نيبال.. نهاية عهد

غادر آخر ملوك البلاد القصر الوردي ليعيش مواطناً عادياً.. وتحولت البلاد إلى جمهورية

جنود نيباليون داخل القصر الملكي الذي تحول الى متحف في العاصمة كاتماندو (إ.ب.أ)
TT

شهدت دولة نيبال الواقعة جنوب آسيا سقوط عائلة ملكية حكمت البلاد على امتداد قرابة 250 عاماً وحظي ملوكها بالتقديس باعتبارهم تجسيدا للآلهة الهندوس. وجاء رحيل الملك جيانندرا وأسرته عن القصر الملكي بعد محاصرته بداخله ليضع فصل النهاية لآخر العائلات المالكة الهندوسية على مستوى العالم. وتم إعلان نيبال (ثاني أفقر دولة بالقارة الآسيوية) دولة جمهورية خلال الشهر الماضي في أعقاب انتخابات شهدت حصد المتمردين الماويين لغالبية المقاعد داخل مجلس خاص أُوكلت إليه مسؤولية إعادة صياغة دستور البلاد. وكان الملك قد تم تجريده من التاج ومنحه مهلة 15 يوماً للرحيل عن قصره في قلب العاصمة كاتماندو. يذكر أنه على امتداد التاريخ الحديث، من النادر حدوث حالات إسقاط نظام ملكي من خلال اقتراع عام أو بهذه الصورة السلمية. وفي 11 يونيو (حزيران)، بينما كان الظلام يخيم على العاصمة النيبالية، كاتماندو، غادر الملك جيانندرا، آخر ملوك البلاد، القصر الوردي ليبدأ العيش كمواطن عادي في مسكن متواضع بغابات تلال ناجاريون بضواحي العاصمة. ولم يحظ الملك باحتفالات وداع أو إطلاق أعيرة نارية أثناء مغادرته القصر أو تحية عسكرية. وجاء الفصل الأخير من فصول العائلة المالكة النيبالية كارثياً، ففي 2001، أقدم ولي العهد المختل عقلياً على قتل تسعة من أفراد الأسرة المالكة قبل أن ينتحر، بسبب غضبه الشديد من منعه من الزواج بحبيبته. أما جيانندرا، الذي يبدي اهتماماً واضحاً بعلم الفلك واقتناء السيارات الفارهة، فقد أظهر احتقاره للبرلمان. ومع تنامي قوة ثورة ماوية اندلعت في الريف، أقدم على حل الحكومة للمرة الأولى عام 2002، ثم أحكم قبضته على السلطة المطلقة بالبلاد عام 2005 ومارس الحكم من خلال إصدار المراسيم الملكية لمدة عام، حتى أجبرته المظاهرات على إعادة البرلمان. ومن المقرر أن يتحول القصر الوردي، الذي شكل مقر خمسة من الملوك النيباليين على امتداد فترة تجاوزت 120 عاماً، إلى متحف يخلد ذكرى ملوك وملكات الحقبة الملكية التي ولت إلى غير رجعة. وفي جنبات المتحف، سيتم عرض التاج المرصع بالماس والعرش ومواد أخرى مرتبطة بالعائلة المالكة. علاوة على ذلك، من المحتمل أن يجري عرض سيارة طراز «مرسيدس بنز» إنتاج عام 1939 قدمها الزعيم النازي أدولف هتلر إلى الملك تريبهوفان، جد جيانندرا، عام 1940 بين المقتنيات النادرة بالمتحف الذي من المتوقع أن يفتح أبوابه للجمهور خلال شهرين. من ناحية أخرى، وخلال لحظة سقوطه عن العرش، أبدى جيانندرا قدرا كبيرا من رباطة الجأش قبل مغادرته القصر الملكي، ووجه خطاباً إلى الشعب عبر مؤتمر صحافي وابتسم لعدد من الصحافيين أثناء رحيله. وقال جيانندرا إنه ساعد المجلس المنتخب في اتخاذ القرارات بإلغاء النظام الملكي ورحيل الأسرة المالكة من القصر. وأعرب عن شعوره بألم عميق إزاء اتهامه بتدبير المذبحة الملكية التي وقعت عام 2001. ولا شك أن تلك كانت لحظة مأساوية في تاريخ هذا الملك السابق البالغ من العمر 60 عاماً والذي تقلد التاج مرتين ـ أولاهما عندما كان في الرابعة من عمره وفر جده من البلاد إلى الهند لتجنب مكائد رئيس وزرائه، وكانت المرة الثانية في يونيو (حزيران) في أعقاب المذبحة التي سقط فيها شقيقه الملك بيريندرا وأسرته. وُلد جيانندرا في يوليو(تموز) 1947 وهو متزوج وله طفلان. ومنذ صدور قرار الحكومة المنتخبة بإلغاء النظام الملكي، لقيَّ الملك معاملة سيئة. على سبيل المثال، قام وزيران من الحكومة النيبالية بتفتيش قصر ناجاريون الذي من المحتمل أن يتخذه الملك السابق مسكناً له بعد رحيله عن القصر، وجاء التفتيش بهدف التأكد من أن المسكن ليس على مستوى الرفاهية التي توقعها الكثيرون. وتجلت الإهانة في السماح للصحافيين ووسائل الإعلام بتغطية جولة التفتيش ونشر الصور للغرفة التي ستصبح الآن غرفة نوم جيانندرا. ومن المتوقع أن يشكل هذا القصر مسكناً مؤقتاً لجيانندرا حتى يعثر على منزل خاص يلائم احتياجاته. يرجع تاريخ بناء قصر ناجاريون إلى عام 1883، حيث