تجارة الكربون: السماسرة رفعوا الأسعار

مثل تجارة النفط، فيها مضاربات.. وأسواق.. ومكافآت

TT

يوم الاثنين، نشرت جريدة «واشنطن بوست» افتتاحية رئيسية انتقدت فيها الرئيس بوش والكونغرس لتقصيرهما، أو ربما رفضهما، تنفيذ كل الاتفاقيات الدولية لنظافة البيئة، خاصة اتفاقية كيوتو (سنة 1997). قالت الافتتاحية: «لن يحدث تقدم عالمي ملحوظ في هذا المجال ما دامت الولايات المتحدة لا تشترك فيه اشتراكا فعالا». في الاسبوع الماضي، فشل الكونغرس في اجازة «قانون الامن المناخي»، ولم يبذل الرئيس بوش جهودا كبيرة لإقناع اعضائه، وخاصة اعضاء الحزب الجمهوري، بالتصويت مع القانون. تدعو مسودة القانون لتخفيض غاز الكربون بنسبة 60% حتى سنة 2050. وكانت النسبة حلا وسطا بين اعضاء الكونغرس وبين لجنة فدرالية تأسست قبل ثلاث سنوات لوضع توصيات عن هذا الموضوع، واوصت اللجنة ان تكون نسبة التخفيض 80%.

وفي الاسبوع الماضي ايضا، اصدر «كاونسل اون فورين ريليشنز» (مجلس العلاقات الدولية، في نيويورك) تقريرا انتقد فيه، ايضا، الكونغرس. ورغم ان المجلس اوصى بنفس نسبة الـ 60% التي جاءت في مسودة قانون الكونغرس، انتقد المجلس كلا من الرئيس بوش والكونغرس.

قالت «واشنطن بوست» ان هذا التقرير ليس مثل غيره من التقارير لأن الذين كتبوه شخصيات مهمة، مثل: جورج باتاكي، حاكم سابق لولاية نيويورك، وتوم فيلساك، حاكم سابق لولاية ايوا. ولاحظت الصحيفة ان الاول ينتمي الى الحزب الجمهوري، وينتمي الثاني الى الحزب الديمقراطي. بينما كان اسم مشروع قانون الكونغرس هو «قانون الامن المناخي»، وكان اسم تقرير اللجنة هو «مواجهة التغييرات في المناخ.. استراتيجية جديدة للسياسة الخارجية الاميركية».

يوضح الاسمان أن الاميركيين يريدون ربط موضوع نظافة البيئة بموضوع الامن الوطني الاميركي في الداخل بالقول إن خطر عدم نظافة البيئة ربما لا يقل عن، مثلا، خطر الارهاب، ويؤثر على المصالح الاميركية في الخارج. على اي حال، كما قال عنوان افتتاحية «واشنطن بوست»: «تحتاج الولايات المتحدة الى سياسية فعالة».

الشهر الماضي، اصدر مركز «بيو» (في واشنطن العاصمة) للاستفتاءات الشعبية تقريرا عن تجربة الاوروبيين في هذا المجال. هذا هو «مشروع الاتحاد الاروبي لتجارة انبعاث الكربون» (اختصاره: اي يو اي تي اس). والذي بدأ قبل ثلاث سنوات. طلب مركز «بيو» دراسة التجربة الاوروبية من استاذين في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا (ام آي تي): دني اليرمان، وبول جوسكو. في التقرير، قال الاستاذان الآتي: اولا: لا بد من جمع معلومات اساسية وصحيحة وعلمية لضمان ان تجارة غاز الكربون تقوم على اسس يمكن الاعتماد عليها. ثانيا: لا بد من وضع حد لمكافآت بيع وشراء غاز الكربون. ثالثا: لا بد من الاعتماد على التجربة الاوروبية لتوسيع هذه التجارة لتكون على مستوى عالمي. وهكذا قدم الاستاذان الجامعيان جوانب ايجابية وسلبية في الموضوع. غير ان ايلين كلاوسنس، مديرة مركز «بيو» قالت: «تقدم التجربة الاوروبية دروسا لنا، نحن الاميركيين. ولنعطي الاوروبيين مكأفاة من نوع جديد: مكأفأة مبادرتهم، اكثر من اي دول اخرى».

