنه تعرض لحملة جامحة لم يقو على مواجهتها. اراد ان يلعب ورقة «صحوة الضمير» ويروج لذلك وسط صحافيين، ظلوا يعتقدون خطأ أو صواباً انه كان جافاً معهم، بيروقراطيا الى أقصى الحدود. سريع الانفعال. اراد ان يمارس معهم دور استاذ. بعضهم مثل المراسل هلين توماس أمضت فترة اطول من عمره مراسلة في البيت الابيض. قالت ساخرة عندما سئلت عن رأيها في كتاب ماكليلان «يا إلهي كتاب دفعة واحدة لم يكن يقول لنا شيئاً ذا بال». ماكليلان جاء مبكرا ً من تكساس الى البيت الابيض، وخرج مبكراً من الحياة السياسية للعاصمة.