تم بناؤه كمنتجع شتوي ومحل للإقامة أثناء فترات ممارسة رياضة الصيد، وفي العام السابق تم تأميم مجمع ناجاريون وسبعة قصور أخرى. وحذر الماويون الأسرة المالكة سابقاً أنه تم السماح لهم بالإقامة في قصر ناجاريون لفترة مؤقتة فحسب، وأنه يتعين عليهم العثور على منزل جديد بسرعة والرحيل عن هذا القصر أيضاً. من ناحية أخرى، ألغت الحكومة المنتخبة الراتب السنوي الذي تحصل عليه الأسرة المالكة من الدولة ويبلغ 3 ملايين دولار (1.5 مليون جنيه إسترليني)، ومن المقرر تحويل القصور السبعة التي تملكها العائلة المالكة إلى متاحف. حتى الملكة تم إجبارها على التخلي عن حاشيتها من خبراء التجميل. إلا أن كلا من الملكة الأم، وهي زوجة والد جيانندرا وعشيقة جده الأكبر، واللتان تقترب أعمارهما من التسعين عاماً، رفضتا الرحيل عن القصر الملكي وتم السماح لهما بالبقاء في منازل صغيرة داخل أسوار حدائق القصر. يذكر أن الترتيبات الراهنة من شأنها تقسيم العائلة المالكة إلى ثلاثة أقسام، يضم أولها جيانندرا وزوجته كومال في قصر ناجاريون، والسيدتين المتقدمتين في العمر في قصر نارايانهيتي والابن باراس مع أسرته في قصر صغير في منطقة نيرمال نيواس. ومن المعروف أن علاقة جيانندرا بنجله باراس، الذي يتسم بتمرده، متردية. وجاء سقوط جيانندرا بطيئاً ومهيناً، حيث تمت إزالة صوره من على أوراق العملة النيبالية واستبدالها بقمة جبل إيفرست. كما تم التخلص من صورة التاج من على الزي الرسمي للقوات المسلحة ليحل محله زهرة روهودودندرون، التي تعد الزهرة الوطنية بالبلاد. وتمت إزالة كلمة ملكية بهدوء من أسماء مؤسسات الدولة، مثل شرطة الطيران الوطنية والجيش. ومع ذلك، فلا تزال جنبات العاصمة النيبالية تشهد جدالاً محتدماً حول ماهية الخطط المستقبلية لجيانندرا، خاصة أنه رغم حرمانه من المميزات والدخول الملكية، فإنه ما زال يتمتع بأصول كبيرة وكان من رجال الأعمال الناجحين قبل جلوسه على عرش البلاد. وتتضمن مشروعاته التجارية فندقاً في العاصمة كاتماندو وضيعة في شرق نيبال ومصنعا لإنتاج التبغ، ويقدر إجمالي قيمتها بـ620 مليون روبية نيبالية. وربما سيوجه الملك السابق اهتمامه مجدداً إلى أنشطته التجارية. وأيضاً من المعتقد أنه ربما يدخل إلى حقل العمل السياسي، بل وربما يقدم على إنشاء حزب سياسي في حال إخفاق الجمهورية الجديدة في إصلاح الأوضاع الاقتصادية المتردية وتلبية تطلعات الشعب. على الجانب الآخر، يسود اعتقاد بين غالبية المحللين بأن مكانة الأسرة المالكة تضررت بصورة بالغة خلال السنوات الست الأخيرة من حكم الملك جيانندرا بدرجة باتت مستعصية على أي محاولات للإصلاح. من ناحيته، كتب كاناك ماني ديكستي، رئيس تحرير إصدار «هيمال»، يقول: «إن الملك الحالي جيانندرا كان العدو الأكبر للنظام الملكي النيبالي بسبب ما اقترفه فيما يتعلق بالسيطرة على السلطة ومحاولة ممارستها بصورة مطلقة، ونظراً لأن الأحزاب السياسية ستخضع لسيطرة المجلس المنتخب، بات يتعين على العائلة المالكة الرحيل». بيد أن هناك انقساما في الشارع النيبالي حول تقييم الحقبة الماضية من تاريخ البلاد. فعلى سبيل المثال، قال أحد المواطنين: «ما اعتاد الملك فعله في وقت سابق كان أمراً جيداً. وإذا ما انتهجت الأحزاب السياسية النهج ذاته وامتنعت عن التشاحن فيما بينها، فسيكون ذلك أمراً طيباً. وإلا، فسيكون الملك أفضل بالنسبة لنا». من جانبها، صورت وسائل الإعلام ما فعله البرلمان الشهر السابق باعتباره نهاية سعيدة لحقبة نيبالية من الآلام، لكن الأمر في حقيقته ليس بهذه البساطة، ذلك أن النظام الملكي، رغم المساوئ التي أصبح عليها، شكل الصمام الذي يربط بين الجماعات العرقية العديدة التي تضمها البلاد والتي يوجد بها 48 لغة ولهجة. ومع غياب هذا الصمام، أصبحت القوة المهيمنة على البلاد الآن هي جماعات حرب العصابات الماوية والتي تسيطر على البرلمان. ويثير رحيل الملك التساؤلات حول مَنْ سيتولى رئاسة البلاد في الفترة المقبلة وما النموذج السياسي الذي ستقره البلاد. من جانبهم، طالب الماويون بنظام جمهوري ورشحوا زعيمهم براتشاندا رئيساً له، بينما تفضل الأحزاب الأصغر إقرار برلمان على غرار ويستمنستر مع انتخاب شخصية بارزة كرأس للدولة.