صحيح، يشكل البرنامج الاوروبي اكبر برنامج في العالم لتخفيض غاز الكربون. ويشترك فيه اكثر من 10 آلاف مصنع ينبعث منها نصف غاز اوكسيد الكربون في اوروبا. وحسب البرنامج يحدث الآتي: اولا: تضع الحكومة حدا اقصى لضخ غاز الكربون من كل مصنع. ثانيا: يحسب كل مصنع، بالطن، الكربون الذي ينبعث منه. ثالثا: يدين، او يستدين، من مصانع اخرى اطنان الكربون، اذا نجح، او فشل، في توفير الحد الادنى. رابعا: ينسق مع مصانع اخرى لبيع وشراء كل «مكافأة كربون».

بدأت التجربة الاوروبية مرحلتها الاولى سنة 2005، واستمرت سنتين، وانتهت في السنة الماضية. ثم بدأت مرحلة ثانية ستنتهي سنة 2012. ولا تحسب «بطاقات الكربون» كل سنة، ولكن خلال فترة اطول، وذلك لأن التقلبات الجوية، مثل صيف حار جدا، او شتاء بارد جدا، تؤثر على انبعاث غاز الكربون. وهكذا، ازدهرت تجارة الكربون. في البداية، كانت البطاقات تباع وتشترى في مزادات، ثم دخلت اسواق الاسهم والمراكز الاستثمارية. وكانت عن غاز ثاني اوكسيد الكربون فقط، ثم انضم غاز ثاني اكسيد النيتروجين.

في سنة 1992، عقدت الامم المتحدة اول مؤتمر عالمي لبحث هذه الترتيبات. وفي سنة 1997 عقد مؤتمر كيوتو في اليابان، ووضع اسس التجربة. وفي سنة 2001، عقد مؤتمر في مراكش لدفع الاجراءات الى الامام. غير ان الولايات المتحدة ترددت، بل رفضت في البداية، تطبيق اتفاقية كيوتو. وكان واضحا ان الرئيس جورج بوش لا يتحمس للفكرة، بل عارضها في البداية حين فاز برئاسة الجمهورية اول مرة سنة 2000. وكان ذلك سببا رئيسيا لاستقالة كريستين ويتمان، مسؤولة نظافة البيئة (وكالة وقاية البيئة التي تعرف بالحروف المختصرة: اي بي ايه). كانت من قادة الحزب الجمهوري، واستقالت من منصبها حاكمة لولاية نيوجيرسي عندما اختارها بوش للمنصب في ذلك الوقت. لكن، بعد سنتين فقط، استقالت.

ورغم ان الحزب الجمهوري لا يعرف عنه الحماس لنظافة البيئة اذا اثرت على النشاط الاقتصادي، اسس الرئيس نيكسون (الجمهوري) الوكالة سنة 1970. لكن، نيكسون كان ينتمي للجناح المعتدل في الحزب. وعندما جاء الرئيس ريغان (سنة 1980) وهو من الجناح اليميني، كاد ان يلغي الوكالة. بل قال: «ينبعث غاز الكربون من المصانع وايضا من الاشجار. انه غاز طبيعي موجود في الهواء». واوضح هذا الكلام: اولا: جهل ريغان بأبسط الحقائق العلمية. ثانيا: عدم رغبته في التركيز على نظافة البيئة. كان الرئيس بوش (الاب، المعتدل) اقل عداء لنظافة البيئة من ريغان. غير ان ابنه سار على خط ريغان.

روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، صارت انبعاثاتها من الغازات الدفيئة، حاليا، أقل مما كان عليه الحال في عام 1990، وبالتالي فإن روسيا حققت فعليا المطلوب منها، بل إنها تملك حاليا فائضا من حصص الانبعاثات، والذي يمكن أن تبيعه للدول الصناعية في غرب أوروبا بقيمة تقدر بحوالي 10 بلايين دولار حيث تشير بعض التقديرات إلى أن نسبة الانبعاثات من روسيا هي حاليا أقل بحوالي 30% مما كانت عليه عام 1990.

وبالتالي فمن المتوقع أن يشهد العالم، بعد توقيع روسيا على بروتوكول كيوتو انتعاشا لنوع جديد من التجارة، وهي تجارة غازات الدفيئة التي يطلق عليها‏ ‏الصناعيون اختصارا اسم «تجارة الكربون». وتتضمن تجارة الكربون سوقا دولية للكربون مثل أي سوق أخرى في ‏العالم وفيها أسعار محددة لطن الكربون الذي يتم إطلاقه في الجو من قبل الدول الصناعية، والذي يدخل في عملية تمويل مشاريع تجارة الكربون في العالم.

وفي هذه الحالة يكون البائع من الدول أو الجهات ذات الانبعاثات المنخفضة من غاز ‏ثاني أوكسيد الكربون، ويكون المشتري هو صاحب الانبعاثات المتزايدة، بينما السلعة هي ‏ثاني أوكسيد الكربون الذي يمثل نحو 50% من غازات الدفيئة، والسعر حسب ‏العرض والطلب. وهذه السوق تعني أيضا ظهور طبقة جديدة من المضاربين الذين يمكن تسميتهم سماسرة الكربون.

مثل بيع وشراء عقودات النفط، وبيع وشراء عقودات المحاصيل، صار بيع وشراء بطاقات غاز الكربون تجارة عالمية. ومثلما دخل المضاربون والمزايدون هذه الاسواق، دخلوا أخيرا سوق الكربون. في شيكاغو، حيث أكبر سوق في العالم لعقودات المحاصيل، تباع وتشترى عقود التخلص من المواد الكيماوية في المياه والبحار، وهي واحدة من اسباب التلوث. وجاء الآن «سوق تخفيض انبعاث غاز الكربون».

في «وول ستريت» (سوق الاسهم والاستثمارات في نيويورك) تتاجر شركات الكهرباء في بطاقات الكربون، حسب كمية الكربون الذي تضخه مصانع الكهرباء. ويعيد هذا الى الاذهان كارثة شركة «انرون» التي اعلنت (سنة 2001) اكبر إفلاس في تاريخ الولايات المتحدة، وكانت من اوائل الشركات التي تاجرت في عقود الطاقة. وتجب ملاحظة ان هناك فرقا بين التجارة في النفط، مثلا، وبين التجارة في عقود النفط، اعتمادا على توقعات مستقبلية. لم تكن «بطاقات الكربون» هي اول لحل المشكلة. اول فكرة كانت فرض ضرائب على كل مصنع، حسب كمية الكربون الذي يضخه. لكن، عارض الضرائب كثير من المهتمين بالموضوع، لأكثر من سبب: اولا: اعتبرت الفكرة عقابا اكثر منها تشجيعا. ثانيا: عارضها، فلسفيا، الذين يعارضون الضرائب لحل كل مشكلة. ثالثا: أقنعت الشركات اعضاء الكونغرس بأنها تقدر على حل «خلاق».

لكن، هذه الكلمة هي اساس منطق الذين لا يتحمسون، او يعارضون، «بطاقات الكربون». قالوا ان «خلاق» هي، في الحقيقة، إبعاد الحكومة (وبالتالي ممثلي الشعب) من حل هذه المشكلة. وقالوا انهم، بصراحة، لا يثقون بان تخلص الشركات في تنفيذ تعهداتها بنظافة البيئة نظافة حقيقية. لكن، الحقيقة هي ان «بطاقات الكربون» برنامج تسيطر عليه، الى درجة كبيرة، الشركات، وهي تريد ان تعالج مشاكلها بنفسها. وحوَّل البرنامج ما كان مشروعا حكوميا (منذ قبل اكثر من ثلاثين سنة، عندما اسس الرئيس نيكسون وكالة حماية البئية) الى مشروع رأسمالي، مثل سوق الاسهم.

ولهذا، يمكن اعتبار الموضوع محاولة مشتركة بين الحكومات والشركات لمواجهة مشكلة خطيرة، وهي تلوث البيئة. قبل اكثر من ثلاثين سنة اهتمت الامم المتحدة بالموضوع. لكن، كان هذا اهتمام حكومات اكثر منه اهتمام شركات. غير ان الامم المتحدة لعبت دورا رئيسيا في تنسيق الجهود. ولا يذكر ذلك إلا ويذكر «الإعلان المئوي» الذي وافقت عليه 189 دولة، والذي اعلن سنة 2015، موعدا لتحقيق 8 اهداف عالمية، هي: اولا: تخفيض عدد الفقراء بنسبة النصف (الفقير هو الذي يقل دخله عن دولار في اليوم). ثانيا: إدخال كل الاولاد والبنات في مدارس ابتدائية، على الاقل. ثالثا: مساواة الاولاد والبنات حتى المرحلة الثانوية، على الاقل. رابعا: تخفيض الوفيات الحوامل والواضعات بنسبة النصف. خامسا: القضاء على انتشار الايدز والملاريا. سادسا: مشاركة فعالة من جانب الدول الغنية في تنمية الدول الفقيرة. سابعا: تخفيض متوسط وفيات الاطفال بنسبة النصف. ثامنا: نظافة البيئة بوقف زيادة التلوث، ان لم يكن تخفيضه. وهكذا، تطورت جهود نظافة البئية وركزت على القطاع الخاص. واوضح تقرير للبنك الدولي ان حجم سوق بطاقات البترول كانت قيمته اكثر من عشرة مليارات دولار سنة 2005، ووصل خلال سنتين فقط الى اكثر من ستين مليار دولار. وظهر دور القطاع الخاص في مؤتمر دافوس (في سويسرا) سنة 2005، عندما اشتركت شركات عالمية كبيرة في دفع تجارة البطاقات الى الامام. وكان منها: فورد، وتويوتا، والخطوط الجوية البريطانية، ويونيلفر. وفي السنة الماضية، وصل عدد الشركات التي انضمت الى هذه المبادرة الى اكثر من مائتي شركة. لكن، لا يعني هذا ان الحكومات لا تلعب دورا كبيرا. اولا: تضع الحد الاعلى لانبعاث الغازات الضارة. ثانيا: تتفاوض نيابة عن شركاتها. ثالثا: تشترك في تجارة البطاقات بطريقة غير مباشرة (مثلا: اذا نجحت مصانع النرويج في تخطي الحد الادنى لتوفير البطاقات، واذا فشلت مصانع المانيا في ذلك، تقدر الحكومتان، النرويجية والالمانية، على بيع وشراء هذه البطاقات). بالاضافة الى هذا، هناك دور الحكومات في وضع اطارات هذه التجارة: أولا: وضع الحد الادنى لكل مصنع. ثانيا: تسجيل المصانع «الناجحة» و«الفاشلة». ثالثا: تعيين مراجعين لمراقبة الشركات. رابعا: فرض غرامات على الذين يخرقون القانون.

في الجانب الآخر، هناك منظمات دولية لا تراقب هذا النوع الجديد من التجارة والمضاربة فقط، ولكن، ايضا، تنتقده. من بين هؤلاء مركز «كاربون تريد ووتش» (مراقبة تجارة الكربون، على وزن «هيومان رايتز ووتش»). قال كيفين سميث، مدير المركز، إن من مشاكل هذه التجارة هي: اولا: تدير الشركات نفسها بنفسها. ثانيا: لا توجد مقاييس علمية محايدة. ثالثا: تؤثر الشركات على علماء البيئة. رابعا: لا يوجد إسهام من المواطنين. واضاف سميث: «بيع وشراء بطاقات الكربون مشكلة صغيرة. المشكلة الكبيرة هي فلسفة قدرة السوق الحر على حل مشاكله. أي أن الشركات تقدر على مراقبة نفسها. عبر التاريخ، ظلت الفلسفة المسيطرة هي كيف يحكم الناس انفسهم. وكتب عن الموضوع هنري مايدومين، استاذ العلوم في جامعة كاليفورنيا، فقال: «بالاضافة الى غياب إشراك مباشر من الشعوب، واقصد هنا شعوب الدول الغربية، يوجد إهمال، بل استغلال، لشعوب العالم الثالث».

واشار الى ان الشركات العالمية تخلط بين نظافة البيئة في الدول الغربية (حيث التلوث اكثر) وفي دول العالم الثالث (حيث التلوث اقل). واشار الى مثال من أوغندا. قال إن شركات هولندية تزرع اشجارا في يوغندا. وتعتبر ذلك نظافة للبيئة. وتحصل بها على بطاقات كربون، تبيعها وتشتريها.

والمثال الثاني من الهند. قال مركز العلوم والبيئة في الهند ان شركة «كوكا كولا» الاميركية هناك تلوث البيئة في مصانعها. وقال إن ابحاثا اوضحت ان نسبة المواد الغريبة في مشروبات الشركة في الهند تساوي عشر مرات نسبتها في مشروبات الشركة في الدول الغربية. لكنها، رغم ذلك، تعتبر مشروبات صحية. وقال: «اذا كان هناك فرق بين المشروب الصحي في الشرق والغرب، ما بالك بالفرق في التلوث بين الشرق والغرب. لنبدأ بتلوث المشروب الصحي في الهند، قبل ان نتحدث عن تلوث المياه غير الصحية». واضاف: «يوجد فرق كبير بين تلوث وتلوث».